تملك صوتا هامساً له القدرة على لمس أوتار القلوب في عذوبة تمنحك فرصة التحليق في
أجواء من النغم الأصيل الذي ميزها طيلة مشوارها، إلى الحد الذي دفع
موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب إلى وصفها بقوله: «صاحبة السكون الصاخب»
من شدة إعجابه بصوتها، وهو ما دفعه أيضاً في أحد الأيام إلى تقديم بلاغ ضد
والدها في قسم شرطة الأزبكية عام 1949 كي يمنعها من الغناء في الحفلات وهي
في سن العاشرة، خوفاً على جمال صوتها وموهبتها. هي القديرة نجاة الصغيرة
التي ظلت تمتع الآذان بصوتها حتى كان قرار اعتزالها للغناء منذ عدة سنوات.
وفي العام الماضي وقع اختيار مجلس أمناء جائزة العويس الثقافية لتكريمها
ضمن من أسعدوا العالم العربي في السنوات الماضية.
لحظا االبداية كانت من خلال والدها محمد حسني ذي الأصول السورية الذي أبهره
صوتها عند الاستماع إليها منذ صغرها وهي تردد كلمات بعض من أغنيات سيدة
الغناء العربي. فشجعها وأخذ يتردد بها على المسارح ومتعهدي الحفلات ليقف
فخورا بصوت ابنته الملائكي. ثم قدمها للمرة الأولى في حفل وزارة المعارف
عام 1944 ولم يكن عمرها تجاوز السنوات الست، ليستمع الجمهور إليها وينبهر
بموهبتها، حتى وصفها فكري أباظة رئيس تحرير مجلة "المصور" في ذلك الوقت في
مقال له في المجلة بالمعجزة. الا ان الفنان عبد الوهاب كان له رأي آخر،
حيث كان يعتقد أن الغناء في سن مبكرة يقضي على الموهبة، فطلب من والدها
تعليمها الموسيقى وأصول الغناء من دون السماح لها به الا بعد نضوج موهبتها
وتجاوزها سن المراهقة. ولكن الوالد لم يستمع إلى النصيحة حيث كان يقوم
بمصاحبتها لتقدم وصلات غنائية بمسرح بديعة مصابني قبل تجاوزها سن العاشرة.
وهو ما دفع بعبد الوهاب إلى تقديم بلاغ في قسم الشرطة لإجبار والدها على
الامتثال لرأيه. وكان لمشاركتها بالغناء في تلك السن الصغيرة دوره في لفت
أنظار مخرجي السينما إليها، حيث شاركت بدور صغير في فيلم «هدية» عام 1947
مع المطربة نجاة علي وكان من إخراج محمود ذو الفقار. وللتمييز بينها وبين
المطربة نجاة علي أطلق على نجاة لقب "الصغيرة" وهو اللقب الذي التصق بها
طوال رحلتها الفنية وحتى الآن. في تلك المرحلة ارتدت نجاة ثوب أم كلثوم،
فكانت تردد أغنياتها طوال مرحلة الصبا، فلم تكن لها شخصية فنية واضحة
المعالم. وهو ما تغير في منتصف الخمسينات حين بدأت تاريخها الحقيقي في
عالم احتراف الغناء ولتخرج من عباءة أم كلثوم. ساعدها على ذلك زواجها من
كمال منسي أحد أصدقاء شقيقها، الذي كان شديد التأثر والاعجاب بصوتها.
فأحضر لها كبار المؤلفين والملحنين الذين قدموها بشكل جديد أدرك معه الجمهور تميز
صوتها وامتلاكها لنغمة غريبة تختلف عن غيرها. وقتها كانت تبلغ من العمر 16
عاماً فقط، ولكنها قدمت مجموعة من الأغاني القصيرة التي حازت الاعجاب
ومنها «أوصفولي الحب بيعمل ايه في القلب»، «أسهر وأنشغل أنا»، وكانتا من
تلحين الموسيقار محمود الشريف وكتبهما الشاعر مأمون الشناوي. وأغنية «حقك
عليا وسامح» التي لحنها لها شقيقها عز الدين. وهي أغنيات نجحت في إعادة
تقديم نجاة للجمهور ومنحها مكانة وسط نجوم الطرب في ذلك الوقت من أمثال
ليلى مراد وصباح وفايزة احمد وشادية. إلا أنها كانت قد نجحت في لفت نظر
موسيقار الأجيال إلى طبيعة صوتها وقدرته على أداء المقامات الصعبة فلحن
لها أغنية «كل ده كان ليه» التي كتب كلماتها الشاعر مأمون الشناوي. وهي
نفس الاغنية التي غناها عبد الوهاب بصوته بعد ذلك. وقد حققت بها نجاة
نجاحاً كبيراً عند غنائها لها. وسط تلك الخطوات الفنية الناجحة، جاء
لقاؤها بالشاعر كامل الشناوي بعد انفصالها عن زوجها كمال منسي. وقد كن لها
الشناوي مشاعر الحب والتقدير وآمن بموهبتها وبحاجتها إلى بعض الصقل لتلك
الموهبة. وكان يقول عن صوتها «إنه كالضوء المسموع». ولهذا جمعت الاثنين
جلسات عمل كثيرة ساعدها خلالها على النطق السليم لحروف اللغة العربية، كما
جذبها إلى عالم الأدباء والشعراء الذي أفاد نجاة الصغيرة بشكل كبير في
رحلتها الفنية وبخاصة عند غنائها للقصيدة. في ذلك الوقت كتبت الصحف عن
وجود قصة حب تجمع بين نجاة الصغيرة وشاعر الأحاسيس والمشاعر كامل الشناوي.
