أعماق النص وسرابية القراءة
قراءة في نص (أسيجة) للشاعر رياض الغريب
أمجد نجم الزيدي
ليس من اليسير قراءة الشعر كما يظن البعض، حيث الاعماق التي لايصلها الامتدرب على تلقي الشعر، وعلى الاحساس بالنبض الذي يسري في مستويات مختلفة من هذه الاعماق، فاللشعر كما يقول بعض الكتاب عدة اعماق وليس عمقا واحدا، والغوص الى العمق البعيد يعتمد على شطارة الغواص / القارئ ليكشف مجاهيله التي لم تطأها قدم قارئ من قبل، ويحرك رمل القاع لتظهر له اشباح الشعر التي تستكين هناك منتظرة، فعلى الشاعر أن يصنع سلما مرجانيا يقود به القارئ الذي ما يزال يراوح عند السطح، الى تلك المجاهيل الملونة ورمالهاالمتحركة، التي تخفي أعماقا أخرى تعب من ملاحقتها، ربما ارضاءا لقناعات ابستملوجية، او غزلا خفيا للطروحات الاسكولائية المهيمنة.
نص ( أسيجة ) للشاعر رياض الغريب، يطرح لنا تلك الاعماق، ان نحن تسلحنا بعدة جيدة، ونثرنا رمال النص في ريح القراءة المتمعنة، التي ستنتج لنا مرتسمات سرابية سنحصرها بين دفتي كلمة استهلال النص وهي / دائما/ واخر كلمات النص وهي/ خارج الاسيجة/، سنرى بان النص يحاول ان يسير في جهة يحاول ان يعززها بطرق عدة ليوهمنا إن هذا هو الطريق الذي سيوصلنا الى العمق، بيد انا سنكتشف ان نحن سرنا داخل النص بصورة حذرة، وتأكدنا من موضع اقدامنا، سرابية هذا العمق، واننا اخذنا الجهة المعاكسة تماما ، فهناك مجموعة من الدوال المضللة التي وضعها الشاعر لتعميق نصه، وهي جملة الاهداء (الى ركن الدين يوسف وشعراء المحنة) والمتضافرة مع الافعال المضارعة، حتى ان النص يحاول ان يظهر نفسة وكأنه تفصيل لجملة تربط بداية النص بنهايته /دائما /= (هم)= /خارج الاسيجة/، و(هم) هنا هي اختزال لجملة الاهداء وايحاء الجمع المتولد من الأفعال المضارعة، بيد اننا لو حاولنا تحري ولمس الاعماق الحقيقية التي ربما يقصدها الشاعر، لراينا بان الدالة البدئية وهي العنوان( أسيجة ) هي المهيمنة على تحركات النص، في اجواء من الاحتدام الذي تضفيه الافعال المضارعة، وهذا الاحتدام ربما يعزز الدلالة الاولى التي يحاول النص ايهامنا بها، والتي نحاول ان نفككها ونكتشف سرابية مقولاتها، ان اخذناها بسطحيتها وانقدنا وراء وهم الفعل الذي تحاول هي والنص تعميقه، بيد اننا لو اخضعنا هذه الافعال الى الربط الدقيق مع وجودها الفعلي ومدى تأثيرها على الجملة الشعرية لرايناها افعالا غير حقيقية بل هي افعال مموهة تفتقد الى روح الفعل الحقيقي، للأرتباطها بدلالات تحرفها عن مسارها ، من مثل:/يندلعون بالخوف/ والذي يعكس الذي قد قلناه سابقا بأرتباط فعل الاندلاع وهو فعل احتدام ذو دلالة ايجابية حركية، مع مفردة الخوف والتي هي دلالة سلبية غير حركية، او / يعلقون / فوانيس نومهم العميق/، والذي يرينا ان فعل التعليق هنا هو فعل سكوني لا حركي، للارتباط دلالته كما هو واضح بالنوم العميق، والتي هي دلالة سلبية، اخرجته من مرجعيته الابستملوجية الى سكونية سالبة، وايضا هناك الفعل (تركض) في المقطع التالي:
تركض
في ذاكرتهم سماء لا تتوقف
وهذا الركض الذي ربما يظهر كفعل ايجابي حركي، مرتبط بدلالة الانفتاح المتمثلة بالسماء، والتي تتماهى مع فعل الركض بأنها لا تتوقف، بيد ان سرعان ما يتكشف لنا بانها حركية مموهة وغير حقيقية للارتباطها مع شبه جملة الجار والمجرور (في ذاكرتهم )، والتي قد جنحت بالمقطع بعيدا عما حاول الفعل المضارع تأسيسه، اي ان فعل( الركض) والذي اراد ان يوحي لنا بانه فعل حركي ، قد امتصت دلالة الذاكرة في جملة / في ذاكرتهم / زخمه واندفاعه، والذي حاول به النص ان يوهمنا ويضللنا عن العمق الحقيقي له، وايضا هناك الفعل (تسقط) في المقطع الذي يليه:
تسقط
قرب أحلامهم
حروب الجغرافيا
تجعلهم اكثر حكمة
في تجميع ألسنة الهواء
والذي يرتبط بجملة / قرب احلامهم / والتي تنطبق عليها المقولة السابقة، لأرتباطه بدلالة وهي ( الاحلام ) والتي لا تعزز حركيته بل تطفئ الزخم الحركي الذي نتوقعه منه كفعل له دلالة حركية ( السقوط) ، اما الفعل ( تجعلهم ) والذي يبدو اكثر حركية وانفلاتا عن المهيمنة الدلالية للنص لكونه فعل حركي مضارع، وايضا لأرتباطه بدلالة اخرى والمتولدة من جملة / اكثرهم حكمة /، بيد انه يفقد اتجاه الدلالة هذا لكون جملة / تجعلهم أكثر حكمة/ متولدة من الفعل المهيمن على المقطع وهو ( تسقط)، اي ان هذا الفعل سيلبس نفس لباس الفعل السابق المتولد منه.
