(الخندق الغميق لسهيل أدريس)(1)
دراسة ونقـد(2)
للشاعرة العراقية الراحلة
نازك الملائكة
دراسة ونقـد(2)
للشاعرة العراقية الراحلة
نازك الملائكة
طباعة وليد محمد الشبيـبي
لعل أعمق ما تعيش به رواية (الخندق الغميق) في نفس قارئها هو الجو السحري المعطّر الذي يحف بها من أولها إلى أخرها.
فهذه رواية ذات نكهة خاصة بها تغلّفها وتترك أثرها المضمّخ في حس القارئ ، فيعيش هناك حتى اذا نسيت الأحداث تفصيلاً ، واللمسة الروحية التي تتغلغل في الرواية كلها تبقينا على صلة بالسحر الذي يشيعه صوت مؤذن منفرد يرفع صوته بـ(سبحان خالق الاصباح..) في غبش فجر شرقي ، في حي من احياء بيروت ذات الطابع العربي الصرف. ونحن لا ننسى قط غلاماً يافعاً متحمّساً يحب الصوت الجميل وينفعل للجو الديني فيفيق على هتاف المؤذن وتسري رعشة في جسمه الصغير اذ يصغي، ولا نغفل عن هذا الغلام وقد كبر وتفتحت عواطفه فبات يخرج إلى الشرفة ويؤذن بأعلى صوته العذب، لا ليؤدي واجب الآذان ، وانما لكي ينبّه الحبيبة الغافلة في بيت الجيران. وبعين الخيال نرى هذا المراهق يصعد إلى مسجد المدرسة ويصلّي ركعتين ويبتهل إلى الله بحرارة ان يحفظ له حبيبته ويعيدها إليه. ان سحر العاطفة الدينية الحقة التي تنبع من أعماق الشعور الإنساني الفطري تواكب أحداث هذه الرواية ، ذلك على الرغم من ان بطلها كان متمرّداً ثائراً على ما يلوح انه الجو الديني ، وهو في الواقع ، جو بعض ذوي التزمت والجمود من الشيوخ.
ولقد ساهم أسلوب سهيل أدريس ، بما يتصف به من اشراق وتنغيم وتعبيرية عالية غير عادية ، في تكثيف هذا الجو الروحي المرهف ، فكانت الكلمات تضيف إلى الشعرية التي تغلب على الرواية ، حتى نستطيع ان نقول ان للأثر الروحي الذي تركته مشاهد قرية (المريجات) ، ونبرات صوت المؤذن في سكون الليل ، لا تزيد على الأثر الذي تتركه لغة الرواية . والواقع ان سهيل أدريس يملك في انتاجه كله ، قدرة خاصة متميزة على أختيار الكلمات المعبّرة التي تشخّص المعاني تشخيصاً نادر المثيل. تلك صفة أسلوبه ، وهي تبرز في (الخندق الغميق) وتبلغ أوجها.
أننا نلح ، في هذه التوطئة ، على الجانب الجمالي ، من الرواية لانه يبدو لنا خاصة بارزة لها. وقد يكون ذلك مرتبطاً بأصالة الموضوع الذي عالجه المؤلف ، وهو موضوع غني بالعاطفة الشرقية الجزلة والحرارة التي تمتاز بها حياتنا العربية الخالصة. ان هؤلاء الناس الذين يتناولهم سهيل أناس شرقيون فيهم بساطتنا وعاطفيتنا وأخطاؤنا وضعفنا. وما أكثر الذين يتحكّم فيهم آباؤهم كما تحكّم هذا الأب المتسلّط في حياة سامي. لذلك تقرأ ، بعطف وتفهّم ، سيرة هذا الغلام الموهوب ، الممتلئ بالحياة ، المتعطّش للمعرفة والحركة ، الذي يذهب ضحية لبساطة أبيه وتعسّفه ، فيخطئ فهم نفسه ويسيء تحديد هدفه وينخرط في جو مشيخة متزمتة متصنّعة لا تنسجم مع روحيته ولا مع حركات ذهنه. ورواية (الخندق الغميق) تقص علينا قصة كفاح الغلام من أجل ان يعود إلى الطريق الذي أضاعه ويتلمّس السبيل ، ثانيةً ، إلى النور والحياة.
فهذه رواية ذات نكهة خاصة بها تغلّفها وتترك أثرها المضمّخ في حس القارئ ، فيعيش هناك حتى اذا نسيت الأحداث تفصيلاً ، واللمسة الروحية التي تتغلغل في الرواية كلها تبقينا على صلة بالسحر الذي يشيعه صوت مؤذن منفرد يرفع صوته بـ(سبحان خالق الاصباح..) في غبش فجر شرقي ، في حي من احياء بيروت ذات الطابع العربي الصرف. ونحن لا ننسى قط غلاماً يافعاً متحمّساً يحب الصوت الجميل وينفعل للجو الديني فيفيق على هتاف المؤذن وتسري رعشة في جسمه الصغير اذ يصغي، ولا نغفل عن هذا الغلام وقد كبر وتفتحت عواطفه فبات يخرج إلى الشرفة ويؤذن بأعلى صوته العذب، لا ليؤدي واجب الآذان ، وانما لكي ينبّه الحبيبة الغافلة في بيت الجيران. وبعين الخيال نرى هذا المراهق يصعد إلى مسجد المدرسة ويصلّي ركعتين ويبتهل إلى الله بحرارة ان يحفظ له حبيبته ويعيدها إليه. ان سحر العاطفة الدينية الحقة التي تنبع من أعماق الشعور الإنساني الفطري تواكب أحداث هذه الرواية ، ذلك على الرغم من ان بطلها كان متمرّداً ثائراً على ما يلوح انه الجو الديني ، وهو في الواقع ، جو بعض ذوي التزمت والجمود من الشيوخ.
