آراء: قانون الصحافة والإعلام.. متى وكيف؟
سرحان محنه*
يحترم المجتمع البريطاني حرية الصحافة الى حد لا يمكن لبعضنا تصوره ، ففي تاريخ المملكة المتحدة الحديث قدّم المحامي الإنجليزي الشهير ريتشارد شريدان الصحافة على البرلمان في الأهمية بالقول : " خير لنا أن نكون بدون برلمان من أن نكون بلا صحافة وأن نُحرم من جميع الحريات إلا من حرية الصحافة فنحن بها عاجلاً او آجلاً نستطيع ان نستعيد جميع الحريات " .
أما في نيويورك فعندما أضربت صحفها عن العمل نهاية عام1963 لأكثر من ثلاثة أشهر عن العمل تبين للجميع إستحالة إمكانية الإستغناء عن الصحافة المكتوبة على الرغم من وجود وسائل إعلامية تحل محلها فبعد إنتهاء الإضراب أجرت جامعة كولومبيا وتحت إشراف الأستاذ ج . ديختر دراسات ميدانية تناولت تأثير إختفاء الصحف على المجتمع الأميركي وكان من حصيلة هذه الدراسات العديد من الإحصاءات المهمة التي لا تعنينا في هذا الموضوع لكنها جلبت معها العديد من الآراء المثيرة من بينها ما قاله أحد المُستَطلعين : " إن الذي يعيش بلا صحف كالذي يمشي بلا حذاء " !! .
غرابة التشبيه هنا تنعدم عندما نقر جميعاً أن من يمشي بين الناس بكامل هندامه من دون حذاء هو مجنون ولا ريب . هل ينطبق الأمر علينا الآن إذا ما أعلن الصحفيون العراقيون يوماً الإضراب عن العمل مطالبين بتشريع وتفعيل القوانين الخاصة بالعمل الإعلامي فيتحول عشاق الصحافة الى مجانين.
إن الفعل المؤثر لكلا المثالين السابقين يتوضح بجلاء تام عندما نعرف أن الإعلام والصحافة في جميع أنحاء العالم المتمدن هما جزء من الخدمات التي تقدمها أو تسمح بها الدولة ( بدرجة ما ) أو الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني للمواطن ، فالخدمات الحياتية الأساسية (البلدية والصحية والتعليمية وما الى ذلك ) لا تشكل الا أجزاء من حاجة المواطن لأن تنويره اليومي في مختلف شؤون المعرفة وإطلاعه على مجريات الأحداث في حياة الإنسان أينما يكون، هما جزءان فاعلان من ديناميكية الحياة اليومية وركنان حيويان في شعوره بإنسانيته ، وإنطلاقاً من هذا الفهم فإن الرفد الإعلامي بشتى أشكاله حاجة يومية دائمة لا يمكن الإستغناء عنها ، وبمعنىً أدق فإن العمل الإعلامي اليومي هو عمل موجِه الى المواطن بغض النطر الآن عن ماهية من يوجهه ، وهو بالتالي جهد ثقافي أولاً بحاجة الى الدعم والرعاية سواء من قبل الدولة أو غيرها من الجهات التي تؤسس لوجودها آيديولوجياً أو ستراتيجياً لتصب في النهاية في خدمة المجتمع ، ومن المفيد هنا أن نذكر أن أغلب المؤسسات الإعلامية هي مؤسسات إستهلاكية خاسرة ( مادياً ) في أغلب الأحيان عند إفتراض أنها غير منتجة ( للبرامج أو الإعلان ) لكن ما يعوض خسارتها أنها تهدف لبناء تكوين ثقافي ما لدى المتلقي ، هنا يبرز سؤال مهم : إذا كان للدولة الديمقراطية إعلام خاص غير تابع للحكومة تدعمه من المال العام وتحرص على تطويره فمن هو المعني بدعم الإعلام المستقل الذي يرمي الى تقديم الخدمة ذاتها التي يقدمها إعلام الدولة لكي تستمر بتقديم خدماتها وفقاً لما ذكرنا ؟ لابد أن الإجابة الطبيعية الأولية على هذا السؤال أن القائمين عليه سيستثمرون مالهم الخاص لتوظيفه من أجل تحقيق هدفين أحدهما آيديولوجياً - معرفياً والآخر تجاري ولا حاجة لشرح أبعاد الهدف الأول لكن الهدف الثاني إنما يسعى لتنمية المؤسسة رأسمالياً لضمان ديمومة بقائها وتحقيق ما يمكن تحقيقه منها . لكن هذه الإجابة ستولد تساؤلين آخرين مشروعين:
