(الخندق الغميق لسهيل أدريس)(1)
دراسة ونقـد(2)
للشاعرة العراقية الراحلة
نازك الملائكة
دراسة ونقـد(2)
للشاعرة العراقية الراحلة
نازك الملائكة
طباعة وليد محمد الشبيـبي
لعل أعمق ما تعيش به رواية (الخندق الغميق) في نفس قارئها هو الجو السحري المعطّر الذي يحف بها من أولها إلى أخرها.
فهذه رواية ذات نكهة خاصة بها تغلّفها وتترك أثرها المضمّخ في حس القارئ ، فيعيش هناك حتى اذا نسيت الأحداث تفصيلاً ، واللمسة الروحية التي تتغلغل في الرواية كلها تبقينا على صلة بالسحر الذي يشيعه صوت مؤذن منفرد يرفع صوته بـ(سبحان خالق الاصباح..) في غبش فجر شرقي ، في حي من احياء بيروت ذات الطابع العربي الصرف. ونحن لا ننسى قط غلاماً يافعاً متحمّساً يحب الصوت الجميل وينفعل للجو الديني فيفيق على هتاف المؤذن وتسري رعشة في جسمه الصغير اذ يصغي، ولا نغفل عن هذا الغلام وقد كبر وتفتحت عواطفه فبات يخرج إلى الشرفة ويؤذن بأعلى صوته العذب، لا ليؤدي واجب الآذان ، وانما لكي ينبّه الحبيبة الغافلة في بيت الجيران. وبعين الخيال نرى هذا المراهق يصعد إلى مسجد المدرسة ويصلّي ركعتين ويبتهل إلى الله بحرارة ان يحفظ له حبيبته ويعيدها إليه. ان سحر العاطفة الدينية الحقة التي تنبع من أعماق الشعور الإنساني الفطري تواكب أحداث هذه الرواية ، ذلك على الرغم من ان بطلها كان متمرّداً ثائراً على ما يلوح انه الجو الديني ، وهو في الواقع ، جو بعض ذوي التزمت والجمود من الشيوخ.
ولقد ساهم أسلوب سهيل أدريس ، بما يتصف به من اشراق وتنغيم وتعبيرية عالية غير عادية ، في تكثيف هذا الجو الروحي المرهف ، فكانت الكلمات تضيف إلى الشعرية التي تغلب على الرواية ، حتى نستطيع ان نقول ان للأثر الروحي الذي تركته مشاهد قرية (المريجات) ، ونبرات صوت المؤذن في سكون الليل ، لا تزيد على الأثر الذي تتركه لغة الرواية . والواقع ان سهيل أدريس يملك في انتاجه كله ، قدرة خاصة متميزة على أختيار الكلمات المعبّرة التي تشخّص المعاني تشخيصاً نادر المثيل. تلك صفة أسلوبه ، وهي تبرز في (الخندق الغميق) وتبلغ أوجها.
أننا نلح ، في هذه التوطئة ، على الجانب الجمالي ، من الرواية لانه يبدو لنا خاصة بارزة لها. وقد يكون ذلك مرتبطاً بأصالة الموضوع الذي عالجه المؤلف ، وهو موضوع غني بالعاطفة الشرقية الجزلة والحرارة التي تمتاز بها حياتنا العربية الخالصة. ان هؤلاء الناس الذين يتناولهم سهيل أناس شرقيون فيهم بساطتنا وعاطفيتنا وأخطاؤنا وضعفنا. وما أكثر الذين يتحكّم فيهم آباؤهم كما تحكّم هذا الأب المتسلّط في حياة سامي. لذلك تقرأ ، بعطف وتفهّم ، سيرة هذا الغلام الموهوب ، الممتلئ بالحياة ، المتعطّش للمعرفة والحركة ، الذي يذهب ضحية لبساطة أبيه وتعسّفه ، فيخطئ فهم نفسه ويسيء تحديد هدفه وينخرط في جو مشيخة متزمتة متصنّعة لا تنسجم مع روحيته ولا مع حركات ذهنه. ورواية (الخندق الغميق) تقص علينا قصة كفاح الغلام من أجل ان يعود إلى الطريق الذي أضاعه ويتلمّس السبيل ، ثانيةً ، إلى النور والحياة.
