لولا ثورة (دير الزور) و(ثورة العشرين) لألحقت بريطانيا العراق بالهند
شاركت في أحداثها قوى شعبية وعسكرية..وامتدت ساحة عملياتها الحربية في أراض واسعة من سوريا والعراق
طه الهاشمي في الجيش العربي
النور - الملف برس
تشرع "النور" بدءاً من هذا العدد في نشر كتاب "الثورة المنسيّة" الذي يبحث فيه مؤلفه زبير سلطان قدوري، في الكثير من خفايا الملفات التي تكشف أن ثورتي "دير الزور" و"ثورة العشرين" هما اللتان منعتا بريطانيا من إلحاق العراق بالهند، مؤكداً أن قوى شعبية وعسكرية شاركت في هذه الثورة التي امتدت ساحة عملياتها الحربية في أراض واسعة من سوريا والعراق. ويقول المؤلف إن الثورة كادت تجبر البريطانيين على الجلاء من الموصل وولاية "الدليم" بعد أن أجلتهم من "عانة" ووصلت إلى "تكريت". وكانت بداية تشكيل خلايا هذه الثورة قد بدأت مع انبثاق جمعية "العهد" السرية بزعامة الضابط عزيز علي المصري، وهو من أسرة عربية عريقة سكنت العراق. وكان نوري السعيد قد كتب في مذكراته أن غاية جمعية العهد، هي الحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية .
الجزء الأول
مقدمة
كانعام 1919. يموج بالانتفاضات والثورات في العديد من بقاع الوطن العربي بدءاً منمراكش مروراً بمصر ولبنان وسورية والعراق، تحدثت عنها كتب التاريخ العربي التي تملأالمكتبات، وتناولتها المناهج الدراسية في المدارس والجامعات العربية، وأُلفت حولهاقائمة طويلة من الدراسات والبحوث الأكاديمية وغيرها. إلا ثورة (دير الزور) التي تفجرتفي كانون الأول عام 1919، بقيت وحدها في طيّ النسيان، فلم يُفرد لها كتاب خاص يبحثفي دوافعها السياسية والعسكرية والاجتماعية، أو تطوراتها، وأحداثها ونتائجها،وانعكاساتها على المستويين الإقليمي والعربي.
ممايثير الدهشة أن عدداً كبيراً من الباحثين والكتاب والدارسين في قطرنا لا يعرف عنهاشيئاً. حتى إنه لم يسمع بها، وإن سمِعَ فلا تزيد معرفته عن اسم رمضان شلاش قامبحركة في دير الزور. لكن أين؟ ومتى؟ وكيف؟ فذلك يجهله جهلاً مطلقاً!!.
وحينقمت بالبحث والدراسة في وثائق تلك الحركة، ووصلت إلى بعض إنجازاتها، وحقائقها،وتحدثت عنها لعدد من الباحثين والدارسين، رأيت علامات التعجب والاستغراب تعلووجوههم وطلب البعض أن أسميها بالثورة المجهولة. لأن الغالبية العظمى من الباحثين،وحتى من أهالي دير الزور أنفسهم يجهل عنها الكثير.
ثورةدير الزور لم تكن ثورة عادية، أو انتفاضة مدينة انتهت في حينها، أو صدام جرى بينشعب ومستعمر وانتهى، بل كانت ثورة قومية شاملة بكل الأبعاد، حملت أهدافاً وشعاراتعربية كبيرة. وقد قادها تنظيم قومي عربي معروف، وشاركت في أحداثها قوى شعبيةوعسكرية، وامتدت ساحة عملياتها الحربية أراض واسعة من سورية والعراق، ولم تتوقف تلكالعمليات حتى بعد الاحتلال الفرنسي. وبقيت تواجه القوات البريطانية في العمقالعراقي حتى أوائل شهر آب عام 1920. وأشغلت أحداثها الدوائر العربية والبريطانيةمعاً طيلة فترة نهوضها.
وثورةدير الزور هي الوحيدة من بين الثورات العربية في زمانها، استطاعت أن تحقق أهدافها. في حين أخفقت بقية الثورات، فلم تستطع الثورات العربية أن تنجز الاستقلال، وجلاءالقوات الأجنبية المحتلة عن أراضيها، إلا ثورة دير الزور وحدها التي أجبرت القواتالإنكليزية بالجلاء المتكرر عن أراض ومدن عربية، وكادت أن تجبر القوات البريطانيةعلى الجلاء من الموصل ومن ولاية دليم في العراق. بعد أن أجلتهم عن مدينة "عانة" ولولا الاحتلال الفرنسي لدمشق، وسقوط الحكومة العربية الداعم الرئيس للثورة لحققتكثيراً من أهداف الثورة العربية. بعد أن وصلت إلى تكريت والشرقاط واحتلت تل عفر قربالموصل.
وبفضلالثورة عادت دير الزور بمدنها وريفها إلى قطرها العربي السوري، بعد أن كانت تتبعالحاكم السياسي البريطاني في بغداد. واستطاعت أن تفجر ثورة في العراق بعد ستة أشهرعلى انطلاقتها. ثم لتحيل العراق إلى بركان ثوري في وجه المستعمر البريطاني.
وساهمت ثورة دير الزور وثورة العشرين في العراق،في بناء دولة عربية خالصة في العراق، بعد أن كاد يلحق بالهند وغيره. فأسهمت ثورةدير الزور إسهاماً قومياً رائعاً في تسطير أنصع صفحات تاريخ العرب الحديث. وتحتاجإلى جهد متواصل من الباحثين والدارسين للكشف عن أحداثها اليومية، ودراسة نتائجهاعلى الصعيد الإقليمي والقومي. وأرجو أن أكون قد أسهمت في الكشف عن وجه هذه الثورةالعظيمة لتكون شعلة وضاءة للأجيال العربية القادمة، ولتكون مثالاًللجيل العربيالقادم الذي أحاطت به قوى البغي من كل مكان، تريد أرضه وثروته، وحتى وجوده. فكانتثورات الأجداد مثالاً لأجيال المستقبل وطريقاً لتحقيق أهداف أمتنا العربيةالعظيمة. زبير سلطان قدوري
الفصل الأول:
جمعية العهد
في 28تشرين الثاني عام 1913. أسس الضباط العرب العاملون في الجيش العثماني جمعية عربيةسرية في العاصمة العثمانية الأستانة، أطلقوا عليها اسم "العهد" وقد لعب الضابط عزيزعلي المصري(1)دوراً رئيسياً في تأسيسها. وضعالمؤسسون أهدافاً كبيرة لجمعيتهم. ومنها:
1. إنالعهد جمعية سياسية سريّة هدفها الاستقلال الذاتي للبلاد العربية، واتحادها معالأستانة على أسس مماثلة لتلك القائمة بالنمسا.