ولقد ساهم أسلوب سهيل أدريس ، بما يتصف به من اشراق وتنغيم وتعبيرية عالية غير عادية ، في تكثيف هذا الجو الروحي المرهف ، فكانت الكلمات تضيف إلى الشعرية التي تغلب على الرواية ، حتى نستطيع ان نقول ان للأثر الروحي الذي تركته مشاهد قرية (المريجات) ، ونبرات صوت المؤذن في سكون الليل ، لا تزيد على الأثر الذي تتركه لغة الرواية . والواقع ان سهيل أدريس يملك في انتاجه كله ، قدرة خاصة متميزة على أختيار الكلمات المعبّرة التي تشخّص المعاني تشخيصاً نادر المثيل. تلك صفة أسلوبه ، وهي تبرز في (الخندق الغميق) وتبلغ أوجها.
أننا نلح ، في هذه التوطئة ، على الجانب الجمالي ، من الرواية لانه يبدو لنا خاصة بارزة لها. وقد يكون ذلك مرتبطاً بأصالة الموضوع الذي عالجه المؤلف ، وهو موضوع غني بالعاطفة الشرقية الجزلة والحرارة التي تمتاز بها حياتنا العربية الخالصة. ان هؤلاء الناس الذين يتناولهم سهيل أناس شرقيون فيهم بساطتنا وعاطفيتنا وأخطاؤنا وضعفنا. وما أكثر الذين يتحكّم فيهم آباؤهم كما تحكّم هذا الأب المتسلّط في حياة سامي. لذلك تقرأ ، بعطف وتفهّم ، سيرة هذا الغلام الموهوب ، الممتلئ بالحياة ، المتعطّش للمعرفة والحركة ، الذي يذهب ضحية لبساطة أبيه وتعسّفه ، فيخطئ فهم نفسه ويسيء تحديد هدفه وينخرط في جو مشيخة متزمتة متصنّعة لا تنسجم مع روحيته ولا مع حركات ذهنه. ورواية (الخندق الغميق) تقص علينا قصة كفاح الغلام من أجل ان يعود إلى الطريق الذي أضاعه ويتلمّس السبيل ، ثانيةً ، إلى النور والحياة.
موضوع الرواية
هناك مشكلتان نحب أن نقف عندهما ونحن نتحدث عن موضوع (الخندق الغميق) (أولاهما) هي أتجاه الصراع الذي تقوم عليه حبكة الأحداث ، فبين من ومن قام ذلك الصراع ؟ وماذا كان الغرض منه ؟
لقد كتب أكثر من ناقد واحد ممن تناول الرواية بالدراسة انها تروي قصة الصراع بين جيلين. ومعنى ذلك ان الصراع انما قام بين سامي وأبيه. غير اننا اذا أمعنّا النظر في الأحداث التي وضعها المؤلف بين أيدينا فسنجد انها لا تؤيد هذا الرأي. فهل حال الأب حقاً دون ان يترك سامي المشيخة حين أراد هو ذلك ؟ أم هل أستطاع هذا الأب المغلوب على أمره أن يمتع أبنته من خلع الحجاب ومواصلة دراستها ؟ في الحق ، لا . وانما كان المشكل الحقيقي ان يريد سامي نفسه أو لا يريد. ونحن قد عرفنا سامي ، عبر فصول الرواية ، إنساناً عنيداً يحكم ارادته في كل موقف ، وذلك يجعل كل عائق خارج عن نفسه تافهاً ثانوي الأهمية. ولقد كان أبوه عاجزاً عن ردعه عن أي شيء ، وأنتصر سامي في كل صراع خاضه. فعلام يدل ذلك ؟ وأين ذلك الصراع بين الجيلين ؟
لا بد لنا ، لكي نجيب عن هذا السؤال ، أن نلاحظ ان سامي الذي يفترض انه يمثل الجيل الجديد الطالع انما ينطوي هو نفسه على كثير من روحية الجيل الذي يقاومه. أننا نراه ، في الرواية ، يرتعش أنفعالاً لفكرة المعهد الديني ، ونسمعه يحدّثنا حديثاً شعرياً عن سماعه لآذان الفجر بخشوع عميق يبلغ درجة النشوة ، ونراه يتعطّش أشد التعطّش إلى ان يلبس الجبة ويضع العمامة (تاج العرب) على رأسه. وكل ذلك يدل على أن عواطف الجيل السابق وتقاليده كانت متأصلة في نفسه، أو انها – كما سنرى – تنبع من منبع شخصي في نفسه هو. وانما يقوم الصراع في أعماق ذهن سامي نفسه ، فيواجه الأسئلة الأخلاقية التي تحيّره وتبلبل تفكيره مما سنقف عنده حين سنحلل شخصيته. ولسوف نرى ان سامي انما كان ثائراً على نفسه أكثر مما كان ثائراً على أبيه ، وكان التغلّب على ممانعة أبيه أيسر بكثير من التغلّب على المقاومة الداخلية التي كان يحسّها في روحه.
