التراجيديا الشكسبيرية
(يوليوس قيصر)
(يوليوس قيصر)
Tragedy
Julius Caesar
by
William Shakespeare
Julius Caesar
by
William Shakespeare
بقلم: وليد محمد الشبيـبي
Walid Al-Shabibi
Walid Al-Shabibi
لعل هذا العمل(1) (مع هنري السادس/ الجزء الثاني)(2) هو من أهم أعمال شكسبير والتي تظهر فيها أخلاق الغوغاء(3) وسهولة وسرعة تغيّر أهوائهم ومواقفهم ! ، واذا ما أُطلقت الغوغاء (من عقالها) حلّت الكوارث ! ، انها سلاح مدمّر وهو أشد فتكاً وأذى اذا ما وقع بيد خبيث وقال كلمة حق (أراد بها باطلاُ) ! ، كما فعلها هنا أنتوني Antony(4) (رغم وعده لبروتوس Brutus).
بروتوس (أشرف الرومان قاطبةً)(5) على لسان عدوه انتوني، ترأس المتآمرين فأعطى (لثورتهم) الثقة بالنجاح وأضفى على عملية قتل قيصر طابع الوطنية والمبدئية والنبل والشرف وإنكار للذات ، لأنه قتل قيصر كما قال: (لأن حبي لبلدي كان أعظم من حبي له)(6)، في حين نرى دوافع هذا العمل لدى كاسيوس Cassius والبقية، شخصية أكثر منها وطنية ، وهذا ما جعل قيصر يقول جملته الأخيرة والشهيرة قبل موته: (حتى أنت يا بروتوس ؟ اذن ليمت قيصر !)(7).
ولكن هل يكفي أن يكون المرء شريفاً مخلصاً مبدئياً ليستطيع اقناع (الغوغاء) بدوافعه أمام خصم غير شريف (مثل انتوني) ؟ ، كان يظهر الود للمتآمرين ويضمر العداوة لهم وهنا يُحدّث جثة قيصر: (غفرانك يا جثمان قيصر الدامي ان تراني احدّث هؤلاء القتلة بلهجة الود واللطف. أنت ما تبقّى من أنبل رجل عاش، فليحذر اولئك الذين سفكوا أطهر دم ! أن جروحك كالأفواه الخرساء التي تفتح شفاهها الحمراء وكأنها تتوسل الي لأن أستخدم صوتي ولساني لأطالب بحقها. وها أنذا أقف فوق جروحك وأتنبأ بأن اللعنة ستنزل بأجساد الرجال. سيدور عراك هائل في أرجاء ايطاليا ، وستدور حربٌ أهلية حتى تحوّل البلاد إلى دمار ...)( ثم يحدّث نفسه بخبث بعد أن عبأ الغوغاء كأعصار ضد القتلة: (والآن ليقم السخط الذي حرّكته في نفوسهم ويفعل واجب الانتقام. لقد هاجت روح الثورة فلتفعل ما هي فاعلة من خراب كما تشاء.)(9) ، نقول ، نعود ونقول :هل يكفي.. ؟ الجواب قطعاً .
بروتوس رغم كل المزايا والخصال الحميدة التي يتمتع بها ؟ لكنه لم يكن يصلح لقيادة هذه (الثورة) ! .. وقد أثبتت الوقائع أن كاسيوس (رغم حسده وأنانيته) ، كان أقدر منه على إنجاح هذه (الثورة) وضرب المناؤين لها ، لذا فقد أخطأ بروتوس في عدم تقديره (لخطورة) انتوني على (الثورة) رغم تحذير كاسيوس ! ، كذلك أخطأ مرة أخرى في منحه حق تأبين قيصر أمام العوام (وهذا الخطأ القاتل الذي كان السبب الرئيس في فشل ثورتهم بعد أستتباب الأمور وخضوع العوام لهم) رغم تحذير كاسيوس أيضاً من خطورة هذا العمل ، بروتوس خاطب (عقول) العامة والغوغاء وبذلك أثبت عدم فهمه لنفسية أولئك ! ، فالعقل ليس شيئاً يذكر أمام العاطفة عند أولئك ! ، والعاصفة المدمّرة لا تسأل عن منطق اذا ما زمجرت الرياح !
الخطأ الآخر ، هو أختيار بروتوس مهاجمة جيش أوكتافيوس وأنتوني في سهول فيليبي رغم معارضة كاسيوس مرة أخرى !