2. ينبغي الاحتفاظ بالخلافة الإسلامية بيد العثمانيين.
3. تولي الجمعية اهتماماً خاصاً بسلامة الأستانة وحمايتها من الدول الغربيةوالاستعمارية.
4. طيلة ستمائة عام ظل الأتراك يحتلون الحاميات الشرقية في وجه الغرب، وعلى الأمةالعربية أن تُعدّ نفسها، لتكون القوة الاحتياطية لهذه الحاميات"(2) .
وكتبأحد مؤسسي الجمعية الضابط "نوري السعيد" في مذكراته "إن غاية جمعية العهد كانتالحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية. على أن يشترك العرب والترك فيالإدارة العامة للدولة على أساس اتحادي. وكان بين الأتراك من يؤيد هذه الفكرة. ويؤازرها مثل مصطفى كمال باشا"(3) .
حافظتالجمعية على سريتها التامة. وقد علمت المخابرات التركية بوجودها، إلا إنها فشلتفشلاً ذريعاً بكشف المؤسسين والمنظمين لها، وظهر عجز الأجهزة الأمنية التركيةواضحاً خلال المحاكمات التي جرت لمؤسس الجمعية المقدم عزيز علي المصري في نيسان عام 1914 بأن تقدم أي دليل على تشكيله لجمعية مناهضة للنظام، والتي كان عقوبتهاالإعدام آنذاك، واقتصرت الاتهامات التي وجهت إليه، بأنه اختلس من أموال الجيشالعثماني. وقام بتسليم مدينة برقة الليبية للإيطاليين أثناء وجوده فيها مقابل رشوةمالية(4) . علماً أن الاتهامين باطلين لما عرف عنهبالأمانة والشجاعة، إنما كان الاتهام بحقد شخصي من وزير الحربية آنذاك أنور باشا. ولخلافات عميقة جرت بين الطرفين أثناء الحرب في ليبيا، ولسبب ثان هو دفاع عزيز عنبلاده العربية وحريتها.
ويذكرالفريق الركن طه الهاشمي في مذكراته عن جمعية العهد، أن عزيز المصري أملى عليهبرنامج جمعية العهد قبل اعتقاله. وقد أبلغ نوري السعيد بالأمر، فنسخ نوري البرنامجعلى مسودة ثم نسخة إلى عدة نسخ. ووزعها على أعضاء الجمعية(5) . كما كلف عزيز المصري طه الهاشمي بدعوة الضباطالعرب للانضمام إلى الجمعية بسرية مطلقة، وأن يقسم العضو اليمين على السيف والقرآن. بأن يحافظ على سرية الجمعية، ويناضل من أجل تحقيق برنامجها، وقد استطاع طه الهاشميأن يؤسس عدة فروع للجمعية حين تم نقله من الأستانة إلى اليمن. فاتصل بالعديد منالضباط العرب أثناء سيره لعمله الجديد. فافتتح للجمعية فروعاً عدة في عدد من المدنالعربية. مثل بيروت التي ترأس فرعها شريف الشريف. وانضم إلى فرع دمشق صادق الجنديوخالد الحكيم، أما فرع الموصل فترأسه ياسين الهاشمي وضم علي جودت. ومولود مخلص، أمافرع بغداد فضم شخصيات منهم حمدي الباجة جي(6) . ورشيد الخوجة. وعبد الحميد الشالجي. وتحسين العسكري وعاصم الجلبي. أما فرع البصرةفترأسه الأمين الباجه جي.
ومنالذين انتسبوا إليها من سورية: محمد إسماعيل الطباخ. ومصطفى وصفي. وسليم الجزائريوأمين لطفي. ويحيى كاظم- وعارف قوام. ومحيي الدين الجبان. من دمشق). وعليالنشاشيبيالقدس) ومن العراق- نوري السعيد- جميل المدفعي. إسماعيل الصغار- عبد اللهالدليمي- تحسين علي رشيد الخوجة- حميد الشالجي.(7)
ـ وقدخسرت الجمعية ثلاثة شهداء في مجزرة جمال باشا السفاح، وهم سليم الجزائري وأمينلطفي. وعلي النشاشيبي.
حافظتجمعية العهد على سريتها كما أشرنا رغم المحاولات العنيفة التي قامت بها الاستخباراتالتركية إلا أنها لم تنجح. وقد كتب أحد ضباط الاستخبارات التركية عزيز بك في كتابهالاستخبارات والجاسوسية في الدولة العثمانية) منهاج حزب العهد الذي ورد سابقاً. وقال إنه يتضمن:
"1-جمعية العهد جمعية سرية تعمل لاستقلال البلادالعربية الداخلي. متحدة مع حكومة الأستانة اتحاد المجر والنمسا 2-بقاء الخلافةالإسلامية بأيدي العثمانيين. 3-حماية الأستانة من مطامع الدول الأوربية لأنها رأسالشرق 4- إن المزايا الأخلاقية لحفظ كيان الأمة السياسي"( .
ويذكرجورج انطونيوس أن تقارير المخابرات تزايدت حول نشاطات الجمعيات القومية، ومنها أن "الجيش مليء بالخلايا الثورية، وإنجلترة وفرنسة هما عملاء في البلاد يحرضون علىالثورة. ومن المتوقع نزول قوات الحلفاء على شواطئ الشام، وأن بعض الضباط العرب قدتعهدوا بمساعدة الحلفاء حينما ينزلون هناك. ومن النادر أن تستطيع المخابراتالعسكرية متابعة غوامض المؤامرات السياسية، ولم تكن هيئة أركان الجيش الرابعمستثناة من هذه القاعدة، فبينما كانت تصغي بأذنيها للشائعات كان أنفها عاجزاً عنملاحقة رائحتها حتى مصدرها، وكانت الأخبار في جوهرها صحيحة. ولكن لم يكن من الممكناقتفاء أثرها للوصول إلى أحد المتآمرين"(9) . وأمام العجز التركي عن اكتشاف التنظيمات داخل الجيش رغم تراكم التقارير بوجودها،عمل جمال باشا قائد الجيش الرابع في سورية إلى رفع تقرير إلى أنور باشا وزيرالحربية بضرورة نقل وتوزيع الضباط العرب، وإبعادهم عن سورية. فاستجاب له وزيرالحربية، فتم نقل الفرقة الخامسة والعشرين التي تضم مجموعة كبيرة من الضباط العرب،والتي ينتمي عدد كبير منهم إلى جمعية العهد في حزيران 1915 إلى تركيا للقتال فيجبهة غاليبولي. وبعدها تم نقل عدد من الكتائب العربية من بلاد الشام، وإحلال كتائبتركية بدلاً عنها(10) .
