«صرخة مونش»
عبَّرت عن خوف الرسَّام
استراتيجية المبالغة في التعاطي مع الواقع
«صرخة مونش» عبَّرت عن خوف الرسَّام
تاريخ النشر 2009-01-10
تحولت لوحات الفنان النرويجي ادوارد مونش التي تظهر فيها شخصياته الكئيبة، المعذبة إلى رموز كونية للاضطراب النفسي والمعاناة. فكيف تسنى له هذا التعبير الدقيق. هل لأنه كان يرسم نفسه .
إذا كانت المبررات الكامنة وراء أعمال مبدعين من أمثال المسرحي النرويجي هنريك إبسن والمخرج السينمائي التجريبي السويدي الأصل إنغمار بيرغمان والروائي النرويجي كونت هامسون التي تجسد شخصياتها مشاعر الوحشة والكآبة قد عبرت عن ملامح البيئة الاسكندنافية
الباردة التي ينتمون إليها، فإن الملامح الأكثر كآبة التي جسدها إبداع القرن الماضي ستبدو في لوحات ادوارد مونش (1863ـ 1944).
إن ذلك الشعور القوي باليأس الذي يستولي على شخوصه والاستغراق في التفكير بالذات لا يمكن إلا أن يثير في النفس حالة من الهلع لدى مشاهدتها.
والحقيقة أن ما توحي به لوحة «الجحيم» ربما كانت تمثل أبواب الجحيم ذاتها مغلقة على مونك في غرفة صغيرة على نحو يرمز إلى الخلود ؛ أو هكذا يبدو لك عندما يتعلق الأمر بهذا الفنان. بينما يتذكر الآخرون طفولتهم المليئة بالمرح والبهجة؛ تمتلئ ذاكرة مونك «بالمرض
والجنون، الحارسان الأسودان كانا يرفرفان على مهدي... كنت اشعر بالظلم.
وكنت أعاني من اليتم، والمرض، والتهديد بالعقاب بإلقائي في النار. «كانت أمه قد قضت نحبها مصابة بمرض السل ولم يكن مونك قد تجاوز عامه الخامس. أما أبوه فقد كان متدينا متشدداً. في حين لم يبق له من الأخوة غير شقيقة واحدة كانت تكبره بعام ماتت هي الأخرى في سن
الخامسة عشرة.
وإذا كان في ذلك من المعاناة ما يكفي بالفعل، فإن إحدى الاستراتيجيات المتميزة التي مكنته من التعاطي مع الواقع هي في الحقيقة المبالغة في التعبير عن تلك المعاناة وذلك البؤس. ورغم أن ذلك لم يكن فريداً في حد ذاته، إلا أن حدود هذا التعبير كانت تطرح نفسها في
صورة هزلية ومضحكة أحياناً.
في سنة 1902 تبدد حلمه بالزواج من حبيبته تولا لارسون ـ كان يخشى الزواج ورغم أنه كان عاجزاً عن التعليق على ما حدث له ـ إلا أنه لم يكن عاجزاً عن التعبير عن ذلك في لوحاته.
وبالطبع، فقد تسنى لمونش إحياء هذه الذكرى على نحو لا يبعث إلا على السخرية بالنظر إلى تلك المبالغة الشديدة. في لوحة «فوق طاولة العمليات، 1902-1903» يظهر مونش ممدداً، عارياً تماماً، بينما يتشاور على رأسه ثلاثة من الأطباء.
وتحمل ممرضة وعاءً طافحاً بالدماء، إضافة إلى بقعة أخرى متخثرة تلطخ ملاءته، فيما المشهد مفتوح على مجموعة من المتفرجين الذين يراقبون ما يجري من النافذة عن كثب. على الرغم من أنه مشهد سيئ، بلا شك، إلا أنه يعبر من جانب آخر عن الإشفاق على الذات، على نحو
يفترض فيه أن يظهر ممزوجاً بذكريات ذات صلة بلوحة رامبرانت «درس التشريح».
