قراءة جديدة في القوة الأميركية (4 ـ 15)
لايمكن القول إن قراءة جور فيدال قد تحققت بصورة كاملة، وأن الامبراطورية الأميركية قد أصابها الانحلال والسقوط، وفي الوقت ذاته لا يمكن تجاهل ما تنبأ به فيدال، والسبب في كل ذلك أن الولايات المتحدة ما زالت قوية ولها فروضها الواضحة في السياسة الدولية، ولا يمكن تجاهل الدور الأميركي في الكثير من الأحداث التي يشهدها العالم، فهناك وجود عسكري لأميركا في عشرات الدول، كما أن قواعد عسكرية عملاقة في العديد من دول العالم في خدمة القوات الأميركية، منها في ألمانيا وفي تركيا وفي المحيط الهندي وأسبانيا وبريطانيا وفي منطقة الخليج العربي وأماكن عديدة أخرى، وما زالت الصناعة العسكرية الأميركية تتصدر الصناعات الحربية الثقيلة في العالم.
لكن هل يمكن تجاهل القراءة التي ذهبت الى الصورة الأخرى للامبراطورية الاميركية، عندما كانت هذه الامبراطورية في قمة قوتها وعنفوانها، ولا يوجد مؤشر واحد يشير الى ضعف أو وهن قد ينخر جسدها العملاق؟
تختلف قراءة المفكرين للمستقبل كثيرا عن قراءات السياسيين وحتى المراقبين، فالنظرة الفاحصة تتأمل بدقة متناهية مفاصل مهمة قد لا يراها الكثيرون، وإذا خاض السياسي في الأحداث من زاوية يغلب عليها الجانب العاطفي أكثر من سواه، فإن المفكر يغوص في الأعماق دون أن يتأثر بالعواطف،لهذا فإن السياسيين نادرا ما يستعينون بسياسيين سابقين عندما يريدون تعلم الدروس الكبيرة، وقد يأخذون بنصائح معينة في زوايا محددة، أما الأسماء التي يبحثون في طروحاتهم وأفكارهم فتغوص في أعماق التأريخ، ومهما اعتقد السياسي أنه عالم وعبقري فإن مصادر أساسية لابد من التوقف عندها والتعرف على فحوى الطروحات والأفكار، وليس بإمكان أي سياسي يبحث عن المعرفة السياسية الحقة، تجاوز كتاب (السياسة) للفيلسوف اليوناني أرسطو الذي سطره قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة قرون، ففي هذا الكتاب يلتقي الفكر العلمي والتطبيق اليومي في العمل السياسي والاداري، وتقف أفكار ومباديء المدينة الفاضلة في المقدمة، ومن يريد تعلم السياسة وفن إدارة الحكم،لابد أن يتوقف كثيرا عند مقدمة العالم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وحتى الحاكم الذي يؤمن بضرورة تحقيق أهدافه بأي وسيلة كانت،لابد أن يقرأ كتاب (الأمير) لميكافيللي، الذي يقول(من الأفضل للأمير أن يكون محترما مهيب الجانب بدلا من أن يكون محبوبا) ويتردد أن غالبية الحكام والزعماء قد أعادوا قراءة هذا الكتاب عشرات المرات.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن قادتها وصناع القرار فيها، يفرحون بوجود أصوات تنتقد الأداء الحكومي والسياسات الخارجية وحتى الداخلية، لأنهم يجدون في ذلك أحد أهم عناوين الديمقراطية التي تعتمدها الادارات الأميركية في عمليات التسويق السياسي، كما يجيد السياسيون الأميركيون ذلك بإمتياز كبير، وبقدر قوة طروحات وانتقادات مفكرين كبار أمثال تشومسكي وفيدال، فإن عقول صناع القرار تنغمس بما يقوله مفكرون آخرون يؤيدون الهيمنة الأميركية، ويشجعون على السياسة الخارجية التي ترمي الى بسط النفوذ الاميركي على العالم، وقد يكون أكثر الشخصيات المؤثرة لدى صناع القرار الاميركي وزير الخارجية الأسبق في عهد نيكسون في سبعينيات القرن الماضي هنري كيسنجر، كما أن بعض كتاب الرأي الاميركيين تجد أفكارهم وطروحاتهم أصداء كبيرة عند أصحاب القرار، لأنها تتناغم ومشروع الهيمنة الأميركية. ويؤمن الكثير من السياسيين الاميركيين، أن ما يقدمه المحللون والكتاب من طروحات تدفع بإتجاه المزيد من الفعاليات الخارجية، وان هذا لم يأت من فراغ، وأن هؤلاء يقرأون المستقبل الاميركي في ضوء معطيات على أرض الواقع، ويتضمن من تطورات تراكمية تمتد لعدة عقود، كما أن التمازج في القدرات الاقتصادية والعسكرية والإعلامية في أميركا وضعفها في دول العالم الاخرى، يعطي زخما مضافا عند أصحاب هذه القناعات،التي تتجاوز مرحلة كونها مجرد آراء قابلة للنقاش.
إن كل ذلك قد ساهم بقوة في الغاء الآخر بالنسبة للإدارات الأميركية وصناع القرار فيها، وبدأ الأمر بعدم الإعتراف بالمفكرين والعلماء، الذين قدموا قراءات علمية تحذر من احتمالات إنهيار الامبراطورية الاميركية رغم تربعها على عرش العالم بدون منازع منظور.
وليد الزبيدي*
كاتب عراقي
كاتب عراقي
http://www.alwaleedonline.com/NewsDetails.aspx?ID=28511