ورغمممارسة التعذيب والقتل أحياناً وإعدام ثلاثة من قادة العهد هم سليم الجزائري وأمينلطفي وعلي النشاشيبي. لم تستطع المخابرات التركية أن تتكشف تنظيم العهد الذي نجح فيالحفاظ على سرية تنظيمه حتى جلاء الترك عن البلاد العربية.
العهد والثورة العربية
شاركتنظيم العهد في الثورة العربية من خلال ضباطه الذين التحقوا بها، وأسهموا إسهاماًكبيراً في تشكيل الجيوش العربية الأربع التي ظهرت بعد قيام الثورة العربية فيالحجاز، وفي المعارك الحاسمة والكمائن والاستخبارات ضد الترك. وكان عدد كبير منهؤلاء الضباط قد التحقوا في السنة الأولى من انفجار الثورة. فمنهم من جاء على ظهرباخرة سواء من ميناء البصرة أو من شواطئ مصر، والبعض تطوع في جيشها وهو في معسكراتالأسر الإنكليزية، ومنهم من هرب ليلاً متخفياً من جبهة القتال التركية إلى خطوطالقتال الإنكليزية.
وفيتشكيل أول وزارة للشريف حسين بعد قيام الثورة، عين زعيم العهد التاريخي عزيز عليالمصري وزيراً للحربية، وبقي ستة أشهر فيها، وغادر الحجاز بعد أن اختلف مع الشريفحسين لأسباب عديدة أهمها عدم ثقة عزيز المصري بالإنكليز والفرنسيين حلفاء الشريفحسين فلدى البلدين مخططات استعمارية تتصادم مع مبادئ وطموحات وأهداف جمعيته- جمعيةالعهد، وقد علم كبقية الضباط العرب وسياسي الأحزاب العربية بالاتفاقات السريةالتيعقدت بين الطرفين لاقتسام بلاد الشام والعراق. مما حدا به أن يتصل بالفريق فخريباشا قائد الجيش التركي المحاصر في المدينة المنورة مع قواته، ويعرض عليه تحالفاًضد القوات الغربية، مقابل أن يوافق الترك على منح العرب استقلالاً ذاتياً. وحين علمالشريف حسين بهذا الاتصال، أعطى المصري إجازة إجبارية لمصر، وبدون عودة.
أماضباط العهد وغيرهم من الضباط العرب حين سمعوا باتفاقات سايكس بيكو ووعد بلفور،أوقفوا القتال ضد الأتراك. وكادت الأمور أن تتحول إلى كارثة على الإنكليز والشريفحسين معاً. لولا تدخل الأمير فيصل شخصياً. الذي أقنع الضباط العرب باستئناف القتال. ومتابعة تحرير بلادهم، فدخلوا سورية في تشرين الأول 1918. وبعد تشكل الإدارةالعربية في دمشق. شارك ضباط العهد فيها، واحتلوا أرفع المناصب العسكرية والإدارية.
انقسام جمعية العهد إلى عهدين
بدأتبذور الانقسام داخل جمعية العهد، منذ أن كانت القوات العربية تتمركز في جنوبالأردن. حيث حدث خلاف بين الضباط السوريين والعراقيين، بسبب تولي الضباط العراقيينالمناصب القيادية في الجيش العربي المكلف بتحرير بلاد الشام، في حين كان الضباطالسوريون يتولون المناصب الثانوية. وقد سادهم شعور بأنهم أحق بتولي قيادة الجيشالزاحف لتحرير بلادهم. وإن كانت القيادة لإخوانهم في العروبة. إضافة إلى أنالسوريين كانوا يشعرون أن فيصل يفضل الضباط العراقيين عليهم. وكاد الخلاف يصل إلىحد انشقاق الجيش العربي، مما يؤثر على قوته ووحدته. فسارع نوري السعيد بالسفر معوفد رفيع إلى القاهرة، لبحث الخلاف مع قيادات سورية وطنية فيها. فاجتمع في بيت كاملالقصاب مع عدد من القياديين السوريين، فشرح لهم خطورة الأمر. فاتفقوا على أن يرسلكامل القصاب رسالة للضباط السوريين تحثهم على الوحدة مع إخوانهم العراقيين، وبأنهقادم إليهم قريباً. وعاد السعيد من القاهرة. ثم بعد فترة جاء القصاب إلى معسكرالقيادة في العقبة، والتقى بالضباط السوريين وأقنعهم بإنهاء الخلاف. كما التقىبالأمير فيصل، وحثه على عدم التفضيل بين الضباط العرب، وأن يتولى الضباط السوريونمناصب متقدمة كإخوانهم العراقيين في الجيش العربي، فوعده فيصل بتغيير سياسته. وقبلأن يعود كامل القصاب إلى القاهرة، التقى في اجتماع عام ضم الضباط السوريينوالعراقيين، وحثهم على الوحدة في سبيل القضية العربية. وزيادة في الاطمئنان طلبمنهم أن يقسموا على يمين كتبه بنفسه ونص على التالي: "أقسم بالله. ألا أشتغل إلاللبلاد العربية. والأمة العربية. وأن أُقاوم كل من يمدَّ يده للأجانب. وكل سلطةتتعاون مع الأجانب. وكل سلطة استبدادية في البلاد" وأقسم الضباط الحاضرون علىاليمين، وقبّلوا بعضهم، وانتهى الخلاف. وغادر كامل القصاب المعسكر عائداً إلىالقاهرة على أن يصدر الأمير فيصل تشكيلات جديدة للقيادات العسكرية العربية ينصففيها السوريين. إلا أن الأمير فيصل أصدر تشكيلاته العسكرية الجديدة فاحتفظالعراقيون بالمناصب العليا وأعطيت للسوريين قيادات هامشية. فسقط اتفاق القصابوالأمير فيصل(11) . فعاد الخلاف بين الطرفين الذياستمر إلى مابعد بعد انتصار الثورة وتولي فيصل الحكم في سورية. فجمّدت الجمعية حتىانقسمت إلى حزبين. حزب عهد سوري، وحزب عهد عراقي.
حزب العهد العراقي
شكلعدد من الضباط العراقيين وبعض السياسيين المتواجدين في دمشق عام 1919 حزب عهد عراقيوضعوا له برنامجاً. جاء في مادته الأولى. ما يلي.
"إنغاية الجمعية الأساسية هي كما يلي:
أ- استقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية. وداخل حدوده الطبيعية وهي: يقسم العراق إلى ثلاث مناطق: الأدنى. والأوسط. والأعلى. ويمتد حدود الفرات شماليدير الزور. وضفة دجلة الممتدة من قرب شمالي دياربكر إلى خليج البصرة. ويشمل ضفتيدجلة والفرات من الشمال واليمين المحدود بالمواقع الطبيعية.