اما الافعال في المقطع التالي من النص:
وحين
يقترب المطر من جلودهم
يفرحون
يرقصون من رؤية السنابل
تبزغ
من قدورهم الفارغة
ومواعين أولادهم الرصاص
حيث الافعال المضارعة ( يقترب، يفرحون، يرقصون، تبزغ ) والتي تظهر بنيتها الدلالية المباشرة بأنها افعال حركية، تتماهى مع دلالات اخرى داخل المقطع وهي (المطر، السنابل)، بيد ان القراءة سرعان ما تكشف عن بطلانها، ان اعيد تشكيلها وربطها بالسياق الدلالي للمقطع والنص بصورة عامة ، حيث ان هذه الافعال هي افعال متولدة من حيث دلالتها من ظرف الزمان ( حين) والذي يؤثر على بنائها والدلالات المتولدة منها، ويجعل حركية هذه الافعال واندفاعها مرتبطة بالظرفية الزمانية، والفعلين ( يفرحون، يرقصون) المرتبطين بالاشارات السابقة التي قد حددناها في البداية ، يظهر اقترانهما بالفعل الرئيسي المحرك للمقطع وهو (يقترب )، المرتبط بالظرفية الزمانية، حيث ان الاقتراب هو الذي يحقق فعل الفرح والرقص.
في المغيب
كل نجمة غواية
كل صباح أسئلة
تتثائب
تصيح في ارتجافاتهم
أناملهم
تومئ للحنين البعيد
في هذا المقطع يختلف ايقاع النص، عندما يتحول من هيمنة الافعال كما في المقاطع السابقة، الى هيمنة جملة ( في المغيب ) ، وتأتي الافعال ملحقة بهذه الظرفية الزمانية، عكس المقطع السابق، الذي تكون فيه الهيمنة الدلالية للفعل (يقترب)، وتأتي الأفعال (تتثائب، تصيح، تومئ)، لتوكيد هذه الظرفية التي تلعب دور المهيمن الذي يحرك دلالات المقطع، وذلك إن نحن تقصينا العقدية التي تربط بين مكونات المقطع وسيميائيتها، حيث إن (النجمة – الغواية)، (الصباح – الأسئلة) مرتبطة ارتباطا عقديا مع الأفعال، لأنها هي التي تحرك الفعلين الأوليين وهما (تتثائب وتصيح)، بيد إنها تفترق عن الفعل (تومئ) لارتباطه ب(أناملهم)، وهذه الدلالات المتولدة منها مرتبطة بعلاقة سببية مع الظرفية الزمانية (في المغيب)، والتي ربما تكون علاقة واضحة بين (المغيب-النجمة) ولكنها بين (المغيب- الصباح) تبدو غريبة في المقطع وغير مقنعة بعد أن لحقت ب(كل) وربما إن أوجدنا مقاربة لهذه العلاقة (في المغيب (يظهر) كل صباح أسئلة)، يظهر لنا إن العلاقة بينهما علاقة بين طرفين (طرف المغيب على اعتبار انه نهاية و الصباح على اعتبار انه بداية مستقبلية غامضة)، لان ظرفية (المغيب) هي التي أتت أولا وهي المهيمنة على المقطع، وأصبحت نقطة فاصلة أو وسطى بين دلالاته، حيث إننا أوضحنا ارتباطها بدلالة المستقبل، وترتبط أيضا بعلاقة استرجاعية ماضوية من خلال الفعل (تومئ)، وكذلك بهم (هم) القادمون من المقاطع السابقة كدلالة عامة للنص، لهذا تظهر هذه الظرفية الزمانية التي تدل على النهاية أي (المغيب) احتوت الفعل الذي (يومئ) للماضي، وبقي المستقبل الغامض الذي ربما يولد فعل التحريك دلالة مجردة ليس لها أي تأثير سوى تعميق الظرفية الزمانية التي تسير في المقطع.