ولكن حدث خلاف بينهما قيل انه جاء بسبب شك الشناوي في حب نجاة له وشعوره بميلها إلى
غيره حسبما قالت الصحف وقتئذ. فكتب لها قصيدة «لا تكذبي» التي غناها فيما
بعد محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ. ونجاة أيضاً التي أصرت على تقديمها
بصوتها ولتحقق بها نجاحاً كبيراً فاق نجاح الأغنية بصوت غيرها. كما تردد
أيضاً أن كلمات أغنية «حبيبها» التي غناها عبد الحليم حافظ وكتبها
الشناوي، كانت موجهة إلى نجاة حيث يقول مطلعها «حبيبها لست وحدك حبيبها..
حبيبها أنا قبلك.. وربما جئت بعدك وربما كنت مثلك». الا أن مسيرة نجاة لم
تتأثر في تلك المرحلة بل واصلت السعي نحو تحقيق هدفها في الغناء والوصول
إلى قلوب الجماهير، فقدمت عدداً من الاغنيات التي صارت علامات في تاريخ
الموسيقى المصرية ومنها «ساكن قصادي وبحبه» التي كتبها حسين السيد ولحنها
لها محمد عبد الوهاب وعدت بداية للأغنية التي تروي قصة لها بداية وأحداث
ونهاية. ومع مجيء الستينات بدأت نجاة مرحلة فنية أكثر نضجاً تميزت فيها
بغناء القصائد الشعرية، وكانت البداية مع قصيدة «أيظن» للشاعر نزار قباني
الذي أرسلها إليها في رسالة بريدية كهدية لها، فأعجبت بها وتقول نجاة عن
تلك القصيدة «أحسست بعد قراءة هذا الشعر، أن هناك كنزاً بين كلمات هذه
القصيدة، ولكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، ولكنني حقيقة لم أتلق
القصيدة بارتياح كبير، لأن مفرداتها صعبة ولم يسبق لي أن غنيت بتلك اللغة،
فقدمتها للموسيقار كمال الطويل أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب
مستغرباً: ما هذا؟، ومثله فعل الملحن محمد الموجي، وبالتالي شعرت بأن
الموضوع لن يتم، وقررت أن أرسل القصيدة للنشر في إحدى الصحف المصرية،
تكريماً لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها، وبعد نشرها فوجئت بالفنان عبد
الوهاب يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة، وسألني هل هذه القصيدة لك؟
فقلت له نعم، وسردت له ما جرى. فطلب مني أن أراه كي أستمع إلى لحن
الأغنية، كانت حينها الساعة الحادية عشرة صباحاً، وأكد على أن التقيه بعد
ساعتين، وفعلاً حينما ذهبت إليه كان اللحن جاهزاً، وغنيت أيظن للشاعر
الكبير نزار قباني وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. وخرجت الأغنية
للحياة لتحقق حضوراً ساحراً في الأغنية العربية». وتنجح قصيدة «أيظن» بصوت
نجاة التي ينسب لها فضل تقديم نزار كشاعر إلى عامة الجماهير البعيدة عن
عالم القصيدة الشعرية، وتتوالى أعمال نزار ونجاة التي قدمت له فيما بعد
عدداً من القصائد الأخرى ومنها «ارجع إليّ»، و«ماذا أقول له» و«أسألك
الرحيل». وعندما سُئل نزار قباني عن نجاة، قال: «بالنسبة لي، يعبر صوت
نجاة عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجولة، التي تخاف من البوح عما في عالمها
الذاتي من أحاسيس. واعتقد انها أفضل من غنى قصائدي وعبر عنها».