ب- أن يكون للعراق الخيار في من يشاء من الأمم الراقية للمعاونة في الشؤون الفنيةوالاقتصادية إذا اقتضت الحاجة على أن لا تمس تلك المساعدة بالاستقلال التام.
ج- إنهاض الشعب العراقي ليباري أرقى الأمم.
د- السعي لخير الأمة العربية."(12) .
- انقسام الضباط العراقيين
لميكن الضباط العراقيين في حزب العهد العراقي على رأي واحد تجاه مستقبل العراقالسياسي والعلاقة مع بريطانيا المحتلة له، فقد انقسموا إلى ثلاث مجموعات. المجموعةالأولى ترفض الوجود البريطاني في بلادهم وتدعو إلى الاستقلال التام، ويترأسالمجموعة الفريق ياسين باشا الهاشمي(13)المعروفبمعاداته للإنكليز والفرنسيين. والمجموعة الثانية كانت ترى أن لا مستقبل للعراقبدون التحالف مع بريطانيا، ووجودها في العراق للأخذ بيده والنهوض به، ويتزعم هذهالمجموعة نوري السعيد(14) 3. وجعفر العسكري(15)، وبقيت مجموعة وسطية بين المجموعتين فهي تريدالاستقلال التام للعراق ولكن دون استخدام العنف وإثارة بريطانيا، إلا أن هذهالمجموعة انضمت بعد انفجار ثورة دير الزور، وتداعياتها، واكتشاف النوايا البريطانيةتجاه العراق إلى المجموعة الأولى. ومارست العمل الثوري والقتالي ضد الوجودالبريطاني في العراق.
هوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عزيز علي المصري 1880- 1964) من أسرة عربية عريقةسكنت العراق وانتقلت إلى مصر، درس الثانوية في القاهرة، والتحق بالكلية العسكرية فيالأستانة، ثم في كلية الأركان فتخرج منها بتفوق عام 1904. انضم إلى جمعية الاتحادوالترقي، وشارك في انقلابها العسكري عام 1908، ترك الاتحاد والترقي بسبب معاداتهاللعرب. أسس مع الشهيد سليم الجزائري الجمعية القحطانية، التي نادت بمملكة ذات تاجين(العرب والترك). عمل على وقف الحرب في اليمن عام 1910. حارب بشجاعة وبطولة في ليبيا ضدالغزو الإيطالي. عاد إلى الأستانة عام 1913 ، وأسس جمعية العهد، اعتقل في 9 شباط 1914، وحكم عليه بالإعدام، وأطلق سراحه في 21 نيسان 1914 ونفي إلى مصر. تولى وزارةالحرب في حكومة الشريف حسين الأول عام 1916، واختلف مع الشريف بسبب ارتباطاته معالإنكليز وعاد إلى مصر.
(2)أحمد عزت الأعظمي- القضية العربية. أسبابها. مقدماتها. تطورها. نتائجها. بغداد. مطبعة الشعب 1931- ح4- ص23.
(3)نوري السعيد- مذكرات- بغداد- مطبعة الجيش- 1947- ج1- ص5.
(4)جورج انطونيوس- يقظة العرب- بيروت. دار العلمللملايين- طبعة ثانية 1967- ص197.
(5)طه الهاشمي- مذكرات- بيروت- دار الطليعة- 1967- ص255.
(6)عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى- صيدا- مطبعة عرفان 1952- ص43.
(7)عزة دروزه- الحركة العربية الحديثة، تاريخ ومذكراتوتعليقات- صيدا 1950- ص33.
(عزيز بك- الاستخبارات والجاسوسية في الدولةالعثمانية- تعريب فؤاد ميداني- بيروت- ..
ص28/29.
(9)جورج أنطونيوس- يقظة العرب- مصدر سابق ص279.
(10)المصدر السابق ص279.
(11)د. علي سلطان- تاريخ 1908- 1918- دار طلاس دمشقج1- 1987 ص469.
(12)عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى مصدرسابق ص44.
(13)ياسين باشا الهاشمي 1882- 1937). ولد في بغداد،وتعلم في الأستانة في الكلية العسكرية ثم مدرسة الأركان. فتخرج ضابط أركان حرب عام 1905. انتسب إلى جمعية العهد. وخلال وجوده في دمشق انضم أيضاً إلى الجمعية العربيةالفتاة. فكان حلقة الوصل بين الجمعيتين قاتل في النمسا ضد الروس في غاليسيا. قاتلمع الترك ضد الجيش العربي في الشونة. اختفى بعد وصول فيصل إلى دمشق 1918. فقد رفضالانضمام إلى الثورة العربية لرفضه التحالف مع بريطانيا وفرنسا. وكان في عام 1915حرض فيصل على الثورة حين كان رئيساً لأركان الفرقة الثالثة عشر. عفا عنه فيصل، وعينرئيساً لأركان الجيش ديوان الشورى) رغم اعتراضات الإنكليز.
(14)نوري السعيد 1888- 1958) ولد في بغداد، وتخرج منثانويتها عام 1903. وتابع دراسته في الأستانة في كليتها العسكرية وتخرج منالأكاديمية العسكرية عام 1906، وانتسب إلى جمعية العهد 1913، وهرب بعد افتضاح أمرهإلى البصرة، وبقي برعاية طالب النقيب حتى هرب إلى الحجاز، والتحق بالثورة العربية،وتولى عدة مراكز قيادية في الجيش العربي. وبعد تولي فيصل الحكم في سورية أصبحقائداً لموقع دمشق وسكرتيره الخاص. وبعد عودته إلى العراق تولى رئاسة الوزارات عدةمرات. كان معجباً جداً ببريطانيا حتى العشق مما اعتبره معظم العرب أحد عملائها فيالمنطقة وأدت هذه المحبة وسياسته الموالية للغرب إلى قتله وسحله في شوارع بغداد بعدقيام ثورة 14 تموز 1958.
(15)جعفر العسكري 1884- 1936) درس في بغداد والموصلعام 1901. درس في الكلية العسكرية في الأستانة، وتخرج منها ملازماً في عام 1904،أرسل إلى ألمانيا في عام 1910 لدراسة العلوم العسكرية، وبقي حتى عام 1914. لم يشتركفي تأسيس العهد. شارك في القتال في ليبيا واعتقل في جبهة القتال من الإنكليز 1916والتحق بالثورة العربية وأصبح قائداً لجيش فيصل. ثم والياً على حلب. وبعد عودتهللعراق تولى وزارة الدفاع ثم رئاسة الحكومة. قتل بعد قيام ثورة بكر صدقي عام 1936.