لقد كان سامي يحتاج إلى أن ينمو ليغلب كل ما كان يمثل الجيل السابق في تكوينه النفسي والعاطفي ولم يكن أبوه الا عائقاً خارجياً عارضاً. وقد تميّز سامي بالصلابة وبأنه، كما يقول الشاعر ، اذا هم .. أمضى عزمه غير جازع. غير أنه لم يكن يستطيع أن يكون صلباً الا حين يدرس الأشياء ببطء ويقتنع بها.
فقد رأيناه عنيداً كل العناد حين أراد أن يلبس الجبة والعمامة مع رفقائه ، وقد عاند وخالف أمه بنفس الصلابة حين دخل المعهد الديني. والواقع أنه أراد أن يكون شيخاً ولم يكن لأحد تأثير عليه. ثم بدأ ، فيما بعد ، ينتفض ويغير أتجاه ارادته ، وقد أقتضاه التطور الكامل عدة سنوات ، ومن ثم واجه ارادته الكامنة الحقة.
وأما المشكلة الثانية فهي مشكلة تثيرها قصص سهيل أدريس ورواياته عموماً وهي ما أسميه بمشكلة سير الحياة ، ان سهيل ، كما هو معروف عنه ، يستمد الكثير من وقائع رواياته من حياته الشخصية. وذلك شئ لا يعني القارئ الموضوعي ولا الناقد ، فمن حق أي مؤلف أن يكتب حياته في قصص ما دام يضع ذلك في الإطار الفني المقبول ، وما دام لا يخرج به عن الحدود الطبيعية للرواية . ذلك ان المنبع الوحيد للرواية الحقة هو الحياة ، وتفاصيل حياة المؤلف لا تخرج عن حدود الحياة ، فمن الطبيعي اذن ان تدور رواية (الخندق الغميق) على سيرة مؤلفها .. وليس من أعتراض قط على ما تقصه علينا الرواية من الحكايات عن طفولة المؤلف والمعهد الديني الذي درس فيه ، وعلى ما وصف من ملامح أبويه وربما بعض أخوته مثل هدى. كل ذلك قد كان جميلاً ما دام قد أحتوى على الملامح الفنية للرواية الجديدة وقدم لنا حبكة مثيرة وأشخاصاً ذوي حيوية يملكون من الأصالة ما يجعلهم يساعدون في بناء رواية ذات جو. وأنه لواضح أنه ما دامت الأبعاد الفنية للرواية مكتملة فأن السؤال عن علاقة هذه الأحداث بحياة المؤلف الواقعية يصبح سؤالاً متطفّلاً لا حق للناقد بأن يلقيه.
وانما تأتي واقعية الرواية ، لا من انها قد وقعت فعلاً في الحياة ، وانما من انها قد وقعت في داخل الرواية نفسها. أننا بهذا الحكم نميّز ، في الواقع ، بين دائرتين تقع فيهما الأحداث : دائرة الحياة ودائرة العمل الفني ، وكل دائرة منهما مستقلة عن الأخرى تمام الأستقلال ، ويكون الخط الفاصل من القوة بحيث يصبح من المعقول تماماً أن يقع الحادث في الحياة الفعلية مع ذلك يبدو غير واقعي حين يدخله المؤلف في روايته ، ولقد وقعت في سياق (الخندق الغميق) بعض من هذه الأحداث غير الواقعية فأساء ورودها إلى تماسك العمل الفني وأحدث تخلخلاً في بعض جهاته. والحق ان الأحداث التي يمكن سردها في سيرة حياة المؤلف ليست كلها مما يمكن سرده في رواية مشتقة من هذه السيرة. وسبب ذلك هو الفرق بين (سيرة الحياة) و(الرواية) فالأولى هي الحياة نفسها بلا تشذيب ، وأما الثانية فهي الحياة مصوغة في اطار فني ، وذلك يخضعها لكثير من الحذف والتركيز والتلوين لكي يكتمل العمل الأدبي.
ان خير نماذج هذا الخروج من السياق الروائي إلى سياق سيرة الحياة هي اشارة المؤلف(3) إلى الحرب العالمية الثانية ، نحن نحب ان نقف عند هذه الاشارة وندرس علاقتها بأحداث الرواية من الناحية الفنية. وسوف نلاحظ أولاً ان ايراد الحرب العالمية الثانية في خط الأحداث في الرواية يفيد التوقيت ، اذا أردنا أبسط الفوائد ، فما يكاد سهيل يقول (كانت قد مرّت عليهما ثلاثة أيام حين أعلنت الحرب العالمية الثانية.) حتى نعلم ان الشخصين المشار اليهما قد غادرا قرية المريجات بتاريخ 27/8/1939 وذلك لأن تاريخ اعلان الحرب معروف لنا جميعاً. والسؤال الآن هو: إلى أي حد كانت رواية (الخندق الغميق) تحتاج إلى هذا التوقيت ؟ وماذا تخسر اذا نحن حذفناه ؟
في الواقع ان (الخندق الغميق) ليست رواية تاريخية لان أحداثها لا تقوم على التواريخ وهي أصلاً لم تبدأ بتأريخ ، وقد كان المؤلف مصيباً عندما لم يشر فيها قط إلى تاريخ السنة التي دخل فيها بطله المعهد أو أي تاريخ آخر غير ذلك. ولذلك تصبح ناحية التوقيت ضعيفة. ونحن نقطع هنا ثقة ان سهيل لم يقصد إليها ولم يحاول ان يعطينا تاريخ مغادرة بطله للمريجات حين ذكر الحرب. فلماذا اذن ذكرها ؟
