الابادة الثقافية ليست نتاجا ثانويا للحرب على العراق
هيفاء زنكنة
5/22/2010
5/22/2010
لم يعد هناك في اجهزة الاعلام، الا فيما ندر، ذكر لثروة العراق الحقيقية الدائمة. وأنا لا اعني النفط، اذ انه سيستنفد بعد بضعة عقود، كما هو حال النفط في دول اخرى. دول قد يغلق بعضها لانها لا تزيد عن كونها مجرد محطات بنزين إن لم تستثمرجديا في سكانها وثقافتهم.
ان ما أصفه بالثروة الحقيقية هي الآثار والمواقع الباقية من أسلافنا، وهي التي احتضنها العراق على مدى قرون، وهي أحدى مكونات الحضارة التي تتجاوز حدود الاراضي العراقية لتتسع للعالم كله. وهي ثروة تغني البلد وسكانه اقتصاديا فضلا عن قيمتها التي تعتز بها الانسانية جمعاء ويعتبر العراق حاميا لها بالتعاون مع بقية دول العالم، أو هذا هو المفترض نظريا. الى ان نرى، بان نهب هذه الثروة الذي بدأ منذ سنوات الحصار الذي مهد لغزو مغول العصر الحديث، بصحبة مستخدميهم من عراقيي الظلام، لا يزال يمارس على نطاق مستمر يوميا، بدون ان ينبس أحد ببنت شفة. فالساسة المتقاتلون على المناصب الطائفية والعرقية و' مثقفو العراق الجديد'، اختاروا عصب عيونهم مثل الثيران الدائرة حول الناعورة لكي لا يروا مايجري حولهم من جرائم، ولكي ينفضوا عن انفسهم المسؤولية بنوعيها: مسؤولية المشاركة في الجريمة ومسؤولية العلم بها. ومن بين الجرائم التي تمر مرور الكرام بلا محاسبة او عقاب الجريمة الأكبر اي تحطيم ثروتنا الحقيقية اما عن طريق النهب والتخريب المباشر او الاهمال وعدم الصيانة والرعاية. وكلا الفعلين يشكلان انتهاكا للمسؤولية التي يفترض على الحكومة 'المنتخبة' تحملها. وهكذا نرى تراث آلاف السنين ينهب، أو يهدم ويخرب، عمدا، الى أبد الآبدين.
وبينما تغطي اجهزة الاعلام العراقية والعربية تصريحات كل من هب ودب من ' ساسة' العراق أو زيارة المسؤولين الامريكيين على مدار ساعات البث، يحدث بين الحين والآخر ان يمرر خبر صغير ( من باب التسلية والتنويع في آخر نشرات الاخبار عادة) عن الخراب الحقيقي الذي يلم بالبلد وأهله . من بين هذه الاخبار، ما تمت الاشارة اليه منذ ايام، عن استمرار نبش وسرقة تل جوخا الاثري، مقر دولة اوما التاريخية، شمال الناصرية بمحافظة ذي قار، جنوب العراق . اذ تفضلت اللجنة الامنية بمجلس محافظة ذي قار بـ ' التنويه' باستمرار اعمال النبش والسرقة للموقع ' من قبل مجموعات مجهولة نتيجة لضعف الاجراءات الحكومية المتخذة'. وكأن مجلس المحافظة ولجنته الامنية ليسا من صلب الحكومة. واعلن مجلس المحافظة بانه كان قد شكل لجنة تحقيقية بحادث النهب ولم تعلن النتائج بعد.
وقال نائب رئيس اللجنة جميل يوسف شبيب، لراديو دجلة، ان اعمال النبش والسرقة مازالت مستمرة مبينا انه كان هناك اقتراح بمرابطة قوة امنية في المنطقة الا ان ذلك لم ينفذ بالصورة المطلوبة لحد الان.