يوليوس قيصر Julius Caesar كان محقاً في حذره من كاسيوس في حديثه مع انتوني (انطونيوس) : (أنه نحيل ، شاحب ، جائع الشكل من طيلة السهر وكثرة التفكير في التآمر ضد الآخرين. والرجال أمثال كاسيوس خطيرون جداً)(10) ولكنه لم يكن يعلم أن بروتوس وهو من أكر رجاله إخلاصاً له ، يمكن ان يكون منهم ! ما دام أنه (أي قيصر) قد أصبح عقبة في طريق (حرية روما) !
ونحن نرى ان كلا الفريقين المتصارعين كانا يدعيان بحبهما واخلاصهما لروما ؟! (وكل الطرق تؤدي إليها) عند الإنتصار ؟!
الغوغاء كانت تمجّد قيصر وكان الأجدر بالمتآمرين (او قل الثّوار اذا شئت) وعلى رأسهم بروتوس ، مخاطبة عاطفتهم . فالعقل (عضو) لا لزوم له عند البعض ما دام ان غريزة حب المادة والمال والجنس هي التي تقود هذا (العضو) الوظيفي ! ، والعقل ترف لا قِبل لهم به ، الغوغاء تقدّم التاج لقيصر ثلاث مرات بواسطة انتوني فيرفض ! ، فيقول عنه أحد المتآمرين كاسكا Casca: (.. في كل مرة يرفضه كان يبدو وكأنه نادم على هذا الرفض،... وفي كل مرة يرفضه كان أولئك الغوغاء يصيحون ويصفقون بأيديهم الخشنة ويقذفون بقبعاتهم القذرة في الهواء. ولقد أكثروا من الصياح حتى ملأوا الجو بأنفاسهم الفاسدة التي كادت تخنق قيصر حتى أغمي عليه وسقط أرضاً... وأولئك الغوغاء الذين يتحدرون من سفهاء رومة كانوا يهتفون له حين يرضيهم كلامه، ويصرخون ضده عندما يأتي بشيء يغضبهم...)(11) أي يهتفون له أو ضده تبعاً لما تمليه عليهم العاطفة !
وفي ما يلي سنعرض أمثلة على ردود أفعال (المواطنين) وتباين مواقفهم وتناقضهما في حالة واحدة ووقت واحد:
بعد سماعهم لخطبة بروتوس (العقلانية) :
الجميع: ليحيا بروتوس ! لا نريدك أن تموت !
المواطن الأول: هيا نشكل موكباً ونرافقه حتى بيته.
المواطن الثاني: سنبني له تمثالاً يخلّد ذكراه كما بنينا لأجداده.
المواطن الثالث: لنجعله حاكماً على بلدنا.
المواطن الرابع: اذن سيكون لنا حاكم بمزايا طيبة – مزايا قيصر وبروتوس.
المواطن الأول: سنصحبه إلى بيته بهتافٍ وتهليل.(12)
(بعد مجيء انتوني لتأبين قيصر وقبل القاء خطبته):
انتوني: أشكركم لأنصياعكم إلى طلب بروتوس (يصعد المنبر).
المواطن الرابع: ماذا يقول عن بروتوس ؟
المواطن الثالث: قال أنه يشكرنا على أنصياعنا لطلب بروتوس.
المواطن الرابع: لا بأس بذلك ، لكن عليه أن يحترس بألا يذكر بروتوس بسوء.
المواطن الأول: لا ريب في أن قيصر كان طاغية.
المواطن الثالث: أن الحقيقة واضحة ومن حسن حظنا أنه أودي به.
المواطن الثاني: سكوت ! لنسمع ما بوسع انتوني أن يقول حول هذا المستبد.(13)
(وبعد أن القى انتوني جزءاً من خطبته العاطفية) :
المواطن الأول: يبدو ان في كلام انتوني قسطاً كبيراً من الصواب.
المواطن الثاني: عندما يفكر المرء في هذا الأمر من غير تحيّز يرى أن قيصر قد عومل بقساوة وظلم.
المواطن الثالث: وهو كذلك واني لأخشى ان من يخلفه لن يكون أفضل منه.
المواطن الرابع: لاحظتم ما قال انتوني ؟ قال ان قيصر رفض قبول التاج ، وهذا مما لا شك فيه ، إن لم يكن طماعاً.
المواطن الأول: اذا كان صحيحاً ما يقوله انتوني ، سينال قتلة قيصر عقاباً شديداً.
المواطن الثاني: مسكين انتوني ! عيناه حمراوان كالجمر من البكاء.