شاركت في أحداثها قوى شعبية وعسكرية..وامتدت ساحة عملياتها الحربية في أراض واسعة من سوريا والعراق
طه الهاشمي في الجيش العربي
النور - الملف برس
تشرع "النور" بدءاً من هذا العدد في نشر كتاب "الثورة المنسيّة" الذي يبحث فيه مؤلفه زبير سلطان قدوري، في الكثير من خفايا الملفات التي تكشف أن ثورتي "دير الزور" و"ثورة العشرين" هما اللتان منعتا بريطانيا من إلحاق العراق بالهند، مؤكداً أن قوى شعبية وعسكرية شاركت في هذه الثورة التي امتدت ساحة عملياتها الحربية في أراض واسعة من سوريا والعراق. ويقول المؤلف إن الثورة كادت تجبر البريطانيين على الجلاء من الموصل وولاية "الدليم" بعد أن أجلتهم من "عانة" ووصلت إلى "تكريت". وكانت بداية تشكيل خلايا هذه الثورة قد بدأت مع انبثاق جمعية "العهد" السرية بزعامة الضابط عزيز علي المصري، وهو من أسرة عربية عريقة سكنت العراق. وكان نوري السعيد قد كتب في مذكراته أن غاية جمعية العهد، هي الحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية .
الجزء الأول
مقدمة
كانعام 1919. يموج بالانتفاضات والثورات في العديد من بقاع الوطن العربي بدءاً منمراكش مروراً بمصر ولبنان وسورية والعراق، تحدثت عنها كتب التاريخ العربي التي تملأالمكتبات، وتناولتها المناهج الدراسية في المدارس والجامعات العربية، وأُلفت حولهاقائمة طويلة من الدراسات والبحوث الأكاديمية وغيرها. إلا ثورة (دير الزور) التي تفجرتفي كانون الأول عام 1919، بقيت وحدها في طيّ النسيان، فلم يُفرد لها كتاب خاص يبحثفي دوافعها السياسية والعسكرية والاجتماعية، أو تطوراتها، وأحداثها ونتائجها،وانعكاساتها على المستويين الإقليمي والعربي.
ممايثير الدهشة أن عدداً كبيراً من الباحثين والكتاب والدارسين في قطرنا لا يعرف عنهاشيئاً. حتى إنه لم يسمع بها، وإن سمِعَ فلا تزيد معرفته عن اسم رمضان شلاش قامبحركة في دير الزور. لكن أين؟ ومتى؟ وكيف؟ فذلك يجهله جهلاً مطلقاً!!.
وحينقمت بالبحث والدراسة في وثائق تلك الحركة، ووصلت إلى بعض إنجازاتها، وحقائقها،وتحدثت عنها لعدد من الباحثين والدارسين، رأيت علامات التعجب والاستغراب تعلووجوههم وطلب البعض أن أسميها بالثورة المجهولة. لأن الغالبية العظمى من الباحثين،وحتى من أهالي دير الزور أنفسهم يجهل عنها الكثير.
ثورةدير الزور لم تكن ثورة عادية، أو انتفاضة مدينة انتهت في حينها، أو صدام جرى بينشعب ومستعمر وانتهى، بل كانت ثورة قومية شاملة بكل الأبعاد، حملت أهدافاً وشعاراتعربية كبيرة. وقد قادها تنظيم قومي عربي معروف، وشاركت في أحداثها قوى شعبيةوعسكرية، وامتدت ساحة عملياتها الحربية أراض واسعة من سورية والعراق، ولم تتوقف تلكالعمليات حتى بعد الاحتلال الفرنسي. وبقيت تواجه القوات البريطانية في العمقالعراقي حتى أوائل شهر آب عام 1920. وأشغلت أحداثها الدوائر العربية والبريطانيةمعاً طيلة فترة نهوضها.
وثورةدير الزور هي الوحيدة من بين الثورات العربية في زمانها، استطاعت أن تحقق أهدافها. في حين أخفقت بقية الثورات، فلم تستطع الثورات العربية أن تنجز الاستقلال، وجلاءالقوات الأجنبية المحتلة عن أراضيها، إلا ثورة دير الزور وحدها التي أجبرت القواتالإنكليزية بالجلاء المتكرر عن أراض ومدن عربية، وكادت أن تجبر القوات البريطانيةعلى الجلاء من الموصل ومن ولاية دليم في العراق. بعد أن أجلتهم عن مدينة "عانة" ولولا الاحتلال الفرنسي لدمشق، وسقوط الحكومة العربية الداعم الرئيس للثورة لحققتكثيراً من أهداف الثورة العربية. بعد أن وصلت إلى تكريت والشرقاط واحتلت تل عفر قربالموصل.
وبفضلالثورة عادت دير الزور بمدنها وريفها إلى قطرها العربي السوري، بعد أن كانت تتبعالحاكم السياسي البريطاني في بغداد. واستطاعت أن تفجر ثورة في العراق بعد ستة أشهرعلى انطلاقتها. ثم لتحيل العراق إلى بركان ثوري في وجه المستعمر البريطاني.
وساهمت ثورة دير الزور وثورة العشرين في العراق،في بناء دولة عربية خالصة في العراق، بعد أن كاد يلحق بالهند وغيره. فأسهمت ثورةدير الزور إسهاماً قومياً رائعاً في تسطير أنصع صفحات تاريخ العرب الحديث. وتحتاجإلى جهد متواصل من الباحثين والدارسين للكشف عن أحداثها اليومية، ودراسة نتائجهاعلى الصعيد الإقليمي والقومي. وأرجو أن أكون قد أسهمت في الكشف عن وجه هذه الثورةالعظيمة لتكون شعلة وضاءة للأجيال العربية القادمة، ولتكون مثالاًللجيل العربيالقادم الذي أحاطت به قوى البغي من كل مكان، تريد أرضه وثروته، وحتى وجوده. فكانتثورات الأجداد مثالاً لأجيال المستقبل وطريقاً لتحقيق أهداف أمتنا العربيةالعظيمة. زبير سلطان قدوري
الفصل الأول:
جمعية العهد
في 28تشرين الثاني عام 1913. أسس الضباط العرب العاملون في الجيش العثماني جمعية عربيةسرية في العاصمة العثمانية الأستانة، أطلقوا عليها اسم "العهد" وقد لعب الضابط عزيزعلي المصري(1)دوراً رئيسياً في تأسيسها. وضعالمؤسسون أهدافاً كبيرة لجمعيتهم. ومنها:
1. إنالعهد جمعية سياسية سريّة هدفها الاستقلال الذاتي للبلاد العربية، واتحادها معالأستانة على أسس مماثلة لتلك القائمة بالنمسا.