وكما نعلم من سابقات تشكيل اللجان انه لا يعني اجراء تحقيق يؤدي الى نتيجة ما، بل مجرد إعلان يتماشى مع الموضة واسعة الانتشار في 'العراق الجديد'، وهي موضة تشكيل لجان التحقيق بلا تحقيق ولا نتائج. والكل من رئاسة الوزراء الى مجلس النواب الى قوات الامن ومجالس المحافظات الى الدوائر والمؤسسات (ومعظمها كيانات افتراضية) منغمرة بمهمة تشكيل اللجان التي تتلاشى بعد ايام من تشكيلها. ومجلس محافظة ذي قار لا يريد ان يكون نشازا ويخرج على الموضة. وقد يتبادر الى اذهان البعض ان لجنة التحقيق لابد وان تبدأ بالقاء بعض الاسئلة على حراس الموقع الأثري الذي يصفه الخبير الاثاري عبد الامير الحمداني بانه ' يمثل عاصمة دولة اوما التاريخية التي كونت اكبر امبراطورية سومرية في عصر الملك لوكال ساركيزي واسست عام 2550 قبل الميلاد... وكانت قد ظهرت في هذه الامبراطورية مكتبات من الرقم الطينية في مجالات الاقتصاد والسياسة والقضاء وفيها معبد مقدس للاله شارا وهو اله المحاصيل والغلة'. غير اننا سرعان ما نكتشف عبثية حتى القاء الاسئلة. اذ ان هناك حارسا واحدا لهذا الموقع، الذي لو حدث ووجد في اي مكان آخر في العالم، لعومل معاملة الكنوز، وان هذا الحارس المسكين يتولى الاهتمام بمساحة محيطها 9 كيلومترات، وان عدد حراس الاثار في المحافظة يبلغ 98 حارسا فقط يتوزعون على اكثر من 1200 موقع اثري وسط امكانيات معدمة. وقد عزت مديرية الاثار عمليات النهب والسرقة الى عدم وجود اسوار حامية للمناطق الاثرية حيث لم يتم بناء اي سور باستثناء السور المنشأ حول منطقة اور الاثرية جنوب الناصرية.
هناك اذن سببان واضحان لاستمرار عمليات النهب من هذا الموقع وغيره، اتفقت كل الجهات المعنية على تشخيصهما، وهما قلة الحراس وعدم وجود اسوار حامية للمناطق الأثرية. واذا ما علمنا بان العراق زاخر بالعاطلين عن العمل وان تدريبهم على مهنة الحراسة ليس مهمة شاقة، حيث بالامكان، في حالة انعدام الميزانية الكافية، تحويل بعض ورشات التنوير بأهمية 'الانتخابات' (بشكل مؤقت لئلا يقال باننا لا نهتم بها)، الى ورشات تدريب لحماية ثروة البلد الوطنية. واذا ماعلمنا بان بناء الاسوار لا يحتاج غير توفر اليد العاملة، وهي موجودة بوفرة وبرخص التراب، والى بعض المواد الاولية كالطابوق والاسمنت، لوجدنا بان حماية آثارنا ليست مهمة مستحيلة، خاصة، وان العراق بلد غني، لم يتوقف عن انتاج وتصدير النفط منذ الغزو وحتى اليوم، وقد بلغت موارده من التصدير منذ الإحتلال 350 ملياردولار تقريبا . فلماذا لم يتم تدريب وتعيين عدد كاف من الحراس وبناء أسوار لحماية المواقع الأثرية، ومليارات الدولارات متوفرة بكميات لم يشهدها العراق من قبل؟ ولماذا تضخمت دوائر الدولة الى ضعف حجمها قبل الأحتلال، وأصبحت أجهزة الأمن بأربع أضعافها، ولم يهتم أحد بتوفير حمايات الآثار؟
القدرة والامكانيات موجودة اذن فما هو السبب الذي يدفع الى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحق ماضي وحاضر ومستقبل العراق وشعبه ؟ يأتي جواب المراقبين صارخا: أنه التدمير المتعمد الذي يشارك في تنفيذه مغول الاحتلال ومستخدموه. انهم ينفذون هدفا استراتيجيا متعمدا في تخريب تاريخ شعب وحضارته وذاكرته. انه تخريب لم يحدث بشكل اعتباطي او كناتج ثانوي بسبب شن امريكا 'الحرب على الارهاب' او تغيير نظام صدام حسين كما يدعي مستخدمو المستعمر. انه كما يقول المفكر ليفن دي كاوتر، رئيس محكمة بروكسل عن جرائم الحرب ضد العراق، في حفل توقيع كتاب ' التطهير الثقافي في العراق. لماذا تم نهب المتاحف وحرق المكتبات وقتل الأكاديميين' : ' وفقا لمحرري الكتاب كان هدف الحرب هو 'انهاء دولة' بدلا من 'بناء أمة'. وقد تم اتخاذ هذا القرار عندما تحالفت ثلاث جهات: المحافظون الجدد الذين أرادوا إقامة أسس دائمة في استراتيجية جغرافية للهيمنة العسكرية، واسرائيل التي لم ترد دولة قوية في 'حديقتها الخلفية'، وصناعة النفط التي أرادت وضع يدها على واحد من أكبر احتياطيات النفط في العالم'.
