نازك الملائكة وريثة الشعر
رحلت عاشقةُ الليل فتهاوت باكيةً عن سماء الشعر نجومُها. ففي يوم الأربعاء 20حزيران 2007م أغمضت نازك الملائكة عينيها في أحضان مدينة القاهرة لترحل محمّلةً بالهمّ والتغراب، بعيدةً عن نسائم دجلة التي أحبّتها، وصوت مآذن بغداد التي طالما تعشّقت لسماعها.
بيت الملائكة:
يتداخل بيت الملائكة مع بيتين آخرين هما آل الجلبي وآل كبة البغداديون. ويرقى هذا البيت بالنسب الى القحطانيين. وقد هاجر أسلافُهم من الحيرة إلى الكاظمية اوائ القرن الثامن الهجري /الرابع عشر الميلادي، وكانوا قد جاؤها بعد هجرتهم من اليمن.
وأول من استقر بالكاظمية منهم هو الحاج كاظم المنذري اللخمي القحظاني المتوفي سنة 957هـ/1550م. وكانت المحلّة المعروفة اليوم القطّانة، قد سميت في تلك الايام بالقحطانية نسبةً اليه.
وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي اكتسبت العائلة لقب «الجلبي» وهو من الألقاب التي كانت لا تُطلق إلاّ علّية القوم من اصحاب النفوذ والجاه الاجتماعي.
وقد نُقل أن لقب الملائكة قد لحق بعض افرادهم في القرن التاسع عشر الملادي من قبل شاعر عصره عبد الباقي العمري، صاحب ديوان «الترياق الفاروقي» المطبوع. لكن ذلك كان في مدار المنقولات. وأول من حمل اسم الملائكة هو صادق الملائكة (والد نازك) وإبنا عمّه عبد الرزاق وعيسى وتبعه أخوته وأبناؤه.
ويُنقل أن الهدوء الذي كان يمتاز به بيتهم الكبير الواقع بمحلة العقولية ببغداد، وعدم سماع ضجيج الأطفال منه خلافاً للبيوت البغدادية التي تضجّ بزعيق الاطفال وصراخهم، كان سبباً في إطلا لقب (الملائكة) عليهم. ونقلَ لي العلامة اللغوي الاستاذ صبحي البصّام أنه في زمن صباه عندما سمع باطلاق لقب الملائكة على هذا البيت سأل عن وجه هذه التسمية وسببها، فقيل له أن أبواب بيوت آل الملائكة لا تُترك إلا مغلقة، مما حدا باطلاق هذا اللقب عليهم.
إن بيت الملائكة بيت لا تُشبهُه إلا بيوتُ الملائكة. فقد نشأ أفراده جميعا في أحضان الأدب ومدارج العلم، ولم يظهر منهم إلا نابغةٌ ذكي أو شاعر أصيل أو استاذ جامعي متمرّس. إنه بيت يتنفس أفراده الشعر ويحلق بجناحي الأدب والفضيلة.
ومن غرائب هذا البيت ان ابناءه لا يُعدّون إلا نسخة واحدة بعضهم عن الآخر وإن تعدَّدت بينهم الأسماء.
فقد خضع هؤلاء الأبناء الى نظام تربوي خاص تتعّهده طبقةٌ لطبقة ويرعاه المتقدمون لمن تأخر عنهم. وكانت هذه المواهب المزروعة في نفوس الناشئة يتولى رعايتها نفرٌ من مثقفي الأسرة، فيعقدون كل يوم خميس جلسة في دار واحدٍ منهم،تتضمن الحديث عن الادب والفن وما يتصل بهما من امور. وتهدف هذه الجلسات الى تنمية قدرات الناشئة الجُدد وإدخالهم عالم المعرفة من أوسع أبوابه الى جانب تنمية مواهب من الخطابة والتمثيل والشعر وتعلّ الموسيقى والعزف على بعض الآلات.
جدّتها: هداية كبّة
ويعود فضل نبوغ هذه الأسرة وازدهارها الثقافي الادبي الى جدّتهم الحاجة هداية كبّة (ت: 1398هـ/1978م)، أبنة العلامة الشيخ محمد حسن كبّة (ت: 1336هـ/1918م)، وأخت السياسي العراقي الكبير الشيخ محمد مهدي كبّة مؤسس حزب الاستقلال، المتوفي سنة 1404هـ/1984م.