2. ينبغي الاحتفاظ بالخلافة الإسلامية بيد العثمانيين.
3. تولي الجمعية اهتماماً خاصاً بسلامة الأستانة وحمايتها من الدول الغربيةوالاستعمارية.
4. طيلة ستمائة عام ظل الأتراك يحتلون الحاميات الشرقية في وجه الغرب، وعلى الأمةالعربية أن تُعدّ نفسها، لتكون القوة الاحتياطية لهذه الحاميات"(2) .
وكتبأحد مؤسسي الجمعية الضابط "نوري السعيد" في مذكراته "إن غاية جمعية العهد كانتالحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية. على أن يشترك العرب والترك فيالإدارة العامة للدولة على أساس اتحادي. وكان بين الأتراك من يؤيد هذه الفكرة. ويؤازرها مثل مصطفى كمال باشا"(3) .
حافظتالجمعية على سريتها التامة. وقد علمت المخابرات التركية بوجودها، إلا إنها فشلتفشلاً ذريعاً بكشف المؤسسين والمنظمين لها، وظهر عجز الأجهزة الأمنية التركيةواضحاً خلال المحاكمات التي جرت لمؤسس الجمعية المقدم عزيز علي المصري في نيسان عام 1914 بأن تقدم أي دليل على تشكيله لجمعية مناهضة للنظام، والتي كان عقوبتهاالإعدام آنذاك، واقتصرت الاتهامات التي وجهت إليه، بأنه اختلس من أموال الجيشالعثماني. وقام بتسليم مدينة برقة الليبية للإيطاليين أثناء وجوده فيها مقابل رشوةمالية(4) . علماً أن الاتهامين باطلين لما عرف عنهبالأمانة والشجاعة، إنما كان الاتهام بحقد شخصي من وزير الحربية آنذاك أنور باشا. ولخلافات عميقة جرت بين الطرفين أثناء الحرب في ليبيا، ولسبب ثان هو دفاع عزيز عنبلاده العربية وحريتها.
ويذكرالفريق الركن طه الهاشمي في مذكراته عن جمعية العهد، أن عزيز المصري أملى عليهبرنامج جمعية العهد قبل اعتقاله. وقد أبلغ نوري السعيد بالأمر، فنسخ نوري البرنامجعلى مسودة ثم نسخة إلى عدة نسخ. ووزعها على أعضاء الجمعية(5) . كما كلف عزيز المصري طه الهاشمي بدعوة الضباطالعرب للانضمام إلى الجمعية بسرية مطلقة، وأن يقسم العضو اليمين على السيف والقرآن. بأن يحافظ على سرية الجمعية، ويناضل من أجل تحقيق برنامجها، وقد استطاع طه الهاشميأن يؤسس عدة فروع للجمعية حين تم نقله من الأستانة إلى اليمن. فاتصل بالعديد منالضباط العرب أثناء سيره لعمله الجديد. فافتتح للجمعية فروعاً عدة في عدد من المدنالعربية. مثل بيروت التي ترأس فرعها شريف الشريف. وانضم إلى فرع دمشق صادق الجنديوخالد الحكيم، أما فرع الموصل فترأسه ياسين الهاشمي وضم علي جودت. ومولود مخلص، أمافرع بغداد فضم شخصيات منهم حمدي الباجة جي(6) . ورشيد الخوجة. وعبد الحميد الشالجي. وتحسين العسكري وعاصم الجلبي. أما فرع البصرةفترأسه الأمين الباجه جي.
ومنالذين انتسبوا إليها من سورية: محمد إسماعيل الطباخ. ومصطفى وصفي. وسليم الجزائريوأمين لطفي. ويحيى كاظم- وعارف قوام. ومحيي الدين الجبان. من دمشق). وعليالنشاشيبيالقدس) ومن العراق- نوري السعيد- جميل المدفعي. إسماعيل الصغار- عبد اللهالدليمي- تحسين علي رشيد الخوجة- حميد الشالجي.(7)
ـ وقدخسرت الجمعية ثلاثة شهداء في مجزرة جمال باشا السفاح، وهم سليم الجزائري وأمينلطفي. وعلي النشاشيبي.
حافظتجمعية العهد على سريتها كما أشرنا رغم المحاولات العنيفة التي قامت بها الاستخباراتالتركية إلا أنها لم تنجح. وقد كتب أحد ضباط الاستخبارات التركية عزيز بك في كتابهالاستخبارات والجاسوسية في الدولة العثمانية) منهاج حزب العهد الذي ورد سابقاً. وقال إنه يتضمن:
"1-جمعية العهد جمعية سرية تعمل لاستقلال البلادالعربية الداخلي. متحدة مع حكومة الأستانة اتحاد المجر والنمسا 2-بقاء الخلافةالإسلامية بأيدي العثمانيين. 3-حماية الأستانة من مطامع الدول الأوربية لأنها رأسالشرق 4- إن المزايا الأخلاقية لحفظ كيان الأمة السياسي"( .
ويذكرجورج انطونيوس أن تقارير المخابرات تزايدت حول نشاطات الجمعيات القومية، ومنها أن "الجيش مليء بالخلايا الثورية، وإنجلترة وفرنسة هما عملاء في البلاد يحرضون علىالثورة. ومن المتوقع نزول قوات الحلفاء على شواطئ الشام، وأن بعض الضباط العرب قدتعهدوا بمساعدة الحلفاء حينما ينزلون هناك. ومن النادر أن تستطيع المخابراتالعسكرية متابعة غوامض المؤامرات السياسية، ولم تكن هيئة أركان الجيش الرابعمستثناة من هذه القاعدة، فبينما كانت تصغي بأذنيها للشائعات كان أنفها عاجزاً عنملاحقة رائحتها حتى مصدرها، وكانت الأخبار في جوهرها صحيحة. ولكن لم يكن من الممكناقتفاء أثرها للوصول إلى أحد المتآمرين"(9) . وأمام العجز التركي عن اكتشاف التنظيمات داخل الجيش رغم تراكم التقارير بوجودها،عمل جمال باشا قائد الجيش الرابع في سورية إلى رفع تقرير إلى أنور باشا وزيرالحربية بضرورة نقل وتوزيع الضباط العرب، وإبعادهم عن سورية. فاستجاب له وزيرالحربية، فتم نقل الفرقة الخامسة والعشرين التي تضم مجموعة كبيرة من الضباط العرب،والتي ينتمي عدد كبير منهم إلى جمعية العهد في حزيران 1915 إلى تركيا للقتال فيجبهة غاليبولي. وبعدها تم نقل عدد من الكتائب العربية من بلاد الشام، وإحلال كتائبتركية بدلاً عنها(10) .