لعل بعض القراء سينبرون للرد على هذا السؤال قائلين بحرارة انه ما من شيء على الاطلاق يمنع المؤلف من الاشارة إلى الحرب العالمية الثانية ، فما دام ذلك قد وقع في الحياة فان ذكره في الرواية سيزيدها واقعية ويشعرنا بأنها رواية حية أصيلة تنبض بالصدق والأصالة ، ولسوف يحتج علينا أكثر من قارئ متحمّس قائلاً: ألا يجوز اذن ان نذكر الحرب في رواية من الروايات ؟ أو ليست الحرب حادثاً من الأحداث ؟ أو لم تهز حياة الملايين من النس في وطننا العربي الكبير ؟ لماذا اذن ، وبأي حق نطردها من مملكة الفن الروائي هذا الطرد ؟ ولماذا ينبغي لنا أن نسمح لسهيل ان يحدّثنا بكل حرية عن مغامراته العاطفية مع بنت الجيران ونعتبر ذلك واقعياً ، بينما ننتقد حديثه عن الحرب ونسميه اقحاماً لا صلة له بأحداث الرواية ؟
في الحق ان السؤال يبدو وجيهاً ، ولكن هذه الوجاهة ، لو دققنا ، ظاهرية وحسب. أننا ، مع القارئ ، في ان الحرب العالمية في ذاتها ، لا تمتنع ان تكون موضوعاً لرواية عظيمة. لا بل أننا نزيد فنقول انها تصلح لأن تكون منبعاً لأعظم الروايات ، وفي امكان سهي لان يدخلها في سياق (الخندق الغميق) بمنتهى الحرية والأصالة والجمال. ذلك كله حق. وانما أعتراضنا هو على مدى صلة هذه الحرب بأحداث الرواية ، على ما هي بين أيدينا الآن. وبكلمة أخرى ، ما مدى واقعية الحرب العالمية الثانية في داخل رواية (الخندق الغميق) ؟ وهل تكفي الواقعية الضخمة التي تملكها هذه الحرب في نفوسنا لجعلها على مثل تلك الواقعية في رواية سهيل ؟
أما جوابنا القاطع هو النفي . ونحن نجزم بان هذه الحرب التي تملك كل الواقعية في أذهاننا ونفوسنا ، قد تجرّدت من واقعيتها في رواية (الخندق الغميق) ، وبدلاً من ان تعطي صفة الصدق إلى الأحداث ساهمت في تبديد بعض الواقعية الجميلة التي حفلت بها الرواية. وسبب ذلك ان الحياة الواسعة الكبرى قد أعطت للحرب صفتها الواقعية في نفوسنا بما عانينا نحن منها ومن أهوالها سنين ، وبما تركت من آثار في أرضنا وأفكارنا وعواطفنا ، وأما في رواية سهيل فان هذه الحرب لا تعيش ، لا تتنفس وانما يأتي ذكرها في موضعين عابرين ثم تغيب نهائياً(4). أننا لا نراها تؤثر أي تأثير في حياة سامي أو أهله فلا نسمع مثلاً أن الحبيبة قد قتل أبوها بشظية قنبلة فأضطرها ذلك إلى الأبتعاد عن سامي لسبب من الأسباب ، ولا نرى هذه الحرب تتسبب في تشريد أسرة سميا أو سامي بحيث يصبح ممكناً أن نقول انها غيّرت مجرى حياة الأشخاص ولذلك أوردها المؤلف. لا ، لم يكن للحرب أي من هذه التأثيرات . ولو كان لها لأصبحت جزءً واقعياً من الرواية وكان ذلك سينزع عنها صفة التاريخ ويجعلها فناً. وأما وهي قد وردت هذا الورود العابر الذي نزع عنها أهميتها الفظيعة ، فانها قد أصبحت ، ولا ريب ، في مستوى حمى التيفوئيد التي أصيب بها سامي عند دخوله الكلية(5) فلم يشر إليها الا اشارة عابرة في سطرين ثم لم نسمع بها ثانية.
ان المؤلف ، اذا تأملنا موقفه ، انما أورد هذه الأحداث لمجرد انها قد وقعت فعلاً في حياته ، ولقد أجتذبته الواقعية العميقة التي تلتصق بها في نفسه فأدخلها إلى روايته ، ناسياً أن يجعلها (تقع) أولاً في داخل الأحداث التي كتبها وبذلك يسبغ عليها واقعيتها الفنية. والواقع أنه لا يكفي ، لكي تكون أحداث الرواية واقعية ، أن تكون تلك الأحداث قد وقعت فعلاً في حياة المؤلف ، وانما ينبغي أن يتكرر حدوث هذه الأحداث في سياق الرواية وكأنها لم تحدث قبل ، وكأن البطل يعانيها لأول مرة ، وكأن القارئ لا يعرف عنها شيئاً. وذلك لأن البطل انما يعيش في أحداث الرواية نفسها ولا صلة له بالحياة الحقة التي يرمز إليها بالنسبة للمؤلف. وانما الرواية دنيا مستقلة منفصلة لها زمانها ومكانها وأشخاصها. ان زمننا الخارجي الذي نعرفه غريب فيها ولا معنى له ولا كيان ، ولذلك لا يحق لنا أن نقحم أي جانب منه في داخلها. أن المؤلف الذي يكتب رواية يخلق دنيا جديدة وزمناً جديداً ويدير أحداثاً لم تقع قبل ولم تخطر على بال إنسان ، وانما تقع الآن بتأثيرات تنبع من أحداث الرواية نفسها ، وتؤدي إلى نتائج تقع ضمن تلك الأحداث. وعند ذاك تلوح الأحداث كلها (ضرورية) لا مفر من وقوعها ، وتصبح الحرب نفسها مبررة.