ووالدها الشيخ محمد حسن عالم مجتهد وشاعر من كبار شعراء عصره وهو أحد أبناء الحاج محمد صالح كبّة (1201-1287هـ/1787ـ 1870م)، عميد أسرة آل كبّة البغدادية الذي كان من كبار التجّار المثرين. فقد كانت للحاج محمد صالح حضوة لدى جميع علماء بغداد والنجف ومراجعهم. وكانت دارهم المطلة على نهر دجلة محطّاً للرحال، يرتادها العلماء والشعراء. ونظراً لثقافته وسخائه الذاتي فقد نال شهرة لم تقتصر على زمانه ذاك، بل تعدّت الى زماننا واقتحمته، حتى غدت الألسنة تلهج باسمه، وتمجّد أيامه وأفعاله، وتكرّره كلّما برق اسمهُ في مجالس الادب وتاريخ الرجال.
ولمكانته هذه فقد كان المجتهدون وزعماء الدين عندما يزورون بغداد من مناطق النجف والحلة والكوفة وغيرها ل يتخذون سكناهم إلا عنده. فعندما زار الأمام الشيخ مرتضى الأنصاري زعيم الإمامية في عصره (ت: 1282هـ/1865م) بغداد سأله الحاج محمد صالح أن يشرّف داره، فقال له الأنصاري إني عازم على زيارة «النوّاب»، فأجعلك منهم. ولمّا زار الأنصاري النوّاب الأربعة جعله خامساً.
ومن مآثره الاجتماعية التي ما زالت شاخصة حتى يومنا هذا تشييدُه «الخانات» التي تساعد المسافرين المعتمدين على وسائل النقل البدائية يومذاك بمواصلة رحلاتهم ـ وهذه الخانات أشبه ما تكون ببيوت الاستراحة، حيث توفر للمسافرين بعض مستلزمات الأسفار من الطعام والشراب والمنام وغيرها من الخدمات. وأشهرها هي خان النصّ، وخان الحّماد وخان المحاويل، وخان بلد، وخان المسيب، وغيرها.
ولم يتقدّم من أبناء الحاج محمد صالح في مدارج العلم إلاّ ولده العلامة المجتهد الشيخ محمد حسن، الذي جمع بين العلم والعمل والزهادة ومكارم الاخلاق. فكانت داره في بغداد والنجف قبلةً يقصدها العلماء والأدباء. وقد حضيت بمجالس وندوات شعراء العصر قاطبة حتى تحوّلت الى منتدى أدبي لا تغرب الشمس عنه إلا بجديد يضاف إلى حلبات الشعر والأدب.
وقد ألف شاع عصره السيد حيدر الحلي (1304هـ/1887م) كتاب «العقد المفصّل في قبيلة المجد المؤثل» تكريماً لهذه العائلة، ونُشر الكتاب ببغداد عام 1913م، ضمن مجلّد كبير. كما ألف العلامة الشاعر الكبير الشيخ إبراهيم آل يحيى العاملي، جد أسرة آل صادق العاملي المتوفى سنة 1288هـ/1871م مجموعاً نفيساً جمع فيه ما قيل في تكريم الحاج محمد صالح كبّة من الشعر.
وهو لا يزال مخطوطاً احتفظ بنسخته الأصلية. والعجيب أن هذه النسخة فقدتها في الاعتداء على مكان سكني ببيروت بعد تعرّضه لصواريخ الطائرات في حرب تموز عام 2006م على لبنان، والأغرب من ذلك أني عثرت على صفجات هذه المخطوطة من بين الأنقاض، فعادت لي مرّة اخرى كاملة غير منقوصة، وهذه من كرامات الأفعال الصالحة التي تُضاف لهم
ونتيجة لهذا البذخ وتوفير الرواتب الشهرية لطلبة العلوم والشعراء وغيرهم من طبقات المجتمع الفقيرة فقد آلت ثروتهم الى النفاد وأصبح أبناؤها معتزّين بتلك الأيام التي شيدت مجدهم، ووهبت لهم كل هذه المفاخر.
في هذا الجوّ، وفي بيت والدها الشيخ محمد حسن نشأت الحاجة هداية وتشبّعت بالفضائل والعلم والمثل العليا والدين.
وقد تزوّجت عبد الرزاق ب حداد الملائكة (الجلبي)، وكان عبد الرزاق بحكم اعماله التجارية يخرج مسافراً في بعض الفرص وفي بعضها أصيب بحمى شديدة تُوفي على أثرها وهو في سن السادسة والعشرين سنة 1904. تاركاً أولاده الثلاثة : الاستاذ الشاعر عبد الصاحب (ت 1987)، سليمة والده نازك 1953، ونظيمة، زوجة القاضي عبد الحميد كبة، ووالدة الدكتور قيس كبة.