فهذه رواية ذات نكهة خاصة بها تغلّفها وتترك أثرها المضمّخ في حس القارئ ، فيعيش هناك حتى اذا نسيت الأحداث تفصيلاً ، واللمسة الروحية التي تتغلغل في الرواية كلها تبقينا على صلة بالسحر الذي يشيعه صوت مؤذن منفرد يرفع صوته بـ(سبحان خالق الاصباح..) في غبش فجر شرقي ، في حي من احياء بيروت ذات الطابع العربي الصرف. ونحن لا ننسى قط غلاماً يافعاً متحمّساً يحب الصوت الجميل وينفعل للجو الديني فيفيق على هتاف المؤذن وتسري رعشة في جسمه الصغير اذ يصغي، ولا نغفل عن هذا الغلام وقد كبر وتفتحت عواطفه فبات يخرج إلى الشرفة ويؤذن بأعلى صوته العذب، لا ليؤدي واجب الآذان ، وانما لكي ينبّه الحبيبة الغافلة في بيت الجيران. وبعين الخيال نرى هذا المراهق يصعد إلى مسجد المدرسة ويصلّي ركعتين ويبتهل إلى الله بحرارة ان يحفظ له حبيبته ويعيدها إليه. ان سحر العاطفة الدينية الحقة التي تنبع من أعماق الشعور الإنساني الفطري تواكب أحداث هذه الرواية ، ذلك على الرغم من ان بطلها كان متمرّداً ثائراً على ما يلوح انه الجو الديني ، وهو في الواقع ، جو بعض ذوي التزمت والجمود من الشيوخ.
ولقد ساهم أسلوب سهيل أدريس ، بما يتصف به من اشراق وتنغيم وتعبيرية عالية غير عادية ، في تكثيف هذا الجو الروحي المرهف ، فكانت الكلمات تضيف إلى الشعرية التي تغلب على الرواية ، حتى نستطيع ان نقول ان للأثر الروحي الذي تركته مشاهد قرية (المريجات) ، ونبرات صوت المؤذن في سكون الليل ، لا تزيد على الأثر الذي تتركه لغة الرواية . والواقع ان سهيل أدريس يملك في انتاجه كله ، قدرة خاصة متميزة على أختيار الكلمات المعبّرة التي تشخّص المعاني تشخيصاً نادر المثيل. تلك صفة أسلوبه ، وهي تبرز في (الخندق الغميق) وتبلغ أوجها.
أننا نلح ، في هذه التوطئة ، على الجانب الجمالي ، من الرواية لانه يبدو لنا خاصة بارزة لها. وقد يكون ذلك مرتبطاً بأصالة الموضوع الذي عالجه المؤلف ، وهو موضوع غني بالعاطفة الشرقية الجزلة والحرارة التي تمتاز بها حياتنا العربية الخالصة. ان هؤلاء الناس الذين يتناولهم سهيل أناس شرقيون فيهم بساطتنا وعاطفيتنا وأخطاؤنا وضعفنا. وما أكثر الذين يتحكّم فيهم آباؤهم كما تحكّم هذا الأب المتسلّط في حياة سامي. لذلك تقرأ ، بعطف وتفهّم ، سيرة هذا الغلام الموهوب ، الممتلئ بالحياة ، المتعطّش للمعرفة والحركة ، الذي يذهب ضحية لبساطة أبيه وتعسّفه ، فيخطئ فهم نفسه ويسيء تحديد هدفه وينخرط في جو مشيخة متزمتة متصنّعة لا تنسجم مع روحيته ولا مع حركات ذهنه. ورواية (الخندق الغميق) تقص علينا قصة كفاح الغلام من أجل ان يعود إلى الطريق الذي أضاعه ويتلمّس السبيل ، ثانيةً ، إلى النور والحياة.