والا كيف يبرر استمرار اكثر الافعال همجية في سلب المواطن العراقي هويته وذاته، وتحطيم كل ما يعتز به من ثقافة وحضارة، ونحن في العام الثامن من العيش في ظل 'المحررين' حماة حقوق الانسان؟ ألسنا نعيش، فضلا عن الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، حرب ابادة ثقافية مماثلة لما تصفه وزيرة الثقافة الجزائرية السيدة خليدة تومين، قائلة: ' عندما احتل الفرنسيون الجزائر عملوا على تقتيل الشعب و الاستيلاء على خيرة أراضيه ليستوطنوا بها. و أداروا أبشع المجازر و كان الأسوأ بينها حرب الإبادة الثقافية'. وأكد اربعة من علماء الآثار العراقيين وهم الدكتورة زينب البحراني، أستاذة تأريخ الفنون والآثار في جامعة كولومبيا الامريكية، والدكتورة لمياء الكيلاني باحثة آثارية في معهد الآثار بكلية لندن الجامعة والدكتورة سلمى الراضي الاثارية المتخصصة في صيانة المواقع التأريخية والدكتورة ندى الشبوط أستاذة تأريخ الفنون في جامعة شمال تكساس والدكتور دوني جورج أستاذ الآثار في جامعة الدولة في نيويورك ورئيس هيئة الآثار والتراث العراقية سابقاً، في رسالة منشورة لهم على أن المتاحف والمواقع الأثرية العراقية: 'يجب أن لا تقع ضحية لنزوة سياسية آنية وأن يتم التضحية بها من أجل حملات الأعلام والعلاقات العامة نيابة عن الحكومة لان هذه الأماكن لا تعود الى الحكومة بل الى الشعب العراقي وأنه من واجب الحكومة حماية التراث الثقافي نيابة عن الشعب'.
لقد احتل العراق المحتل، في السنوات السبع ألاخيرة، واحدا من اكثر الدول فسادا في العالم، ويحتل الموقع 145 من بين 175 دولة في مجال حرية الصحافة (حسب مراسلون بلا حدود 2009)، وهو الأسوأ في العالم في مجال التحقيق في جرائم اغتيال الصحافيين، حسب تقرير لجنة حماية الصحافيين الدولية، الصادر في شهر نيسان 2010. وباستثناء ثلاثة مواقع محمية من قبل اليونسكو باعتبارها من التراث العالمي الذي يجب الحفاظ عليه، وهي الحضر وآشور ( قلعة شرقاط) وسامراء، تبقى بقية آثار العراق ومواقعه التي يبلغ عددها العشرة آلاف معرضة للنهب والتخريب والتآكل، كما هو حال المواطن المقيم تحت ' حماية' الحكومة الأكثر فسادا في العالم.
كان اغلب المواقع الأثرية في الماضي في عهدة الأهالي المحيطين بها، أما بتقاليدهم التي تحرم نبش القبور وسرقتها، أو بشكل منظم من قبل الدولة التي تمول حراستها وتكافئ مراقبيها. وليس صعبا أن يفرض المجتمع على السلطات الجاهلة في المحافظات وفي بغداد العودة الى تلك الحماية، ولتكن الخطوة الاولى لإسترجاع ما نفقده من هذه الثروة الوطنية عن طريق توثيق تورطهم في النهب.
' كاتبة من العراق
منقول