ورغمممارسة التعذيب والقتل أحياناً وإعدام ثلاثة من قادة العهد هم سليم الجزائري وأمينلطفي وعلي النشاشيبي. لم تستطع المخابرات التركية أن تتكشف تنظيم العهد الذي نجح فيالحفاظ على سرية تنظيمه حتى جلاء الترك عن البلاد العربية.
العهد والثورة العربية
شاركتنظيم العهد في الثورة العربية من خلال ضباطه الذين التحقوا بها، وأسهموا إسهاماًكبيراً في تشكيل الجيوش العربية الأربع التي ظهرت بعد قيام الثورة العربية فيالحجاز، وفي المعارك الحاسمة والكمائن والاستخبارات ضد الترك. وكان عدد كبير منهؤلاء الضباط قد التحقوا في السنة الأولى من انفجار الثورة. فمنهم من جاء على ظهرباخرة سواء من ميناء البصرة أو من شواطئ مصر، والبعض تطوع في جيشها وهو في معسكراتالأسر الإنكليزية، ومنهم من هرب ليلاً متخفياً من جبهة القتال التركية إلى خطوطالقتال الإنكليزية.
وفيتشكيل أول وزارة للشريف حسين بعد قيام الثورة، عين زعيم العهد التاريخي عزيز عليالمصري وزيراً للحربية، وبقي ستة أشهر فيها، وغادر الحجاز بعد أن اختلف مع الشريفحسين لأسباب عديدة أهمها عدم ثقة عزيز المصري بالإنكليز والفرنسيين حلفاء الشريفحسين فلدى البلدين مخططات استعمارية تتصادم مع مبادئ وطموحات وأهداف جمعيته- جمعيةالعهد، وقد علم كبقية الضباط العرب وسياسي الأحزاب العربية بالاتفاقات السريةالتيعقدت بين الطرفين لاقتسام بلاد الشام والعراق. مما حدا به أن يتصل بالفريق فخريباشا قائد الجيش التركي المحاصر في المدينة المنورة مع قواته، ويعرض عليه تحالفاًضد القوات الغربية، مقابل أن يوافق الترك على منح العرب استقلالاً ذاتياً. وحين علمالشريف حسين بهذا الاتصال، أعطى المصري إجازة إجبارية لمصر، وبدون عودة.
أماضباط العهد وغيرهم من الضباط العرب حين سمعوا باتفاقات سايكس بيكو ووعد بلفور،أوقفوا القتال ضد الأتراك. وكادت الأمور أن تتحول إلى كارثة على الإنكليز والشريفحسين معاً. لولا تدخل الأمير فيصل شخصياً. الذي أقنع الضباط العرب باستئناف القتال. ومتابعة تحرير بلادهم، فدخلوا سورية في تشرين الأول 1918. وبعد تشكل الإدارةالعربية في دمشق. شارك ضباط العهد فيها، واحتلوا أرفع المناصب العسكرية والإدارية.
انقسام جمعية العهد إلى عهدين
بدأتبذور الانقسام داخل جمعية العهد، منذ أن كانت القوات العربية تتمركز في جنوبالأردن. حيث حدث خلاف بين الضباط السوريين والعراقيين، بسبب تولي الضباط العراقيينالمناصب القيادية في الجيش العربي المكلف بتحرير بلاد الشام، في حين كان الضباطالسوريون يتولون المناصب الثانوية. وقد سادهم شعور بأنهم أحق بتولي قيادة الجيشالزاحف لتحرير بلادهم. وإن كانت القيادة لإخوانهم في العروبة. إضافة إلى أنالسوريين كانوا يشعرون أن فيصل يفضل الضباط العراقيين عليهم. وكاد الخلاف يصل إلىحد انشقاق الجيش العربي، مما يؤثر على قوته ووحدته. فسارع نوري السعيد بالسفر معوفد رفيع إلى القاهرة، لبحث الخلاف مع قيادات سورية وطنية فيها. فاجتمع في بيت كاملالقصاب مع عدد من القياديين السوريين، فشرح لهم خطورة الأمر. فاتفقوا على أن يرسلكامل القصاب رسالة للضباط السوريين تحثهم على الوحدة مع إخوانهم العراقيين، وبأنهقادم إليهم قريباً. وعاد السعيد من القاهرة. ثم بعد فترة جاء القصاب إلى معسكرالقيادة في العقبة، والتقى بالضباط السوريين وأقنعهم بإنهاء الخلاف. كما التقىبالأمير فيصل، وحثه على عدم التفضيل بين الضباط العرب، وأن يتولى الضباط السوريونمناصب متقدمة كإخوانهم العراقيين في الجيش العربي، فوعده فيصل بتغيير سياسته. وقبلأن يعود كامل القصاب إلى القاهرة، التقى في اجتماع عام ضم الضباط السوريينوالعراقيين، وحثهم على الوحدة في سبيل القضية العربية. وزيادة في الاطمئنان طلبمنهم أن يقسموا على يمين كتبه بنفسه ونص على التالي: "أقسم بالله. ألا أشتغل إلاللبلاد العربية. والأمة العربية. وأن أُقاوم كل من يمدَّ يده للأجانب. وكل سلطةتتعاون مع الأجانب. وكل سلطة استبدادية في البلاد" وأقسم الضباط الحاضرون علىاليمين، وقبّلوا بعضهم، وانتهى الخلاف. وغادر كامل القصاب المعسكر عائداً إلىالقاهرة على أن يصدر الأمير فيصل تشكيلات جديدة للقيادات العسكرية العربية ينصففيها السوريين. إلا أن الأمير فيصل أصدر تشكيلاته العسكرية الجديدة فاحتفظالعراقيون بالمناصب العليا وأعطيت للسوريين قيادات هامشية. فسقط اتفاق القصابوالأمير فيصل(11) . فعاد الخلاف بين الطرفين الذياستمر إلى مابعد بعد انتصار الثورة وتولي فيصل الحكم في سورية. فجمّدت الجمعية حتىانقسمت إلى حزبين. حزب عهد سوري، وحزب عهد عراقي.
حزب العهد العراقي
شكلعدد من الضباط العراقيين وبعض السياسيين المتواجدين في دمشق عام 1919 حزب عهد عراقيوضعوا له برنامجاً. جاء في مادته الأولى. ما يلي.
"إنغاية الجمعية الأساسية هي كما يلي:
أ- استقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية. وداخل حدوده الطبيعية وهي: يقسم العراق إلى ثلاث مناطق: الأدنى. والأوسط. والأعلى. ويمتد حدود الفرات شماليدير الزور. وضفة دجلة الممتدة من قرب شمالي دياربكر إلى خليج البصرة. ويشمل ضفتيدجلة والفرات من الشمال واليمين المحدود بالمواقع الطبيعية.