وعلى الرغم من نجاحها في دنيا القصيدة المغناة، إلا أن نجاة لم تحصر نفسها فيها، حيث
تغنت بصوتها من كلمات العديد من الشعراء كما تعاونت مع عدد كبير من
الملحنين الذين تركوا بصمة في مسيرتها الفنية. ومنهم الشاعر مرسي جميل
عزيز الذي كتب لها عدداً من الأغنيات مثل أغنية «دوبنا يا حبايبنا»،
و«عيون القلب» التي لحنها لها محمد الموجي. كما تعاونت مع الأخوين رحباني
في أغنية «دوارين في الشوارع» التي قدمتها في فيلم «سبعة أيام في الجنة»
في بداية السبعينات. كما غنت من ألحان سيد مكاوي، وحلمي بكر، وبليغ حمدي،
وكمال الطويل الذي قالت عنه انه من أفضل الموسيقيين الذين استوعبوا صوتها.
وتقول نجاة عن مسيرتها: «لم يكن الطريق سهلاً ولا مفروشاً بالورود كما قد يظن البعض،
كان هناك تعب في إنجاز الأغنيات، وكنت أنا والمؤلف والملحن نراقب كل إشارة
لكل كبيرة وصغيرة، كان همنا النجاح الجماهيري إلى حد كبير، وكنا مشغولين
إلى درجة الهوس، بأن لا يكون هناك نقص أو خطأ في الأغنية التي تقدم. في
نفس الوقت وبالنسبة لي، كان يجب أن أكون على مستوى الشاعر الذي تعب في
صياغة أغنيته وشعره، وأن ارتقي إلى مستوى الجملة اللحنية التي اجتهد
الملحن عليها. كان على صوتي ان يحمل كل مكنونات القصيدة واللحن، حتى يكون
هناك تكامل في الأغنية التي ستخرج للناس بأبهى حلة».
أما علاقة نجاة بالسينما فتتحدث عنها الأفلام السبعة التي قدمتها لها. فبعد تجربتها
الأولى أمام المطربة «نجاة علي» في فيلم «هدية»، قدمت دوراً في فيلم «الكل
يغني»، ثم قامت بدور البطولة في فيلم «بنت البلد» عام 1953 أمام الفنان
الكوميدي إسماعيل يس، والذي أثبتت من خلاله قدرتها على التمثيل، وهو ما
منحها فرصة البطولة مرة أخرى في فيلم «غريبة» أمام أحمد رمزي في منتصف
الخمسينات. قدمت بعده فيلم «أسير الظلام»، وفيلم «الشموع السوداء» للمخرج
عز الدين ذو الفقار، وفي نهاية الستينات قدمت فيلمين مع الفنان حسن يوسف
هما «شاطئ المرح»، و«7 أيام في الجنة». ثم فيلم «ابنتي العزيزة» مع الفنان
رشدي أباظة. وكان فيلمها الأخير «جفت الدموع» مع الفنان محمود ياسين عام
1975.
ولنجاة ابن واحد هو وليد الذي أنجبته من زوجها الأول كمال منسي، الذي تزوجت بعد
انفصالها عنه من المخرج حسام الدين مصطفى بعد أن أخرج لها فيلم «شاطئ
المرح» ولكن الزواج لم يستمر طويلاً، حيث أعلنت عن تفرغها لابنها وفنها،
فلم تتزوج مرة أخرى. وتبقى علاقة نجاة بأختها الصغيرة الفنانة سعاد حسني
محل كثير من الأقاويل. فنجاة تقول إنها كانت أول من شجع شقيقتها على أن
تسلك طريق الفن بعد اكتشاف موهبتها حين قدمت فيلم «حسن ونعيمة» عام 1959.
إلا أن البعض يرى أن العلاقة بين الشقيقتين لم تكن على ما يرام بعد شعور
نجاة بالمنافسة التي قد تشكلها سعاد لها، خاصة بعد قيامها بالغناء في
أعمالها السينمائية. وهي الأقاويل التي رفضت نجاة التعليق عليها على
اعتبار ان علاقتها بشقيقتها أكبر من تناولها في وسائل الإعلام.
في حياة نجاة الكثير من محطات التكريم، حيث سبق أن تم تكريمها في تونس مرتين
احداهما من الرئيس الحبيب بورقيبة، والثانية من الرئيس زين العابدين بن
علي. وفي الأردن أهداها الملك حسين عام 1985 وسام الاستقلال من الدرجة
الأولى، كما حصلت على وسام من الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الستينات.
وقد فاجأت نجاة محبيها في عام 2003 بإعلانها قرار الاعتزال رغبة منها في
الحفاظ على تاريخها الفني، رافضة كل محاولات إثنائها عن ذلك القرار وكانت
آخر أغنياتها بعنوان «اطمئن» التي لحنها لها الفنان صلاح الشرنوبي