رحلت عاشقةُ الليل فتهاوت باكيةً عن سماء الشعر نجومُها. ففي يوم الأربعاء 20حزيران 2007م أغمضت نازك الملائكة عينيها في أحضان مدينة القاهرة لترحل محمّلةً بالهمّ والتغراب، بعيدةً عن نسائم دجلة التي أحبّتها، وصوت مآذن بغداد التي طالما تعشّقت لسماعها.
بيت الملائكة:
يتداخل بيت الملائكة مع بيتين آخرين هما آل الجلبي وآل كبة البغداديون. ويرقى هذا البيت بالنسب الى القحطانيين. وقد هاجر أسلافُهم من الحيرة إلى الكاظمية اوائ القرن الثامن الهجري /الرابع عشر الميلادي، وكانوا قد جاؤها بعد هجرتهم من اليمن.
وأول من استقر بالكاظمية منهم هو الحاج كاظم المنذري اللخمي القحظاني المتوفي سنة 957هـ/1550م. وكانت المحلّة المعروفة اليوم القطّانة، قد سميت في تلك الايام بالقحطانية نسبةً اليه.
وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي اكتسبت العائلة لقب «الجلبي» وهو من الألقاب التي كانت لا تُطلق إلاّ علّية القوم من اصحاب النفوذ والجاه الاجتماعي.
وقد نُقل أن لقب الملائكة قد لحق بعض افرادهم في القرن التاسع عشر الملادي من قبل شاعر عصره عبد الباقي العمري، صاحب ديوان «الترياق الفاروقي» المطبوع. لكن ذلك كان في مدار المنقولات. وأول من حمل اسم الملائكة هو صادق الملائكة (والد نازك) وإبنا عمّه عبد الرزاق وعيسى وتبعه أخوته وأبناؤه.
ويُنقل أن الهدوء الذي كان يمتاز به بيتهم الكبير الواقع بمحلة العقولية ببغداد، وعدم سماع ضجيج الأطفال منه خلافاً للبيوت البغدادية التي تضجّ بزعيق الاطفال وصراخهم، كان سبباً في إطلا لقب (الملائكة) عليهم. ونقلَ لي العلامة اللغوي الاستاذ صبحي البصّام أنه في زمن صباه عندما سمع باطلاق لقب الملائكة على هذا البيت سأل عن وجه هذه التسمية وسببها، فقيل له أن أبواب بيوت آل الملائكة لا تُترك إلا مغلقة، مما حدا باطلاق هذا اللقب عليهم.
إن بيت الملائكة بيت لا تُشبهُه إلا بيوتُ الملائكة. فقد نشأ أفراده جميعا في أحضان الأدب ومدارج العلم، ولم يظهر منهم إلا نابغةٌ ذكي أو شاعر أصيل أو استاذ جامعي متمرّس. إنه بيت يتنفس أفراده الشعر ويحلق بجناحي الأدب والفضيلة.
ومن غرائب هذا البيت ان ابناءه لا يُعدّون إلا نسخة واحدة بعضهم عن الآخر وإن تعدَّدت بينهم الأسماء.
فقد خضع هؤلاء الأبناء الى نظام تربوي خاص تتعّهده طبقةٌ لطبقة ويرعاه المتقدمون لمن تأخر عنهم. وكانت هذه المواهب المزروعة في نفوس الناشئة يتولى رعايتها نفرٌ من مثقفي الأسرة، فيعقدون كل يوم خميس جلسة في دار واحدٍ منهم،تتضمن الحديث عن الادب والفن وما يتصل بهما من امور. وتهدف هذه الجلسات الى تنمية قدرات الناشئة الجُدد وإدخالهم عالم المعرفة من أوسع أبوابه الى جانب تنمية مواهب من الخطابة والتمثيل والشعر وتعلّ الموسيقى والعزف على بعض الآلات.
جدّتها: هداية كبّة
ويعود فضل نبوغ هذه الأسرة وازدهارها الثقافي الادبي الى جدّتهم الحاجة هداية كبّة (ت: 1398هـ/1978م)، أبنة العلامة الشيخ محمد حسن كبّة (ت: 1336هـ/1918م)، وأخت السياسي العراقي الكبير الشيخ محمد مهدي كبّة مؤسس حزب الاستقلال، المتوفي سنة 1404هـ/1984م.