أما في المقطع:
إنهم
يحفرون في المتعة
يطلعون إلى إناثهم
بمعاطف
ورسائل تضيء
مكتفين بضجيج قلوبهم
المتعبة
تميل على بعضها أطرافهم
تميل ولا تسقط
سنلاحظ بأن (هم) القادمون بكل زخمهم من المقاطع السابقة محاولين تمويه وجودهم، يظهرون في هذا المقطع مرتبطين بأفعال أكثر حركية وهي أفعال (الحفر والطلوع)، بيد إن الارتباط بين هذين الفعلين يبدو ارتباطا غامضا ومضللا؛ فهل هم يحفرون في المتعة ثم يطلعون إلى إناثهم؟ أم إنهم بحفرهم بالمتعة يطلعون إلى إناثهم؟ والاحتمال الثاني يبدو أكثر إقناعا، ليقودنا إلى الوجهة التي بنينا عليها افتراضاتنا السابقة في تأويل النص، حيث إن فعل الحفر هنا له دلالة البحث والتقصي حيث (هم) ببحثهم عن المتعة يقومون بفعل الطلوع، وهذا الفعل يقود إلى إرباك الدلالة إن نحن أغفلنا جذرها المطمور تحت المعنى العام للنص، إذ إن الافتراض السابق المرتبط بالبحث عن المتعة لا يفترض فعل الطلوع وإنما النزول إلى الاختزال ألذكوري للمرأة كأنثى، ولكن الفعل هنا يبدد هذا الافتراض لارتباطه بدلالات أخرى عززت فعل الطلوع وهي (رسائل تضيء)، (مكتفين بضجيج قلوبهم) أي طالعين مجردين إلا من نبض الحياة الذي تعكسه قلوبهم المتعبة، ولكن تبقى النبرة الذكورية الاختزالية واضحة في هذا المقطع، وهذا ما تؤكده الجمل الآتية (تميل على بعضها أطرافهم/ تميل ولا تسقط) حيث رغم إن أطرافهم تتمايل فهم لا يسقطون في طريقهم إلى إناثهم.
ويأتي المقطع الأخير على نغمة مقاربة إلى أنغام المقاطع السابقة، ولكن تغلب عليه الثنائيات المباشرة (سواحل العالم- ملح)، (فاكهة- ذابلة)، (طفولة- بياض):
إنهم
رغم سواد سواحل العالم
ينمون على ملح اللحظة
ينضجون كفاكهة لذيذة
في أعوامهم الذابلة
عندهم الطفولة
عندهم مدن من البياض
لذا
لا خوف عليهم حين يرتجفون
بيد إن هذه الثنائيات تخرج من منطقها المباشر وتدخل في علاقات جديدة، علاقات لونية، تشكيلية وزمنية، إذ أنهم رغم (السواد) ينمون على (بياض/ الملح)، وهم ينضجون رغم الذبول، وإذا حاولنا أن نوجد مقاربة بين هذه العلاقات فسنلاحظ بأن (البياض) في (ملح اللحظة) و (الفاكهة اللذيذة)تولدتا من خلال فعلي النمو والنضوج أي إن حركيتهما جاءت عن طريق الأفعال، بيد إن هذه الحركية –وكما في المقاطع السابقة- هي حركية مموهة وخادعة حيث إن هذا البياض مرتبط بالملح السريع الذوبان سرعة انتهاء اللحظة واختفائها، وكذلك بأنهم فاكهة لذيذة وسط أعوامهم الذابلة.
وهذه المقاطع، التي تناولناه وحاولنا إيجاد مقاربة تأويلية واستقصاء لأهم مرتكزاتها في هذا المتن المقترح، تأتي ترجيعا لافتراضنا الأولي الذي خرجنا به في المقدمة، وهو ان هذا النص هو تفصيل لجملة (دائما/ (هم) /خارج الاسيجة!!!)، حيث تأتي نهاية النص لتعلن بصورة مباشرة هوية (البورتريه) الذي حاول الشاعر رسمه على طول النص، وهم (شعراء الحصار البسلاء)، ولكن تبقى جملة (خارج الاسيجة) ملحقة بعدة علامات تعجب.
أنهم
شعراء الحصار البسلاء
خارج الاسيجة!!!