وانما تكمن صفة الواقعية ، سواء أفي الفن أم في الحياة ، في ان الأحداث تلوح (ضرورية) بحيث اذا حذفناها تغيّر وجه التاريخ كله ، تاريخنا نحن أو تاريخ البطل الذي تدور حوله الرواية ، فاذا قال لنا سهيل أن سامي قد أصيب بالتيفوئيد ، ثم ترك ذلك الحادث وأهمله أهمالاً تاماً يجعل له تأثيراً فعلياً في حياة سامي بعده ، فأنه بذلك ينزع صفة الواقعية عن الحادث لأنه يجعله يبدو (غير ضروري). وما ذلك الا لأن حمّى التيفوئيد حين تصيبنا في الحياة تترك آثاراً عميقة لا تمحى في كياننا وشخصياتنا وعواطفنا . ان الطفلة ذات الشعر الغزير الذي يتساقط على كتفيها حتى تضيق به أمها ، قد تصاب بالتيفوئيد فيسقط شعرها وتتغير طبيعته ويفقد لونه ، وهذه الطفلة قد تصبح من رهافة العاطفة ، بعد هذا المرض ، بحيث يؤثر ذلك في دراستها ويحولها من أتجاه إلى أتجاه. وذلك كله وغيره يعطي لمرض التيفوئيد صفة (الضرورة) حين يقع لنا في الحياة الحقة. وحين ننظر إلى الوراء نراه حادثاً محتوماً ، وندرك أنه ، لو لم يقع لنا ، لكانت حياتنا شيئاً آخر. وذلك يجعل التيفوئيد شيئاً واقعياً جداً. ولذلك ينبغي ، حين نكتب الرواية ، ونشير إلى اصابة البطل بالتيفوئيد ان نمد لهذا المرض المزعج سبيلاً كاملاً يمتد فيه بحيث يترك أثاره في أحداث الرواية بكل ما فيه من أزعاج وهز للنفس والفكر والحياة. وبذلك وحسب يصبح التيفوئيد واقعياً ويكتسب أبعاده الكاملة.
لقد أطلنا في شرح هذه النقطة لانها وردت في عدة مواضيع من (الخندق الغميق) ومنها ذلك الفصل الذي أستعرض فيه المؤلف ذكريات حياته المدرسية في المعهد الديني(6) وهو في ذاته طريف الا أنه لا يضيف إلى أحداث الرواية شيئاً ولا يلقي حتى لمسة تحليل على سيرة سامي نفسه. والظاهر ان هذه الذكريات عزيزة على المؤلف لأنها جزء من حياته المدرسية ولذلك وجد لذة في سردها. غير ان تلك شيء وسياق الرواية شيء آخر.
ولقد كان في الخندق الغميق أشخاص غير ضروريين مثل (عبد الكريم) و(سامية) وسوف نعرض لهذا حين نتناول تحليل الأشخاص.
لقد كتب أكثر من ناقد واحد ممن تناول الرواية بالدراسة انها تروي قصة الصراع بين جيلين. ومعنى ذلك ان الصراع انما قام بين سامي وأبيه. غير اننا اذا أمعنّا النظر في الأحداث التي وضعها المؤلف بين أيدينا فسنجد انها لا تؤيد هذا الرأي. فهل حال الأب حقاً دون ان يترك سامي المشيخة حين أراد هو ذلك ؟ أم هل أستطاع هذا الأب المغلوب على أمره أن يمتع أبنته من خلع الحجاب ومواصلة دراستها ؟ في الحق ، لا . وانما كان المشكل الحقيقي ان يريد سامي نفسه أو لا يريد. ونحن قد عرفنا سامي ، عبر فصول الرواية ، إنساناً عنيداً يحكم ارادته في كل موقف ، وذلك يجعل كل عائق خارج عن نفسه تافهاً ثانوي الأهمية. ولقد كان أبوه عاجزاً عن ردعه عن أي شيء ، وأنتصر سامي في كل صراع خاضه. فعلام يدل ذلك ؟ وأين ذلك الصراع بين الجيلين ؟
لا بد لنا ، لكي نجيب عن هذا السؤال ، أن نلاحظ ان سامي الذي يفترض انه يمثل الجيل الجديد الطالع انما ينطوي هو نفسه على كثير من روحية الجيل الذي يقاومه. أننا نراه ، في الرواية ، يرتعش أنفعالاً لفكرة المعهد الديني ، ونسمعه يحدّثنا حديثاً شعرياً عن سماعه لآذان الفجر بخشوع عميق يبلغ درجة النشوة ، ونراه يتعطّش أشد التعطّش إلى ان يلبس الجبة ويضع العمامة (تاج العرب) على رأسه. وكل ذلك يدل على أن عواطف الجيل السابق وتقاليده كانت متأصلة في نفسه، أو انها – كما سنرى – تنبع من منبع شخصي في نفسه هو. وانما يقوم الصراع في أعماق ذهن سامي نفسه ، فيواجه الأسئلة الأخلاقية التي تحيّره وتبلبل تفكيره مما سنقف عنده حين سنحلل شخصيته. ولسوف نرى ان سامي انما كان ثائراً على نفسه أكثر مما كان ثائراً على أبيه ، وكان التغلّب على ممانعة أبيه أيسر بكثير من التغلّب على المقاومة الداخلية التي كان يحسّها في روحه.
