قراءة جديدة في القوة الأميركية (3 ـ 15)
لم يتردد جور فيدال الكاتب والروائي الأميركي المعروف في التعبير عن قناعته بتدهور الامبراطورية الاميركية وانهيارها مستقبلا، وقد بشر بذلك خلال ثمانينيات القرن العشرين، عندما كان فيه القطب الثاني مازال حاضرا وفاعلا ومؤثرا في السياسة الدولية، وازداد اصرارا على موقفه في التسعينيات من القرن الماضي، التي تلاشى فيها الخصم الدولي الذي يقف امام السطوة الاميركية، فجاء كتابه الذي أشرنا إليه بعنوان ( سقوط وانحلال الامبراطورية الاميركية)، رافضا جميع النظريات التي سادت في تلك الحقبة وقدمت قراءات جديدة للامبراطوريات ومفهومها في ظل العولمة، ويعزو فيدال صعود نجم الامبراطورية الاميركية الى العنصر الاقتصادي، ويعود الى المراحل والحقب التي سبقت الانتقالة الكبيرة التي شهدتها مدينة نيويورك اقتصاديا، عندما انتقلت اليها بورصة الذهب بعد الحرب العالمية الاولى قادمة من العاصمة البريطانية لندن، التي أصابها الكثير من الدمار والخراب من جراء القصف إبان معارك الحرب العالمية الاولى.
يقول فيدال إن الامبراطورية البريطانية قد ارتقت كثيرا بعد أن أنتقلت بورصة الذهب اليها من باريس بعد الثورة الفرنسية عام 1789م، لتعطي زخما اقتصاديا كبيرا لبريطانيا، طيلة العقود التي سبقت اندلاع الحرب الاولى بداية القرن العشرين، وأن أحد أهم الثمرات الايجابية التي حصلت عليها الولايات المتحدة من الحرب الاولى، هي انتقال الذهب اليها باعتبارها بلادا بعيدة عن القصف والقتال، وبما أن رؤوس الأموال تبحث باستمرار عن الأمان والهدوء، فقد أتاح ذلك الفرصة الذهبية لإنطلاق بورصة الذهب في نيويورك ليتأسس أهم سوق للمال في العالم داخل الولايات المتحدة.
ورغم العاصفة الاقتصادية العنيفة التي عاشتها الولايات المتحدة في الأزمة الاقتصادية الكبيرة عام 1929، إلا أن الحكومة الامريكية في ذلك الوقت تمكنت من تجاوز تلك الأزمة، ولم يتأثر الاقتصاد الاميركي كثيرا بالحرب العالمية الثانية، إذ بقيت الأراضي الأميركية بعيدة عن الحرب المباشرة، ماعدا القصف الياباني لميناء بيرل هاربر عام 1941.
وبينما كان الدمار يعصف بالعواصم الأوروبية والآسيوية (لندن وباريس وبرلين وموسكو وطوكيو وغيرها من كبريات الدول) فقد كان سوق المال يسير بإنسابية في نيويورك.
إن ذلك أعطى زخما كبيرا للقوة الأميركية، التي انفتحت على الصناعات الحربية الثقيلة، وأصبحت مصدرا رئيسيا للكثير من السلع الاستهلاكية الأخرى، وقد كان للولايات المتحدة دورها الفاعل في مشروع مارشال لإعمار اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية،الذي أفضى إلى تنامي القوة الاميركية وزيادة قوتها في العالم.
ويرى فيدال أن الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن أرغمت الأخيرة على بلورة سياسة حربية صرفة، سواء في التخطيط الاستراتيجي وما يتعلق بالسياسة الخارجية، وفي إنتاج السلاح وتخصيص مصانع عملاقة لهذا الغرض، وفي كلتا الحالتين فإن الولايات المتحدة قد انغمرت في عقلية الحرب، وهذا وحده يؤسس لانهيار الامبراطوريات عبر التأريخ، ولم تكن المفاتيح الاميركية خافية على أحد، وتصدرت الصناعات العسكرية الاميركية العالم، لكن الاختبار الأهم للادارة الاميركية يتحدد في كيفية التوظيف المنطقي والعقلاني للقوة العسكرية الهائلة والانتصار الكبير على الاتحاد السوفييتي، ووضع الخط الاستراتيجية، التي من شأنها توظيف ذلك للإرتقاء بالامبراطورية الاميركية دون أن تصاب بداء القوة وما يترتب على ذلك من غرور كبير.
ارتفعت في عقد التسعينيات نبرة العداء الاميركي لبعض الدول، وتم إطلاق تسميات الدول المارقة،وكان ذلك التمهيد الاولي لمرحلة لاحقة، تريد الادارة الأميركية الشروع بها تحت أي حجة، فجاء موضوع مكافحة الارهاب، الذي أرادته الامبراطورية الأميركية نقطة الشروع الأهم لفرض هيمنة مطلقة على العالم، ووضع إرادات الامم والشعوب تحت قبضة المارينز الاميركي، وأنتجت المصانع الحربية الأميركية أسلحة فتاكة، وهيأت قوات هائلة،كما أرغمت الكثير من دول العالم الكبرى للعمل تحت مظلة المارينز، لتصبح بعد ذلك تحت السطوة العسكرية والاقتصادية الاميركية، وعلى سبيل المثال، فقد خالفت الحكومة اليابانية دستورها الذي قرر عدم إرسال الجيش الياباني خارج البلاد، في حين تم إرسال قوات يابانية للمشاركة في احتلال العراق، في سابقة لم تحصل في اليابان منذ ما يقرب من ستة عقود.
http://www.alwaleedonline.com/NewsDetails.aspx?ID=28462