المواطن الثالث: لن يوجد في كل روما رجل أنبل من انتوني.(14)
(بعد زعم انتوني ان قيصر قد ترك وصية يخشى قراءتها لهم).
المواطن الرابع: اقرأ الوصية .. نريد سماعها يا انتوني .. أننا نطلب إليك أن تقرأها..
انتوني: ألا تصبرون قليلاً ؟ لقد تجاوزت حدود الأذن الذي وهبني إياه بروتوس بتلميحي لكم بالوصية. أخشى أن أكون قد نكثت بعهدي لأولئك الرجال الشرفاء الذين قتلوا قيصر ومزّقوه. (15).
المواطن الرابع: هم خونة ؟ لا ينبغي نعتهم بالشرفاء !
الجميع: الوصية .. الوصية .. اقرأ الوصية !
المواطن الثاني: هم أوغاد قتلة .. الوصية ، اقرأ الوصية !
.................................................. .......... (ينزل انتوني عن المنبر)
المواطن الثاني: أفسحوا لانتوني .. يا أنبل انتوني.(16)
(بعد كشف انتوني عن جثة قيصر والإشارة لأماكن طعنات خناجر المتآمرين)
المواطن الأول: آه يا له من منظر محزن !
المواطن الثاني: أوه قيصر النبيل ! واأسفاه !
المواطن الثالث: يا له من يوم فضيع !
المواطن الرابع: هم خونة أوغاد !
المواطن الأول: يا له من منظر دموي !
الجميع: الأنتقام .. هيا نبحث عن القتلة .. أحرقوا .. أقتلوا ! لا تتركوا احداً بلا عقاب !
انتوني: لكن أصغوا الي أيها السادة.
المواطن الأول: سكوت ! أسمعوا النبيل انتوني.
المواطن الثاني: إنّا مستعدون ان نصغي لأنتوني .. سنتبعه كلنا وسنموت معه. (17)
(بعد أن يعبئ انتوني الغوغاء بخبثٍ ودهاء ضد المتآمرين)
الجميع: الثورة ! الثورة !
المواطن الأول: هلمّوا نحرق بيت بروتوس.
المواطن الثاني: هيا نمضي في الحال .. هلمّوا نبحث عن المتآمرين. (18)
(بعد ان يقرأ انتوني وصية قيصر المزعومة والتي يهب فيها أمواله وأراضيه وبساتينه لكل مواطن روماني !)
المواطن الثاني: يا قيصر العظيم الكريم ! لا بد من الانتقام له.
المواطن الثالث: ايها المليك ! يا قيصر !
المواطن الأول: .. هيا نذهب ونحرق جثته (قيصر) في المعبد ، وبعد ذلك سنحمل شيئاً من الحطب المشتعل ونحرق به بيوت الخونة .. هيا نحمل الجثة.
المواطن الثاني: ليذهب بعض منكم ويلتمس ناراً.
المواطن الثالث: انزعوا المقاعد الخشبية
المواطن الرابع: انزعوا البراويز والنوافذ وكل شيء يصلح للاشتعال.
(يخرج المواطنون بجثة قيصر)
انتوني: والآن ليقم السخط الذي حرّكته في نفوسهم ويفعل واجب الانتقام. لقد هاجت روح الثورة فلتفعل ما هي فاعلة من خراب كما تشاء. (19)
أوقد انتوني نار الثورة عند الغوغاء ، فقاموا بقتل وتمزيق الشاعر سينا Cinna في طريقهم لمجرّد انه يحمل نفس أسم أحد المتآمرين في حين ان الشاعر المسكين كان في طريقه لزيارة جنازة قيصر !
نحن نسأل هنا ، لو ان بروتوس القى خطبته بعد خطبة انتوني (رغم عقلانيته) ؟! هل كان سيحدث ما حدث ؟
انتوني الذي كان مخلصاً لقيصر ، لم يكن شريفاً أو محبّاً لشعبه ، فبعد تباكيه على الشعب وقيصره يطلب من لبيدس Lepidus (أو لابيد) أن يذهب إلى بيت قيصر واحضار الوصية (حتى نتمكّن ان نقرّر ونحتفظ ببعض ما أوصى به قيصر للشعب)(20).
