قال اللص، جاء الفرج
نـــــــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
يتندر اهلنا الطيبين بما قيل قديما من انه (اذا طلب القاضي من اللص ان يقسم، قال مع نفسه: لقد جاء الفرج) فعندما يقال اليوم لايتام الطاغية وقعوا على تعهد تتبرؤون به من النظام البائد وحزبه المنحل، قبل ان يتسنى لكم المشاركة في الانتخابات النيابية القادمة، قالوا مع انفسهم: لقد جاء الفرج، اذ ليس عندهم اسهل من ان يحلفوا او يمضوا على مثل هكذا تعهد، اليوم، ليركلوه باقدامهم غدا، فقد فعلوها في الماضي عدة مرات.
انهم سيعتبرونها تضحية وطنية من اجل خدمة الحزب، فهم يعتقدون انهم بذلك يمدون اجسادهم جسورا ليعبر عليها رفاقهم الاخرين الى ضفة السلطة.
ولذلك رايناهم يوقعون على مثل هذه الوثائق، كلما احتاجوا اليها، من دون اكتراث بالمطلق.
فعندما اراد الرئيس العراقي الاسبق، عبد السلام عارف، ان يطلق سراح رئيس وزراءهم احمد حسن البكر من السجن، بعد ما سمي بردة (تشرين) طلب منه ان يوقع على تعهد يتخلى بموجبه عن العمل السياسي ويتبرأ به من (حزب البعث).
لم يتردد البكر لحظة واحدة في تلبية مثل هذا الطلب، ولم يعد به الى القيادة لمناقشة المقترح، بل اسرع الى ذلك، ليخرج من السجن ويبدا بحياكة المؤامرات لينقلب على شقيق عارف (عبد الرحمن) ويستلم السلطة منه اثر انقلاب عسكري نفذه مع زمرة من اللصوص وعصابة من القتلة والمجرمين.
كان ذلك في (17 تموز 1968).
ثم اقسم اللصوص فيما بينهم على ان لا يخون بعضهم البعض الاخر، ولكن، لم يمر اسبوعان على القسم حتى جرت عملية تصفية الاجنحة فيما بينهم ليخلو الجو والسلطة الى جناح (البكر ــ صدام) وذلك في (30 تموز 1968).
ثم اقسموا مرة اخرى، للشئ نفسه، ولتوكيد قسمهم هذه المرة ذهبوا جميعا الى مرقد ابي الفضل العباس بن علي عليه السلام في كربلاء المقدسة، لايمانهم، على حد زعمهم، بانه عليه السلام ينتقم سريعا ممن يحنث بقسمه، فتعاهدوا هناك على ان لا يخون بعضهم البعض الاخر، اذا بماكينة الخيانات تدور باقصى سرعتها مرة اخرى، لتقتل وتغتال وتصفي الرفاق واحيانا معهم عوائلهم.
وفي عام (1975) عندما اراد الطاغية الذليل ان ينقذ سلطته من الازمة الخانقة التي المت به، لم يجد بدا من ان يوقع على اتفاقية ما مع شاه ايران وقتها، والتي عرفت فيما بعد باتفاقية الجزائر التي تنازل فيها النظام عن الارض والبترول والمياه، ليمزقها بداية العام (1980) عندما تصور ان مفعولها قد انتهى، فلم يعد بحاجة اليها.
ثم دار الطاغية وجهه الى الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني ليقسم له بالايمان المغلظة انه يريد ان يفتح معه صفحة جديدة من العلاقات القائمة على الحب والود والاحترام المتبادل، اذا به يبعث له بباقة من الورد الملغم مع بعض زبانيته ليقتل بها الملا في مجلسه، لولا ارادة الله التي شاءت امرا آخر.
وفي مؤتمر القمة العربية الاستثنائية الذي عقد في بغداد، اواخر الشهر الخامس من عام (1990) وبحضور جل الزعماء والقادة العرب، من بينهم امير دولة الكويت آنذاك الشيخ جابر آل الصباح، خاطب رئيس القمة الطاغية الذليل صدام حسين الحضور بقوله: لقد اوصيت ولدي عدي وقصي اذا ما المت بهما مشكلة، ان يلجئا الى عمهما الشيخ جابر في الكويت، اذا به، وبعد مرور اقل من ثلاثة اشهر فقط، ارسل بقواته المدججة بالسلاح الى هذه الدولة الجارة للعراق والسالمة والضعيفة، ليغزوها ويروع اهلها الطيبين.