لقد كان سامي يحتاج إلى أن ينمو ليغلب كل ما كان يمثل الجيل السابق في تكوينه النفسي والعاطفي ولم يكن أبوه الا عائقاً خارجياً عارضاً. وقد تميّز سامي بالصلابة وبأنه، كما يقول الشاعر ، اذا هم .. أمضى عزمه غير جازع. غير أنه لم يكن يستطيع أن يكون صلباً الا حين يدرس الأشياء ببطء ويقتنع بها.
فقد رأيناه عنيداً كل العناد حين أراد أن يلبس الجبة والعمامة مع رفقائه ، وقد عاند وخالف أمه بنفس الصلابة حين دخل المعهد الديني. والواقع أنه أراد أن يكون شيخاً ولم يكن لأحد تأثير عليه. ثم بدأ ، فيما بعد ، ينتفض ويغير أتجاه ارادته ، وقد أقتضاه التطور الكامل عدة سنوات ، ومن ثم واجه ارادته الكامنة الحقة.
وأما المشكلة الثانية فهي مشكلة تثيرها قصص سهيل أدريس ورواياته عموماً وهي ما أسميه بمشكلة سير الحياة ، ان سهيل ، كما هو معروف عنه ، يستمد الكثير من وقائع رواياته من حياته الشخصية. وذلك شئ لا يعني القارئ الموضوعي ولا الناقد ، فمن حق أي مؤلف أن يكتب حياته في قصص ما دام يضع ذلك في الإطار الفني المقبول ، وما دام لا يخرج به عن الحدود الطبيعية للرواية . ذلك ان المنبع الوحيد للرواية الحقة هو الحياة ، وتفاصيل حياة المؤلف لا تخرج عن حدود الحياة ، فمن الطبيعي اذن ان تدور رواية (الخندق الغميق) على سيرة مؤلفها .. وليس من أعتراض قط على ما تقصه علينا الرواية من الحكايات عن طفولة المؤلف والمعهد الديني الذي درس فيه ، وعلى ما وصف من ملامح أبويه وربما بعض أخوته مثل هدى. كل ذلك قد كان جميلاً ما دام قد أحتوى على الملامح الفنية للرواية الجديدة وقدم لنا حبكة مثيرة وأشخاصاً ذوي حيوية يملكون من الأصالة ما يجعلهم يساعدون في بناء رواية ذات جو. وأنه لواضح أنه ما دامت الأبعاد الفنية للرواية مكتملة فأن السؤال عن علاقة هذه الأحداث بحياة المؤلف الواقعية يصبح سؤالاً متطفّلاً لا حق للناقد بأن يلقيه.
وانما تأتي واقعية الرواية ، لا من انها قد وقعت فعلاً في الحياة ، وانما من انها قد وقعت في داخل الرواية نفسها. أننا بهذا الحكم نميّز ، في الواقع ، بين دائرتين تقع فيهما الأحداث : دائرة الحياة ودائرة العمل الفني ، وكل دائرة منهما مستقلة عن الأخرى تمام الأستقلال ، ويكون الخط الفاصل من القوة بحيث يصبح من المعقول تماماً أن يقع الحادث في الحياة الفعلية مع ذلك يبدو غير واقعي حين يدخله المؤلف في روايته ، ولقد وقعت في سياق (الخندق الغميق) بعض من هذه الأحداث غير الواقعية فأساء ورودها إلى تماسك العمل الفني وأحدث تخلخلاً في بعض جهاته. والحق ان الأحداث التي يمكن سردها في سيرة حياة المؤلف ليست كلها مما يمكن سرده في رواية مشتقة من هذه السيرة. وسبب ذلك هو الفرق بين (سيرة الحياة) و(الرواية) فالأولى هي الحياة نفسها بلا تشذيب ، وأما الثانية فهي الحياة مصوغة في اطار فني ، وذلك يخضعها لكثير من الحذف والتركيز والتلوين لكي يكتمل العمل الأدبي.