موضوع الرواية
هناك مشكلتان نحب أن نقف عندهما ونحن نتحدث عن موضوع (الخندق الغميق) (أولاهما) هي أتجاه الصراع الذي تقوم عليه حبكة الأحداث ، فبين من ومن قام ذلك الصراع ؟ وماذا كان الغرض منه ؟
لقد كتب أكثر من ناقد واحد ممن تناول الرواية بالدراسة انها تروي قصة الصراع بين جيلين. ومعنى ذلك ان الصراع انما قام بين سامي وأبيه. غير اننا اذا أمعنّا النظر في الأحداث التي وضعها المؤلف بين أيدينا فسنجد انها لا تؤيد هذا الرأي. فهل حال الأب حقاً دون ان يترك سامي المشيخة حين أراد هو ذلك ؟ أم هل أستطاع هذا الأب المغلوب على أمره أن يمتع أبنته من خلع الحجاب ومواصلة دراستها ؟ في الحق ، لا . وانما كان المشكل الحقيقي ان يريد سامي نفسه أو لا يريد. ونحن قد عرفنا سامي ، عبر فصول الرواية ، إنساناً عنيداً يحكم ارادته في كل موقف ، وذلك يجعل كل عائق خارج عن نفسه تافهاً ثانوي الأهمية. ولقد كان أبوه عاجزاً عن ردعه عن أي شيء ، وأنتصر سامي في كل صراع خاضه. فعلام يدل ذلك ؟ وأين ذلك الصراع بين الجيلين ؟
لا بد لنا ، لكي نجيب عن هذا السؤال ، أن نلاحظ ان سامي الذي يفترض انه يمثل الجيل الجديد الطالع انما ينطوي هو نفسه على كثير من روحية الجيل الذي يقاومه. أننا نراه ، في الرواية ، يرتعش أنفعالاً لفكرة المعهد الديني ، ونسمعه يحدّثنا حديثاً شعرياً عن سماعه لآذان الفجر بخشوع عميق يبلغ درجة النشوة ، ونراه يتعطّش أشد التعطّش إلى ان يلبس الجبة ويضع العمامة (تاج العرب) على رأسه. وكل ذلك يدل على أن عواطف الجيل السابق وتقاليده كانت متأصلة في نفسه، أو انها – كما سنرى – تنبع من منبع شخصي في نفسه هو. وانما يقوم الصراع في أعماق ذهن سامي نفسه ، فيواجه الأسئلة الأخلاقية التي تحيّره وتبلبل تفكيره مما سنقف عنده حين سنحلل شخصيته. ولسوف نرى ان سامي انما كان ثائراً على نفسه أكثر مما كان ثائراً على أبيه ، وكان التغلّب على ممانعة أبيه أيسر بكثير من التغلّب على المقاومة الداخلية التي كان يحسّها في روحه.
لقد كان سامي يحتاج إلى أن ينمو ليغلب كل ما كان يمثل الجيل السابق في تكوينه النفسي والعاطفي ولم يكن أبوه الا عائقاً خارجياً عارضاً. وقد تميّز سامي بالصلابة وبأنه، كما يقول الشاعر ، اذا هم .. أمضى عزمه غير جازع. غير أنه لم يكن يستطيع أن يكون صلباً الا حين يدرس الأشياء ببطء ويقتنع بها.
فقد رأيناه عنيداً كل العناد حين أراد أن يلبس الجبة والعمامة مع رفقائه ، وقد عاند وخالف أمه بنفس الصلابة حين دخل المعهد الديني. والواقع أنه أراد أن يكون شيخاً ولم يكن لأحد تأثير عليه. ثم بدأ ، فيما بعد ، ينتفض ويغير أتجاه ارادته ، وقد أقتضاه التطور الكامل عدة سنوات ، ومن ثم واجه ارادته الكامنة الحقة.
وأما المشكلة الثانية فهي مشكلة تثيرها قصص سهيل أدريس ورواياته عموماً وهي ما أسميه بمشكلة سير الحياة ، ان سهيل ، كما هو معروف عنه ، يستمد الكثير من وقائع رواياته من حياته الشخصية. وذلك شئ لا يعني القارئ الموضوعي ولا الناقد ، فمن حق أي مؤلف أن يكتب حياته في قصص ما دام يضع ذلك في الإطار الفني المقبول ، وما دام لا يخرج به عن الحدود الطبيعية للرواية . ذلك ان المنبع الوحيد للرواية الحقة هو الحياة ، وتفاصيل حياة المؤلف لا تخرج عن حدود الحياة ، فمن الطبيعي اذن ان تدور رواية (الخندق الغميق) على سيرة مؤلفها .. وليس من أعتراض قط على ما تقصه علينا الرواية من الحكايات عن طفولة المؤلف والمعهد الديني الذي درس فيه ، وعلى ما وصف من ملامح أبويه وربما بعض أخوته مثل هدى. كل ذلك قد كان جميلاً ما دام قد أحتوى على الملامح الفنية للرواية الجديدة وقدم لنا حبكة مثيرة وأشخاصاً ذوي حيوية يملكون من الأصالة ما يجعلهم يساعدون في بناء رواية ذات جو. وأنه لواضح أنه ما دامت الأبعاد الفنية للرواية مكتملة فأن السؤال عن علاقة هذه الأحداث بحياة المؤلف الواقعية يصبح سؤالاً متطفّلاً لا حق للناقد بأن يلقيه.