وفي خيمة صفوان امضى النظام، وبلا نقاش، على كل شروط الولايات المتحدة الاميركية، لدرجة ان العراقيين وقتها كانوا يتندرون على الطاغية بتسميته (بصام حسين) لكثرة ما ابصم، الا انه ظل يكذب ويناور ويعرقل، الى ان تم اسقاط صنمه في بغداد في التاسع من نيسان عام 2003.
بعد ذلك امضى على تعهد اذن بموجبه بعودة الابن الضال والطريد حسين كامل وشقيقه وعائلتيهما من الاردن، وبوساطة الملك نفسه، ليستقبلهما عدي ويقطعهما اربا اربا، ثم يهدي راسيهما الى عمهما صدام، ليشرب عليهما انخاب النصر المؤزر.
وهكذا هو ديدن النظام البائد وايتامه ومن لا زال يرى فيه الامل بالعودة الى السلطة في بغداد.
لقد ظل الحلف والقسم واليمين وامضاء التعهدات، افضل طريقة لانقاذ النفس من عنق الزجاجة، وامتن حبل نجاة يمكن ان يتعلق به كلما وقع في حفرة كبيرة او بئر عميق.
انها ادواته للوصول الى السلطة والبقاء متربعا عليها.
انها ثقافة المؤامرة التي تربى وترعرع عليها النظام البائد وحزبه المنحل، ولذلك فان عنصر المؤامرة يسري في عروقه وفي دمائه، لا يمكن ان يتخلى عنه ابدا، بل انه يعتبر (المؤامرة) بطولة وشجاعة، وان حلف اليمين مناورة وخدعة، اوليست الحرب خدعة، فلماذا لا يوظفها في معاركه ومؤامراته كلما احتاج اليها؟.
انها الدم الذي يسري في بدنه، يخدع نفسه ويمكن روحه منه من يظن او يعتقد بامكانية التغيير، انها ليست ثوبا يخلعه الخلف، ليستبدله بآخر جديد، ابدا، انها الثقافة التي شب عليها صغيرهم ومات عليها كبيرهم.
اتذكر ايام (المؤتمر الوطني العراقي الموحد) عندما كنا في كردستان العراق، في زمن المعارضة ضد النظام الديكتاتوري البائد، وقد كان معنا في المجلس التنفيذي عدد من (البعثيين) او سمهم القوميين، من امثال المرحومين هاني الفكيكي وطالب شبيب، كنت اسمعهم، وهم يتحدثون عن ذكرياتهم مع (حزب البعث) الذي تركوا العمل في صفوفه، انهم يكررون عبارة (متآمر) عندما ياتون على اسم من اسماء رفاقهم القدماء، وفي نفس الوقت، اراهم يمجدون بالاسم الوارد على لسانهم اذا وصفوه بـ (المتآمر) الا انهم ينهالون عليه بالتقريع اذا لم ينعتوه بهذه الصفة، لدرجة انني زهقت يوما فبادرتهم بسؤال استنكاري والدهشة بادية على وجهي، فقلت لهما:
انا اتعجب من كلامكما، وكانكما تتحدثون بالمقلوب، فقالا لي: وكيف؟ قلت لهما، اراكما تمتدحون (المتآمر) وتذمون (غير المتآمر) فيما يجب ان تفعلوا العكس، قالا: بلا، نحن نتحدث بشكل صحيح، ولكن ليس بمنطوقك وانما بمنطوقنا، ويقصدان منطوق (حزب البعث) فقلت لهما: وكيف؟ قالا: في منطوق حزب البعث فان المتآمر يستحق الثناء والتبجيل والمدح لانه رجل شجاع وشهم وقادر على تصفية خصومه متى يشاء او طلب منه ذلك، ولو كانوا قريبين منه، او رفاقه بالامس، فالمتآمر مخادع مكار غدار، يمكن الاعتماد عليه عند الملمات، وفي الساعات الحرجة، اما غير المتآمر فهذا (خنيثة) لا يستحق ان يعيش في هذه الحياة.
ويظل ايتام النظام البائد الى الان بنفس العقلية وبذات المنطق الاعوج، فلو اراد هؤلاء ان يتبرأوا من النظام البائد وحزبه المنحل لفعلوا ذلك خلال الاعوام السبعة الماضية، وهم في صلب العملية السياسية وتحت قبة البرلمان، وفي مؤسسات الدولة، ولما ظلوا يمجدون بالماضي الاسود بمناسبة ومن دون مناسبة، وكانهم يذكرون العراقيين بماضيهم لارعابهم وتخويفهم وبالتالي لابتزازهم؟.