ان خير نماذج هذا الخروج من السياق الروائي إلى سياق سيرة الحياة هي اشارة المؤلف(3) إلى الحرب العالمية الثانية ، نحن نحب ان نقف عند هذه الاشارة وندرس علاقتها بأحداث الرواية من الناحية الفنية. وسوف نلاحظ أولاً ان ايراد الحرب العالمية الثانية في خط الأحداث في الرواية يفيد التوقيت ، اذا أردنا أبسط الفوائد ، فما يكاد سهيل يقول (كانت قد مرّت عليهما ثلاثة أيام حين أعلنت الحرب العالمية الثانية.) حتى نعلم ان الشخصين المشار اليهما قد غادرا قرية المريجات بتاريخ 27/8/1939 وذلك لأن تاريخ اعلان الحرب معروف لنا جميعاً. والسؤال الآن هو: إلى أي حد كانت رواية (الخندق الغميق) تحتاج إلى هذا التوقيت ؟ وماذا تخسر اذا نحن حذفناه ؟
في الواقع ان (الخندق الغميق) ليست رواية تاريخية لان أحداثها لا تقوم على التواريخ وهي أصلاً لم تبدأ بتأريخ ، وقد كان المؤلف مصيباً عندما لم يشر فيها قط إلى تاريخ السنة التي دخل فيها بطله المعهد أو أي تاريخ آخر غير ذلك. ولذلك تصبح ناحية التوقيت ضعيفة. ونحن نقطع هنا ثقة ان سهيل لم يقصد إليها ولم يحاول ان يعطينا تاريخ مغادرة بطله للمريجات حين ذكر الحرب. فلماذا اذن ذكرها ؟
لعل بعض القراء سينبرون للرد على هذا السؤال قائلين بحرارة انه ما من شيء على الاطلاق يمنع المؤلف من الاشارة إلى الحرب العالمية الثانية ، فما دام ذلك قد وقع في الحياة فان ذكره في الرواية سيزيدها واقعية ويشعرنا بأنها رواية حية أصيلة تنبض بالصدق والأصالة ، ولسوف يحتج علينا أكثر من قارئ متحمّس قائلاً: ألا يجوز اذن ان نذكر الحرب في رواية من الروايات ؟ أو ليست الحرب حادثاً من الأحداث ؟ أو لم تهز حياة الملايين من النس في وطننا العربي الكبير ؟ لماذا اذن ، وبأي حق نطردها من مملكة الفن الروائي هذا الطرد ؟ ولماذا ينبغي لنا أن نسمح لسهيل ان يحدّثنا بكل حرية عن مغامراته العاطفية مع بنت الجيران ونعتبر ذلك واقعياً ، بينما ننتقد حديثه عن الحرب ونسميه اقحاماً لا صلة له بأحداث الرواية ؟
في الحق ان السؤال يبدو وجيهاً ، ولكن هذه الوجاهة ، لو دققنا ، ظاهرية وحسب. أننا ، مع القارئ ، في ان الحرب العالمية في ذاتها ، لا تمتنع ان تكون موضوعاً لرواية عظيمة. لا بل أننا نزيد فنقول انها تصلح لأن تكون منبعاً لأعظم الروايات ، وفي امكان سهي لان يدخلها في سياق (الخندق الغميق) بمنتهى الحرية والأصالة والجمال. ذلك كله حق. وانما أعتراضنا هو على مدى صلة هذه الحرب بأحداث الرواية ، على ما هي بين أيدينا الآن. وبكلمة أخرى ، ما مدى واقعية الحرب العالمية الثانية في داخل رواية (الخندق الغميق) ؟ وهل تكفي الواقعية الضخمة التي تملكها هذه الحرب في نفوسنا لجعلها على مثل تلك الواقعية في رواية سهيل ؟
أما جوابنا القاطع هو النفي . ونحن نجزم بان هذه الحرب التي تملك كل الواقعية في أذهاننا ونفوسنا ، قد تجرّدت من واقعيتها في رواية (الخندق الغميق) ، وبدلاً من ان تعطي صفة الصدق إلى الأحداث ساهمت في تبديد بعض الواقعية الجميلة التي حفلت بها الرواية. وسبب ذلك ان الحياة الواسعة الكبرى قد أعطت للحرب صفتها الواقعية في نفوسنا بما عانينا نحن منها ومن أهوالها سنين ، وبما تركت من آثار في أرضنا وأفكارنا وعواطفنا ، وأما في رواية سهيل فان هذه الحرب لا تعيش ، لا تتنفس وانما يأتي ذكرها في موضعين عابرين ثم تغيب نهائياً(4). أننا لا نراها تؤثر أي تأثير في حياة سامي أو أهله فلا نسمع مثلاً أن الحبيبة قد قتل أبوها بشظية قنبلة فأضطرها ذلك إلى الأبتعاد عن سامي لسبب من الأسباب ، ولا نرى هذه الحرب تتسبب في تشريد أسرة سميا أو سامي بحيث يصبح ممكناً أن نقول انها غيّرت مجرى حياة الأشخاص ولذلك أوردها المؤلف. لا ، لم يكن للحرب أي من هذه التأثيرات . ولو كان لها لأصبحت جزءً واقعياً من الرواية وكان ذلك سينزع عنها صفة التاريخ ويجعلها فناً. وأما وهي قد وردت هذا الورود العابر الذي نزع عنها أهميتها الفظيعة ، فانها قد أصبحت ، ولا ريب ، في مستوى حمى التيفوئيد التي أصيب بها سامي عند دخوله الكلية(5) فلم يشر إليها الا اشارة عابرة في سطرين ثم لم نسمع بها ثانية.
ان المؤلف ، اذا تأملنا موقفه ، انما أورد هذه الأحداث لمجرد انها قد وقعت فعلاً في حياته ، ولقد أجتذبته الواقعية العميقة التي تلتصق بها في نفسه فأدخلها إلى روايته ، ناسياً أن يجعلها (تقع) أولاً في داخل الأحداث التي كتبها وبذلك يسبغ عليها واقعيتها الفنية. والواقع أنه لا يكفي ، لكي تكون أحداث الرواية واقعية ، أن تكون تلك الأحداث قد وقعت فعلاً في حياة المؤلف ، وانما ينبغي أن يتكرر حدوث هذه الأحداث في سياق الرواية وكأنها لم تحدث قبل ، وكأن البطل يعانيها لأول مرة ، وكأن القارئ لا يعرف عنها شيئاً. وذلك لأن البطل انما يعيش في أحداث الرواية نفسها ولا صلة له بالحياة الحقة التي يرمز إليها بالنسبة للمؤلف. وانما الرواية دنيا مستقلة منفصلة لها زمانها ومكانها وأشخاصها. ان زمننا الخارجي الذي نعرفه غريب فيها ولا معنى له ولا كيان ، ولذلك لا يحق لنا أن نقحم أي جانب منه في داخلها. أن المؤلف الذي يكتب رواية يخلق دنيا جديدة وزمناً جديداً ويدير أحداثاً لم تقع قبل ولم تخطر على بال إنسان ، وانما تقع الآن بتأثيرات تنبع من أحداث الرواية نفسها ، وتؤدي إلى نتائج تقع ضمن تلك الأحداث. وعند ذاك تلوح الأحداث كلها (ضرورية) لا مفر من وقوعها ، وتصبح الحرب نفسها مبررة.