ب- أن يكون للعراق الخيار في من يشاء من الأمم الراقية للمعاونة في الشؤون الفنيةوالاقتصادية إذا اقتضت الحاجة على أن لا تمس تلك المساعدة بالاستقلال التام.
ج- إنهاض الشعب العراقي ليباري أرقى الأمم.
د- السعي لخير الأمة العربية."(12) .
- انقسام الضباط العراقيين
لميكن الضباط العراقيين في حزب العهد العراقي على رأي واحد تجاه مستقبل العراقالسياسي والعلاقة مع بريطانيا المحتلة له، فقد انقسموا إلى ثلاث مجموعات. المجموعةالأولى ترفض الوجود البريطاني في بلادهم وتدعو إلى الاستقلال التام، ويترأسالمجموعة الفريق ياسين باشا الهاشمي(13)المعروفبمعاداته للإنكليز والفرنسيين. والمجموعة الثانية كانت ترى أن لا مستقبل للعراقبدون التحالف مع بريطانيا، ووجودها في العراق للأخذ بيده والنهوض به، ويتزعم هذهالمجموعة نوري السعيد(14) 3. وجعفر العسكري(15)، وبقيت مجموعة وسطية بين المجموعتين فهي تريدالاستقلال التام للعراق ولكن دون استخدام العنف وإثارة بريطانيا، إلا أن هذهالمجموعة انضمت بعد انفجار ثورة دير الزور، وتداعياتها، واكتشاف النوايا البريطانيةتجاه العراق إلى المجموعة الأولى. ومارست العمل الثوري والقتالي ضد الوجودالبريطاني في العراق.
هوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عزيز علي المصري 1880- 1964) من أسرة عربية عريقةسكنت العراق وانتقلت إلى مصر، درس الثانوية في القاهرة، والتحق بالكلية العسكرية فيالأستانة، ثم في كلية الأركان فتخرج منها بتفوق عام 1904. انضم إلى جمعية الاتحادوالترقي، وشارك في انقلابها العسكري عام 1908، ترك الاتحاد والترقي بسبب معاداتهاللعرب. أسس مع الشهيد سليم الجزائري الجمعية القحطانية، التي نادت بمملكة ذات تاجين(العرب والترك). عمل على وقف الحرب في اليمن عام 1910. حارب بشجاعة وبطولة في ليبيا ضدالغزو الإيطالي. عاد إلى الأستانة عام 1913 ، وأسس جمعية العهد، اعتقل في 9 شباط 1914، وحكم عليه بالإعدام، وأطلق سراحه في 21 نيسان 1914 ونفي إلى مصر. تولى وزارةالحرب في حكومة الشريف حسين الأول عام 1916، واختلف مع الشريف بسبب ارتباطاته معالإنكليز وعاد إلى مصر.
(2)أحمد عزت الأعظمي- القضية العربية. أسبابها. مقدماتها. تطورها. نتائجها. بغداد. مطبعة الشعب 1931- ح4- ص23.
(3)نوري السعيد- مذكرات- بغداد- مطبعة الجيش- 1947- ج1- ص5.
(4)جورج انطونيوس- يقظة العرب- بيروت. دار العلمللملايين- طبعة ثانية 1967- ص197.
(5)طه الهاشمي- مذكرات- بيروت- دار الطليعة- 1967- ص255.
(6)عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى- صيدا- مطبعة عرفان 1952- ص43.
(7)عزة دروزه- الحركة العربية الحديثة، تاريخ ومذكراتوتعليقات- صيدا 1950- ص33.
(عزيز بك- الاستخبارات والجاسوسية في الدولةالعثمانية- تعريب فؤاد ميداني- بيروت- ..
ص28/29.
(9)جورج أنطونيوس- يقظة العرب- مصدر سابق ص279.
(10)المصدر السابق ص279.
(11)د. علي سلطان- تاريخ 1908- 1918- دار طلاس دمشقج1- 1987 ص469.
(12)عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى مصدرسابق ص44.
(13)ياسين باشا الهاشمي 1882- 1937). ولد في بغداد،وتعلم في الأستانة في الكلية العسكرية ثم مدرسة الأركان. فتخرج ضابط أركان حرب عام 1905. انتسب إلى جمعية العهد. وخلال وجوده في دمشق انضم أيضاً إلى الجمعية العربيةالفتاة. فكان حلقة الوصل بين الجمعيتين قاتل في النمسا ضد الروس في غاليسيا. قاتلمع الترك ضد الجيش العربي في الشونة. اختفى بعد وصول فيصل إلى دمشق 1918. فقد رفضالانضمام إلى الثورة العربية لرفضه التحالف مع بريطانيا وفرنسا. وكان في عام 1915حرض فيصل على الثورة حين كان رئيساً لأركان الفرقة الثالثة عشر. عفا عنه فيصل، وعينرئيساً لأركان الجيش ديوان الشورى) رغم اعتراضات الإنكليز.
(14)نوري السعيد 1888- 1958) ولد في بغداد، وتخرج منثانويتها عام 1903. وتابع دراسته في الأستانة في كليتها العسكرية وتخرج منالأكاديمية العسكرية عام 1906، وانتسب إلى جمعية العهد 1913، وهرب بعد افتضاح أمرهإلى البصرة، وبقي برعاية طالب النقيب حتى هرب إلى الحجاز، والتحق بالثورة العربية،وتولى عدة مراكز قيادية في الجيش العربي. وبعد تولي فيصل الحكم في سورية أصبحقائداً لموقع دمشق وسكرتيره الخاص. وبعد عودته إلى العراق تولى رئاسة الوزارات عدةمرات. كان معجباً جداً ببريطانيا حتى العشق مما اعتبره معظم العرب أحد عملائها فيالمنطقة وأدت هذه المحبة وسياسته الموالية للغرب إلى قتله وسحله في شوارع بغداد بعدقيام ثورة 14 تموز 1958.
(15)جعفر العسكري 1884- 1936) درس في بغداد والموصلعام 1901. درس في الكلية العسكرية في الأستانة، وتخرج منها ملازماً في عام 1904،أرسل إلى ألمانيا في عام 1910 لدراسة العلوم العسكرية، وبقي حتى عام 1914. لم يشتركفي تأسيس العهد. شارك في القتال في ليبيا واعتقل في جبهة القتال من الإنكليز 1916والتحق بالثورة العربية وأصبح قائداً لجيش فيصل. ثم والياً على حلب. وبعد عودتهللعراق تولى وزارة الدفاع ثم رئاسة الحكومة. قتل بعد قيام ثورة بكر صدقي عام 1936.