انهم سيتسابقون فيما بينهم للتوقيع على اية وثيقة معدة سلفا بهذا الصدد.
لقد سعيت في هذا المقال الى ان ادرج بعض الحقائق (الايديولوجية) عن النظام البائد وحزبه المنحل، فقط من باب التذكير فان {الذكرى تنفع المؤمنين} لتنشيط ذاكرة السياسيين الذين اراهم يوشكون على الاخذ بمقترح نائب الرئيس الاميركي جوزيف بايدن الذي يزور بغداد حاليا لانتشال (الايتام) من ركلة هيئة المساءلة والعدالة، فلقد قرات في قانون (الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة) رقم (10) والصادر عن مجلس النواب العراقي في عام (2008) في المادة رقم (3) سادسا، ما يلي:
خدمة الذاكرة العراقية من خلال توثيق الجرائم والممارسات غير المشروعة لعناصر حزب البعث واجهزته القمعية، وتوفير قاعدة بيانات متاحة عن العناصر المذكورة، لتحصين الاجيال القادمة من السقوط في براثن الظلم والطغيان والاضطهاد.
هذا النص شجعني على ان اساهم في تنشيط ذاكرة (السياسيين) قبل غيرهم، الذين يبدو لي ان بعضهم فقدها بدرجة او باخرى، كما انه شجعني على ان اقدم بعض الخدمة لذاكرة (الجيل الحالي) قبل ان تاتي الاجيال القادمة على انقاضه، فتساءلت مع نفسي: ترى اذا نسي الجيل الذي عاش وتضرر بسياسات وايديولوجيات النظام البائد، الماضي القريب، وهو بعد على قيد الحياة، فكيف بالاجيال القادمة يا ترى؟ ومن الذي سيذكرهم وينشط ذاكرتهم؟.
اتمنى على السياسيين ان لا يتعاملوا بمثل هذه السذاجة مع مصير العراق، فالدول لا تبنيها مثل هذه الامضاءات، والسياسات لا يرسمها حلف يمين او ما اشبه، وان عليهم ان يتذكروا بان القضية لا تتعلق باشخاص مهما كثر عددهم، بل ان وراءهم دول وانظمة واجهزة مخابرات اقليمية ودولية تسعى بكل جهدها لتدمير العملية السياسية، اولا من خلال تسريب مثل هذه العناصر لتاخذ مواقعها تحت قبة البرلمان، ثم يبدا التخريب شيئا فشئيا، ان من خلال عرقلة تشريع القوانين، او من خلال تمكين العناصر المشابهة لتحتل مواقعها في اجهزة الدولة حديثة التاسيس، واخيرا تنفيذ الخطوة الاخطر التي تعود بالعراق الى سابق عهده تحكمه الاقلية بالحديد والنار، فتبدا دورة الحروب العبثية والانفال وحلبجة والمقابر الجماعية والقتل على الهوية والتمييز والمطاردة، مرة اخرى.
ان من سيقسم من ايتام النظام البائد، او سيمضى على التعهد المطلوب، انما هو احد اثنين، فاما ان يكون (متدينا) فسيبر بقسمه بكفارة يدفعها الى اقرب فقير، اما الذي لا دين له، فاين هو من القسم او التعهد؟.
انهم ليسوا اهل دين او اخلاق او التزام، فالقسم لا معنى له عندهم، وان قيمة الامضاء عندهم ليس اكثر من قيمة الحبر الذي يمضون به، فحذار حذار من خديعة رفع المصاحف.
اما بالنسبة الى الولايات المتحدة الاميركية المتحمسة للامر، فكلنا نعرف بان هذه الادارة مازومة لدرجة انها غير مستعدة لان ترى اي تلكؤ في اي ملف ساخن كانت قد ورثته من الادارة القديمة، ادارة الرئيس بوش، ولهذا السبب فهي رفعت شعار (الاستقرار اولا) الذي يعني في منطوقها ان تسير الامور كما هو مخطط لها من دون اية عرقلة، فاذا كان الامر يتحقق بعودة ايتام النظام البائد فليكن، المهم ان تجري الامور بطريقة هادئة، وهو الامر الذي عرفه الايتام والاطراف التي تقف وراءهم، لذلك نراهم يسعون لتوظيف هذه الرؤية الاميركية من اجل الضغط باتجاه تنفيذ الاجندات المرسومة.
اتمنى ان لا يكون ضحايا النظام البائد، منفذون مخلصون لمثل هذه الرؤية التي تاخذ بعين الاعتبار مصالح الاميركيين من دون ان تاخذ مصالح العراقيين في حساباتها ابدا.