ووالدها الشيخ محمد حسن عالم مجتهد وشاعر من كبار شعراء عصره وهو أحد أبناء الحاج محمد صالح كبّة (1201-1287هـ/1787ـ 1870م)، عميد أسرة آل كبّة البغدادية الذي كان من كبار التجّار المثرين. فقد كانت للحاج محمد صالح حضوة لدى جميع علماء بغداد والنجف ومراجعهم. وكانت دارهم المطلة على نهر دجلة محطّاً للرحال، يرتادها العلماء والشعراء. ونظراً لثقافته وسخائه الذاتي فقد نال شهرة لم تقتصر على زمانه ذاك، بل تعدّت الى زماننا واقتحمته، حتى غدت الألسنة تلهج باسمه، وتمجّد أيامه وأفعاله، وتكرّره كلّما برق اسمهُ في مجالس الادب وتاريخ الرجال.
ولمكانته هذه فقد كان المجتهدون وزعماء الدين عندما يزورون بغداد من مناطق النجف والحلة والكوفة وغيرها ل يتخذون سكناهم إلا عنده. فعندما زار الأمام الشيخ مرتضى الأنصاري زعيم الإمامية في عصره (ت: 1282هـ/1865م) بغداد سأله الحاج محمد صالح أن يشرّف داره، فقال له الأنصاري إني عازم على زيارة «النوّاب»، فأجعلك منهم. ولمّا زار الأنصاري النوّاب الأربعة جعله خامساً.
ومن مآثره الاجتماعية التي ما زالت شاخصة حتى يومنا هذا تشييدُه «الخانات» التي تساعد المسافرين المعتمدين على وسائل النقل البدائية يومذاك بمواصلة رحلاتهم ـ وهذه الخانات أشبه ما تكون ببيوت الاستراحة، حيث توفر للمسافرين بعض مستلزمات الأسفار من الطعام والشراب والمنام وغيرها من الخدمات. وأشهرها هي خان النصّ، وخان الحّماد وخان المحاويل، وخان بلد، وخان المسيب، وغيرها.
ولم يتقدّم من أبناء الحاج محمد صالح في مدارج العلم إلاّ ولده العلامة المجتهد الشيخ محمد حسن، الذي جمع بين العلم والعمل والزهادة ومكارم الاخلاق. فكانت داره في بغداد والنجف قبلةً يقصدها العلماء والأدباء. وقد حضيت بمجالس وندوات شعراء العصر قاطبة حتى تحوّلت الى منتدى أدبي لا تغرب الشمس عنه إلا بجديد يضاف إلى حلبات الشعر والأدب.
وقد ألف شاع عصره السيد حيدر الحلي (1304هـ/1887م) كتاب «العقد المفصّل في قبيلة المجد المؤثل» تكريماً لهذه العائلة، ونُشر الكتاب ببغداد عام 1913م، ضمن مجلّد كبير. كما ألف العلامة الشاعر الكبير الشيخ إبراهيم آل يحيى العاملي، جد أسرة آل صادق العاملي المتوفى سنة 1288هـ/1871م مجموعاً نفيساً جمع فيه ما قيل في تكريم الحاج محمد صالح كبّة من الشعر.
وهو لا يزال مخطوطاً احتفظ بنسخته الأصلية. والعجيب أن هذه النسخة فقدتها في الاعتداء على مكان سكني ببيروت بعد تعرّضه لصواريخ الطائرات في حرب تموز عام 2006م على لبنان، والأغرب من ذلك أني عثرت على صفجات هذه المخطوطة من بين الأنقاض، فعادت لي مرّة اخرى كاملة غير منقوصة، وهذه من كرامات الأفعال الصالحة التي تُضاف لهم
ونتيجة لهذا البذخ وتوفير الرواتب الشهرية لطلبة العلوم والشعراء وغيرهم من طبقات المجتمع الفقيرة فقد آلت ثروتهم الى النفاد وأصبح أبناؤها معتزّين بتلك الأيام التي شيدت مجدهم، ووهبت لهم كل هذه المفاخر.
في هذا الجوّ، وفي بيت والدها الشيخ محمد حسن نشأت الحاجة هداية وتشبّعت بالفضائل والعلم والمثل العليا والدين.
وقد تزوّجت عبد الرزاق ب حداد الملائكة (الجلبي)، وكان عبد الرزاق بحكم اعماله التجارية يخرج مسافراً في بعض الفرص وفي بعضها أصيب بحمى شديدة تُوفي على أثرها وهو في سن السادسة والعشرين سنة 1904. تاركاً أولاده الثلاثة : الاستاذ الشاعر عبد الصاحب (ت 1987)، سليمة والده نازك 1953، ونظيمة، زوجة القاضي عبد الحميد كبة، ووالدة الدكتور قيس كبة.