ليس من الصعب على المرء أن يصدق أن شخصاً تعيساً ومهووساً بذاته بالقدر الذي كان يبدو عليه منك لم يكن قادراً على رسم عدد كبير من اللوحات التي تجسد صورته الشخصية. الواقع أن تلك الصور يصل عددها إلى المئات. ولو أنها كانت مناسبة لفترة تاريخية معينة فلا ريب
في أنها ستكون مناسبة جداً - لهذه المرحلة .
- حيث لم يعد الفن مهتماً بها فحسب وإنما يتسع اهتمامه ليشتمل حتى على الأماكن التي تحتويها، وصورة الضعف الإنساني التي تجسدها، والبطولة المضادة التي تعبر عنها، والتسليم بأن العالم يتحرك بسرعة فائقة وأن محتواه لا يتضمن سوى الغريب والتافه - تضاف إلى ذلك
تقنية منك في رسم صور لنفسه فهو لا يتجاوز كونه تسليماً مستمراً بمثل هذه المشاعر.
كان وقحاً جريئاً إلى أبعد الحدود، ولم يفته تجسيد صورة العجز الإنساني، فقد كان يؤمن بأن النفس البشرية، فضلاً عن قدرتها على التحكم في طريقة الرسم التقليدية، إلا أنها بطبيعتها غير متمفصلة في جوهر هذه الطريقة.
قبل سنوات طويلة، بعيداً عن الاستثناءات القليلة، ظل الفن ينأى بنفسه عن الوصف الدقيق للتداعيات التي تثيرها طبيعة العلاقة العاطفية بين الجنسين. وبينما يأتي بيكاسو بوصفه أحد آخر المهتمين بالخوض في هذه التجربة.
يأتي مونش الذي يكبره بعشرين سنة، ليكون واحداً من أوائل الفنانين الذين تغلغلوا في نموذجها البدائي غير الممنهج. وإذا كان رسمه صورة لنفسه يجسد في بعض الأحيان حالة الاهتياج الشديدة التي تستولي على مشاعره فإن ذلك لا يحدث في الواقع إلا لأن هذا الشيء هو كل
ما لديه ولأنه كل ما يمكنه أن يثق به طالما أنه لا يملك أشياء أخرى.
هكذا تظهر صوره، الواحدة تلو الأخرى. شاب أنيق في بداية حياته، يتحول إلى شخص شديد النحافة في منتصف عمره، وفي أواخر عقده الخامس، تهاجمه الأمراض ويسيطر عليه الوهن أو ما يطلب منا أن نتعرف إليه.
مونك واحد من بين قلة من الفنانين الاسكندنافيين الرمزيين الذين، تسنى لهم في نهاية القرن التاسع عشر، أن يعبروا على نحو متواصل ومكثف عن حالة، العجز الذكوري عن مواجهة الإرادة الأنثوية القاسية. من هي المرأة بالنسبة له ؟
إنها إما أن تكون تلك العذراء التي تحول دون استعراض الرجل لفحولته أو الأم المهيمنة على حياته أو المعشوقة التي تضع نهاية لتلك الفحولة. والأخير هي الأهم بالنسبة له وهي كذلك النموذج الأولى لرسمه.
والحقيقة أن أحداً لم يكن ليتعاطف مع مونك لولا رسمه هذه الصور التي يعبر فيها عن ذاته ؛ فحتى تلك اللوحة الشهيرة التي يظهر فيها الشخص الواقف على الجسر التي تحمل عنوان «الصرخة» 1893 التي من خلالها عن الاضطراب النفسي على نحو ما تفعله لوحة دافنشي في
تعبيرها عن الابتسامة الغامضة لم تكن سوى صورته الذاتية.
روبرت هيوز ـ «الغارديان»
ترجمة : مريم جمعة فرج