القرد والطحين
محمود الباتع
أما وقد انفض ذلك السامر الكروي الصاخب وانجلت ـ ولو إلى حين ـ تلك السحابة الداكنة من الضجيج المصاحب له لشهور بدت كالدهور، وبعد أن انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من قطف الفريق الفائز لثمرة اجتهاده استحقاقاً لبلوغ الربوع الجنوب أفريقية، محملاً بما ناله من ثمالة الفوز ونشوة الانتصار إضافة إلى أدعية الكبار والصغار، ليضعها جميعاً بين أقدام سادة الملاعب وعماليق المسطحات الخضراء الآتين من كافة أنحاء الدنيا محملين مثله تماماً بالآمال وأحلام الفوز والتألق، حيث يواجه كل منهم هناك قدره ويرى بأم عينه وعيون أنصاره ما هو مكتوب على جبينه وجبينهم.
من غير المفيد التقليل من شأن المنافسات الرياضية في حياة الشعوب كتفعيل لروح التحدي التي جبل عليها الإنسان، وبغيرها لما كانت البشرية قد برحت كهفها الأول ولما كانت قد وصلت إلى ما هي عليه اليوم، فكيف إذا اقترنت روح التحدي تلك بالبراعة الساحرة والمتعة الآسرة؟ والرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً كأكثر الرياضات شعبية في العالم، ما هي إلا إحدى مظاهر الترابط الإنساني وواحدة من أهم أدوات التواصل الحضاري بين الأمم والشعوب على اختلافها وتباعد أمكنتها وإمكاناتها. ولا شك أن الجميع يذكر كيف أن داهية السياسة الأمريكية هنري كيسنجر في السبعينات الماضية كان قد تقارب مع غريمه ونقيضه الصيني موظفاً لذلك مباراة في تنس الطاولة بين الفريقين الأمريكي والصيني، في ما عرف وقتها بدبلوماسية البينغ بونغ.
ليس الأمر متعلقاً بمجرد مباراة في كرة القدم، ولا ذنب لقطعة الجلد المنفوخ تلك في ما رأيناه من الانتفاخ المؤلم الذي تمكن من القلوب إلى حد الورم، وبالتأكيد ليست القضية قضية ثنائية بين بلدين شقيقين، فهذان البلدان يمثلان معاً ما يقارب نصف الأمة العربية، بشرياً واقتصادياً وسياسياً وحضارياً، هذا النصف الذي انخرط في تقطيع أوصال ذاته بينما انشغل النصف الآخر في التداعي بالألم الذي أصاب كامل مجموع الأمة بسبب تلك المباراة وسرى فيها وكأنه الأنفلونزا، ولسنا نتجنى على الحقيقة عندما نقول أن أعراضها وظواهرها قد انتشرت بين أبنائها جميعاً من محيطهم إلى خليجهم، حتى لتكاد تكون هي القاعدة وما عداها استثناء.
فالمثير للاستغراب والدهشة والألم في آن معاً، أن وسائل التواصل الحضاري بين أمم الأرض تتحول في الجسد العربي إلى أدوات للتمزيق والشرذمة كما تتحول أسباب التقارب الإنساني عندنا إلى محفزات للتنافر والعنصرية والكراهية المتبادلة، رغم كل ما قيل ويقال ويدركه الجميع عن وحدة الهوية والمصير والهدف الدين واللغة وما إلى ذلك من شعارات ينقضها ويطيح بها أول محك من محكات الواقع الفج، ما جعل من حديث الوحدة العربية والوطن العربي الأكبر والذي كان مقدساً إلى يوم غير بعيد من الأيام حديثاً مضحكاً لا يخلو من السذاجة حتى لا نقول السخافة.
كنا قد توصلنا فيما سبق إلى أن التطرف في سبيل أية قيمة مهما كان سموها ونبلها، إنما هو أقصر السبل للإطاحة بهذه القيمة، وهكذا فقد كان التطرف القومي هو المسؤول تحديداً عن تصدع القومية العربية ونهيارها، وهذا ما أكد عليه مؤخراً المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في محاضرته الأخيرة في الدوحة قبل أيام من أن أدلجة الهوية القومية العربية كان هو الخطأ القاتل الذي سقط فيه سهواً مفكروها ودعاتها وأسقطوها معهم بين براثنه المميتة. فالتطرف والتعصب هما بيت الداء، وإذا كان من حق الكثرة المأخوذة بشعار (نحن أولاً) أن لا يأبهوا كثيراً أو قليلاً بمصير الهوية القومية الذي ذهب أدراج الرياح جراء التعصب والشوفينية، فإن عليهم أن يتنبهوا إلى مصير مماثل يتربص ويحيق بالهوية الوطنية نفسها، من حيث يظنون كونهم وإياها تحت مظلة التعصب في أمان.