لقد كتب أكثر من ناقد واحد ممن تناول الرواية بالدراسة انها تروي قصة الصراع بين جيلين. ومعنى ذلك ان الصراع انما قام بين سامي وأبيه. غير اننا اذا أمعنّا النظر في الأحداث التي وضعها المؤلف بين أيدينا فسنجد انها لا تؤيد هذا الرأي. فهل حال الأب حقاً دون ان يترك سامي المشيخة حين أراد هو ذلك ؟ أم هل أستطاع هذا الأب المغلوب على أمره أن يمتع أبنته من خلع الحجاب ومواصلة دراستها ؟ في الحق ، لا . وانما كان المشكل الحقيقي ان يريد سامي نفسه أو لا يريد. ونحن قد عرفنا سامي ، عبر فصول الرواية ، إنساناً عنيداً يحكم ارادته في كل موقف ، وذلك يجعل كل عائق خارج عن نفسه تافهاً ثانوي الأهمية. ولقد كان أبوه عاجزاً عن ردعه عن أي شيء ، وأنتصر سامي في كل صراع خاضه. فعلام يدل ذلك ؟ وأين ذلك الصراع بين الجيلين ؟
لا بد لنا ، لكي نجيب عن هذا السؤال ، أن نلاحظ ان سامي الذي يفترض انه يمثل الجيل الجديد الطالع انما ينطوي هو نفسه على كثير من روحية الجيل الذي يقاومه. أننا نراه ، في الرواية ، يرتعش أنفعالاً لفكرة المعهد الديني ، ونسمعه يحدّثنا حديثاً شعرياً عن سماعه لآذان الفجر بخشوع عميق يبلغ درجة النشوة ، ونراه يتعطّش أشد التعطّش إلى ان يلبس الجبة ويضع العمامة (تاج العرب) على رأسه. وكل ذلك يدل على أن عواطف الجيل السابق وتقاليده كانت متأصلة في نفسه، أو انها – كما سنرى – تنبع من منبع شخصي في نفسه هو. وانما يقوم الصراع في أعماق ذهن سامي نفسه ، فيواجه الأسئلة الأخلاقية التي تحيّره وتبلبل تفكيره مما سنقف عنده حين سنحلل شخصيته. ولسوف نرى ان سامي انما كان ثائراً على نفسه أكثر مما كان ثائراً على أبيه ، وكان التغلّب على ممانعة أبيه أيسر بكثير من التغلّب على المقاومة الداخلية التي كان يحسّها في روحه.
لقد كان سامي يحتاج إلى أن ينمو ليغلب كل ما كان يمثل الجيل السابق في تكوينه النفسي والعاطفي ولم يكن أبوه الا عائقاً خارجياً عارضاً. وقد تميّز سامي بالصلابة وبأنه، كما يقول الشاعر ، اذا هم .. أمضى عزمه غير جازع. غير أنه لم يكن يستطيع أن يكون صلباً الا حين يدرس الأشياء ببطء ويقتنع بها.
فقد رأيناه عنيداً كل العناد حين أراد أن يلبس الجبة والعمامة مع رفقائه ، وقد عاند وخالف أمه بنفس الصلابة حين دخل المعهد الديني. والواقع أنه أراد أن يكون شيخاً ولم يكن لأحد تأثير عليه. ثم بدأ ، فيما بعد ، ينتفض ويغير أتجاه ارادته ، وقد أقتضاه التطور الكامل عدة سنوات ، ومن ثم واجه ارادته الكامنة الحقة.
وأما المشكلة الثانية فهي مشكلة تثيرها قصص سهيل أدريس ورواياته عموماً وهي ما أسميه بمشكلة سير الحياة ، ان سهيل ، كما هو معروف عنه ، يستمد الكثير من وقائع رواياته من حياته الشخصية. وذلك شئ لا يعني القارئ الموضوعي ولا الناقد ، فمن حق أي مؤلف أن يكتب حياته في قصص ما دام يضع ذلك في الإطار الفني المقبول ، وما دام لا يخرج به عن الحدود الطبيعية للرواية . ذلك ان المنبع الوحيد للرواية الحقة هو الحياة ، وتفاصيل حياة المؤلف لا تخرج عن حدود الحياة ، فمن الطبيعي اذن ان تدور رواية (الخندق الغميق) على سيرة مؤلفها .. وليس من أعتراض قط على ما تقصه علينا الرواية من الحكايات عن طفولة المؤلف والمعهد الديني الذي درس فيه ، وعلى ما وصف من ملامح أبويه وربما بعض أخوته مثل هدى. كل ذلك قد كان جميلاً ما دام قد أحتوى على الملامح الفنية للرواية الجديدة وقدم لنا حبكة مثيرة وأشخاصاً ذوي حيوية يملكون من الأصالة ما يجعلهم يساعدون في بناء رواية ذات جو. وأنه لواضح أنه ما دامت الأبعاد الفنية للرواية مكتملة فأن السؤال عن علاقة هذه الأحداث بحياة المؤلف الواقعية يصبح سؤالاً متطفّلاً لا حق للناقد بأن يلقيه.