1.اليس من حق الصحافة المستقلة والعاملين بها أن يحصلوا على دعم من الدولة ماداموا يؤدون العمل نفسه الذي يؤديه إعلامها ؟
2. متى ستؤسس لدينا مؤسسات إعلامية؟
مستقلة قادرة على الصمود والتطور وتطمين من يعمل فيها على ضمان مستقبله وعدم تسريحه من العمل ؟
هناك تأكيدات مستمرة للمسؤولين تؤكد حرصهم على تحسين الوضع المعيشي للصحفيين والادباء والفنانين العراقيين لكن واقع الحال غير ذلك تماماً. فغالبيتهم يعيشون في وضع لايحسدون عليه الا قلة منهم ( كانوا ذا حظ عظيم ) إنهم يعيشون وضعاً مأساوياً مع أنهم قدموا العشرات من الشهداء دفاعا عن قضية شعبهم ولا زالوا ينتظرون حصد المزيد . ما الذي ينتظر أسرة الصحفي الآن عند إستشهاده أو موته أو عوقه عندما لا يكون منتسباً على الملاك الدائم لدى الدولة ؟ هناك رواتب المتقاعدين الصحفيين ما زالت تدفع لقدامى المتقاعدين منهم لايتجاوز الراتب الشهري فيها عن (900) دينار عراقي ( ربما زيد الراتب فيما بعد الى 50 الف دينار اي ما يساوي 33 دولاراً فقط (في مرة سابقة أقرت رئاسة وزراء الحكومة التي سبقت حكومة السيد المالكي ترحيل الصحفيين المتقاعدين الي الهيئة العامة للتقاعد بغية شمولهم بالجدول الجديد للمتقاعدين لتحسين اوضاعهم المعيشية لكن وزارة المالية لازالت تتلكأ في تنفيذ هذا القرار لقد بات العمل الصحفي في العراق من أخطر الأعمال، فالعاملون به تحت طائلة التهديد الدائم من قبل جهات شتى ، لذلك فإن غاية ما نرمي اليه في هذا الموضوع هو أن نجد جهة ما ( في الدولة أو في المجتمع ) تستطيع الإجابة عن كل الأسئلة التي سيتم طرحها بين ثنايا هذا الموضوع لأنها تتصل بمصير مئات الصحفيين الذين يعملون بلا ضمان لمستقبلهم ولا معرفة لمصيرهم ، إن أوضاع الصحفيين العراقيين في كثير من وسائل الإعلام لا تشبه حتى وضع العامل الأجير في القطاع الخاص فلا وجود لعقود عمل في كثير من الصحف وأن وجدت فأن بندها الأهم والفاعل هو دكتاتورية الطرف الأول في التحكم برزق ومصير الصحفي في أية لحظة من دون توضيح الأسباب ، إن هذا للأسف يحمل معنى واحدا لا غيره هو خضوع الصحفي للطرف الأول من دون شروط ، وهذه هي الدكتاتورية بعينها ، وما اكثر ما ترك بعض الصحفيين والكتاب - الصحفيين أعمالهم حين وجد بعضهم ان ما يراد منهم هو الضد تماما لما تحمله رؤوسهم . ان المشكلة القائمة الآن هي انعدام وجود قانون جديد نافذ يحمي الصحفيين من التحكم بهم طبقا للأهواء ويضمن حقوقهم في التعيين الدائم أو ابرام عقود العمل يحتفظ بموجبها الصحفي بحقوقه في جميع فترات العقود وإضافتها لخدمته المتراكمة . ثمة منظومة من القوانين والتعليمات المختلطة البعض منها متكسف وكان قائماً قبل عام 2003 والبعض الآخر صدر كمعالجات موضعية قبل إقرار الدستور الدائم للبلاد ومن المفيد هنا إجمال بعضها بإيجاز لكي يطلع عليها الجميع.
التكملة تحت