وانما تكمن صفة الواقعية ، سواء أفي الفن أم في الحياة ، في ان الأحداث تلوح (ضرورية) بحيث اذا حذفناها تغيّر وجه التاريخ كله ، تاريخنا نحن أو تاريخ البطل الذي تدور حوله الرواية ، فاذا قال لنا سهيل أن سامي قد أصيب بالتيفوئيد ، ثم ترك ذلك الحادث وأهمله أهمالاً تاماً يجعل له تأثيراً فعلياً في حياة سامي بعده ، فأنه بذلك ينزع صفة الواقعية عن الحادث لأنه يجعله يبدو (غير ضروري). وما ذلك الا لأن حمّى التيفوئيد حين تصيبنا في الحياة تترك آثاراً عميقة لا تمحى في كياننا وشخصياتنا وعواطفنا . ان الطفلة ذات الشعر الغزير الذي يتساقط على كتفيها حتى تضيق به أمها ، قد تصاب بالتيفوئيد فيسقط شعرها وتتغير طبيعته ويفقد لونه ، وهذه الطفلة قد تصبح من رهافة العاطفة ، بعد هذا المرض ، بحيث يؤثر ذلك في دراستها ويحولها من أتجاه إلى أتجاه. وذلك كله وغيره يعطي لمرض التيفوئيد صفة (الضرورة) حين يقع لنا في الحياة الحقة. وحين ننظر إلى الوراء نراه حادثاً محتوماً ، وندرك أنه ، لو لم يقع لنا ، لكانت حياتنا شيئاً آخر. وذلك يجعل التيفوئيد شيئاً واقعياً جداً. ولذلك ينبغي ، حين نكتب الرواية ، ونشير إلى اصابة البطل بالتيفوئيد ان نمد لهذا المرض المزعج سبيلاً كاملاً يمتد فيه بحيث يترك أثاره في أحداث الرواية بكل ما فيه من أزعاج وهز للنفس والفكر والحياة. وبذلك وحسب يصبح التيفوئيد واقعياً ويكتسب أبعاده الكاملة.
لقد أطلنا في شرح هذه النقطة لانها وردت في عدة مواضيع من (الخندق الغميق) ومنها ذلك الفصل الذي أستعرض فيه المؤلف ذكريات حياته المدرسية في المعهد الديني(6) وهو في ذاته طريف الا أنه لا يضيف إلى أحداث الرواية شيئاً ولا يلقي حتى لمسة تحليل على سيرة سامي نفسه. والظاهر ان هذه الذكريات عزيزة على المؤلف لأنها جزء من حياته المدرسية ولذلك وجد لذة في سردها. غير ان تلك شيء وسياق الرواية شيء آخر.
ولقد كان في الخندق الغميق أشخاص غير ضروريين مثل (عبد الكريم) و(سامية) وسوف نعرض لهذا حين نتناول تحليل الأشخاص.
أنتظر أدناه (من فضلك) الجزء التالي
(الرواية بأعتباراتها الشكلية)
من هذه الدراسة النقدية للشاعرة العراقية الراحلة
نازك الملائكة
(الرواية بأعتباراتها الشكلية)
من هذه الدراسة النقدية للشاعرة العراقية الراحلة
نازك الملائكة
الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1) بقلم الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة. وهي دراسة نقدية لرواية الأديب اللبناني الراحل الدكتور سهيل ادريس الصادرة عام 1958 .
(2) نشرت هذه الدراسة في مجلة (الآداب) بيروت ، العدد (3) آذار/ مارس 1960 م. كذلك ضمها الكتاب الموسوم بـ(نازك الملائكة – دراسة ومختارات) تأليف الدكتور عبد الرضا علي ، ط 1 ، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة – 1987 الصفحات 277 – 333 .
(3) (الخندق الغميق) للدكتور سهيل أدريس (مطابع دار العلم للملايين. بيروت 1958) ص 94 . (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(4) ص 4 . و 96 (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(5) ص 135 (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(6) الصفحات 43 – 48 (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(1) بقلم الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة. وهي دراسة نقدية لرواية الأديب اللبناني الراحل الدكتور سهيل ادريس الصادرة عام 1958 .
(2) نشرت هذه الدراسة في مجلة (الآداب) بيروت ، العدد (3) آذار/ مارس 1960 م. كذلك ضمها الكتاب الموسوم بـ(نازك الملائكة – دراسة ومختارات) تأليف الدكتور عبد الرضا علي ، ط 1 ، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة – 1987 الصفحات 277 – 333 .
(3) (الخندق الغميق) للدكتور سهيل أدريس (مطابع دار العلم للملايين. بيروت 1958) ص 94 . (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(4) ص 4 . و 96 (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(5) ص 135 (هامش من وضع كاتبة الدراسة).
(6) الصفحات 43 – 48 (هامش من وضع كاتبة الدراسة).