يلفت أنتباهنا أيضاً أختلاف معاملة انتوني للبيدس في المسرحيتين (يوليوس قيصر) و(انطونيوس وكليوباترا) ، ففي الوقت الذي يصف لبيدس بأنه (رجل حقير وعديم الفائدة وخليق بأن نرسله في قضاء حوائجنا وأن يقوم بعمل الخادم) في مسرحية (يوليوس قيصر)(21) ، نجده في (انطونيوس وكليوباترا) يستشيط غضباً عندما يعتقل أوكتافيوس قيصر لبيدس (لابيد) وهو أحد اضلاع المثل الحاكم للامبراطورية المترامية الأطراف، بل هو نفسه من يحرّض أوكتافيوس على طرده بعد اداء دوره (في مسرحية "يوليوس قيصر")! ، اذ يقول عنه (نحن وهبناه مركزاً عالياً انما نفعل ذلك كي نضع مسؤولية الأعمال الخسيسة على كتفيه، فيحمل هذه الألقاب والمفاخر تماماً كما يحمل الحمار الذهب ، فيئن ويعرق تحت ثقل حمله ونسوقه كما نشاء حتى اذا ما وصل بالحمولة إلى المكان الذي نقصده نأخذ منه تلك الألقاب ونطرده من غير ان نؤدي له أجراً مثلما يطلق سراح الحمار فينفض أذنيه ويذهب ليرعى في أرض جدباء.)(22). وهو الذي يوافق بكل سهولة على إعدام ابن أخته (لأنه من المتآمرين) مثلما وافق لبيدس (بعد ان يشترط موافقة انتوني على إعدام ابن أخته) على إعدام اخيه لنفس السبب ! (23).
بقلم: وليد محمد الشبيـبي
بغداد - 2000
بغداد - 2000
طبعت يوم
السبت 17 آيار/ مايو 2008
السبت 17 آيار/ مايو 2008
الإحالات والهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسرحية يوليوس قيصر Julius Caesar مسرحية تأريخية ألفها ويليام شكسبير William Shakespeare حوالي عام 1599 – 1600م.
(2) مسرحية هنري السادس Henry VI مسرحية تأريخية ألفها شكسبير في ثلاثة أجزاء عام 1589 – 1591م. تُعرض عموماً في العصور الحديثة في نسخ من جزأين (على مسرح أولد فيك عام 1923 وفي ستراتفورد عام 1963 على سبيل المثال).
(3) هذا المقال القصير ، جزء من دراسة واسعة كتبت بين 2000 – 2002 عن (الغوغاء في أعمال شكسبير).
(4) أي في هذه المسرحية (يوليوس قيصر).
(5) أنظر: مسرحية (يوليوس قيصر) ، ترجمة غازي جمال، ط2 ، بغداد: منشورات مكتبة النهضة/ مطبعة بابل – 1986 ، ص157 .
(6) نفس المرجع ، ص 99 .
(7) ن. م ، ص 87 .
( ن. م ، ص 95 .
(9) ن. م ، ص 109 .
(10) ن. م ، ص 39. ويقول عنه أيضاً وهو يخاطب انتوني: (غير اني لو كان في امكاني مخافة أي رجل في رومة ، لأخترت ذلك النحيل كاسيوس. أنه كثير المطالعة قوي الملاحظة، ويبدو كأن في استطاعته سبر غور أفكار وأعمال الرجال ، ويدرك ما يخبئونه من أسرار. وليس لديه أي رغبة في اللهو مثلك أنت. ولا يشغف بالموسيقى ونادراً ما يبتسم. حتى وان أبتسم ليعتقد المرء أنه يسخر من نفسه ، أو يحتقر جنانه لضياع وقته في الابتسام لأي شيء. والرجال أمثاله لا يذوقون السرور والاطمئنان اذا وجدوا من يفوقهم مركّزاً وشأناً ، ولهذا السبب أقول ان رجالاً بهذه الطباع لخطيرون.).
(11) ن. م ، ص 41 – 42 .
(12) ن. م ، ص 100 – 101 .
(13) ن. م ، ص 101 – 102 .
(14) ن. م ، ص 103 .
(15) (أخشى أن أكون قد نكثت بعهدي لأولئك الرجال الشرفاء الذين قتلوا قيصر ومزّقوه) !.. الا يذكّرك هذا الخبث والدهاء بخبث ودهاء ياغو Iago في مسرحية عطيل Othello ؟!
(16) ن. م ، ص 105 .
(17) ن. م ، ص 107 .
(18) ن. م ، ص 108 .
(19) ن. م ، ص 109 .
(20) ن. م ، ص 115 .
(21) ن. م ، ص 115 .
(22) ن. م ، ص 115 .
(23) ن. م ، ص 114 .