لقد تسارعت مؤخراً وبشكل لافت وتيرة التقشير والسلخ للأطر الضامة والضامنة لهوية هذه المنطقة، وسحبها تدريجياً من أطرها الطبيعية، فمن فضاء الهوية الثقافية إلى نطاق القومية ثم إلى قوقعة الإقليمية وأخيراً إلى شرنقة الشعوبية وصولاً إلى انبثاق أزمة الأقليات، فبعد الدأب والإمعان في نزع واجهتها الإسلامية، هاهو يجرى على قدم وساق سلخ الوجه العربي عنها، وبعد فشل الشرق أوسطية والمتوسطية والمحورية الإقليمية، وحتى قبل أن يتم الغرض لأصحاب الغرض، نرى كيف أن الهوية الوطنية ذاتها التي اخترعها كل من سايكس وبيكو ذات يوم واتخذ منها البعض لاحقاً أيديولوجيا وطنية ـ بالإذن من عزمي بشارة ـ قد أصبحت هي الأخرى في مرمى النيران غير الصديقة ولا الشقيقة، وإنما بالضرب الذاتي من تحت الحزام ومن فوقه.
إنها الأزمة تنخر في صميم الوجدان العربي، يقودها الإحساس الدفين بالمرارة والفشل، هذا الفشل الذي يدفع كلاً منا إلى التعلق بأي إنجاز من أي نوع أو وزن، فعندما يتعذر إنتاج مشروع قومي على قدر من النجاح تتعلق الأنظار والآمال بأية غاية قابلة للتحقيق كبديل عن ذلك المشروع المأمول، حتى لو كان هذا من قبيل الفوز على الذات في مباراة رياضية أو دخول موسوعة غينيس بأكبر صحن حمص بيروتي أو بأطول ثوب فلسطيني أو أكبر جناح فندقي أو أغلى رقم مميز أو أطول لوحة جدارية، وعندما تعد هذه كلها إنجازات قياسية في وجود هذا الكم المليوني الصافع من المجوعين والمحاصرين والعاطلين والمعطلين، وتلك الأرقام القياسية للأرامل والأيتام والمعاقين وأضعافهم من المسكونين بالرعب مما يخبئه لهم الغد من مصائر لا يعرف ألوانها إلا الله، كل هذا وأكثر منه يجري ملء السمع والبصر ثم نرى أن شرف المواطن وكرامة الوطن ـ أي وطن كان ـ قد أريد لها أن تتعلق حصراً بركلة كرة، فهل من سيبل إلى إنكار الأزمة بعد؟
هناك كم لا بأس به من الأقلام يتوجه إلى النظام الرسمي العربي بالاتهام بالعمل على تسييس القضية لإلهاء العامة وصرف اهتمامها عن المشاكل الحقيقية التي تعتري المجتمع والدولة وذلك بصب زيت الغوغائية على نار الإحباط، ولكن هذا الرأي رغم وجاهته أحياناً كثيرة قد أسقطته الواقعة الأخيرة بامتياز، فالشحن قد بدأ وانتهى جماهيرياً ولم يكن تقافز قرد الإعلام على طحين الغوغاء إلا مجاملة وتملقاً للرأي العام وركوباً لموجته الجماهيرية العارمة.
هاهي المنطقة إذن تتعرى فتنزع عنها قشورها قشرة تلو قشرة، ومع كل قشرة تنزع يكون الانكفاء أكثر وأكثر نحو المركز، وها هي تباشير التقوقع الشعوبي والعرقي قد لاحت في الأفق في أكثر من موقع على شكل حروب وفتن اندلعت أو هي على وشك الاندلاع، وقودها الناس والحجارة وأدواتها التعصب والانغلاق والشعوبية العمياء.
منشور في "الشرق القطرية يوم الخميس 19/11/2009
محمود الباتع
أما وقد انفض ذلك السامر الكروي الصاخب وانجلت ـ ولو إلى حين ـ تلك السحابة الداكنة من الضجيج المصاحب له لشهور بدت كالدهور، وبعد أن انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من قطف الفريق الفائز لثمرة اجتهاده استحقاقاً لبلوغ الربوع الجنوب أفريقية، محملاً بما ناله من ثمالة الفوز ونشوة الانتصار إضافة إلى أدعية الكبار والصغار، ليضعها جميعاً بين أقدام سادة الملاعب وعماليق المسطحات الخضراء الآتين من كافة أنحاء الدنيا محملين مثله تماماً بالآمال وأحلام الفوز والتألق، حيث يواجه كل منهم هناك قدره ويرى بأم عينه وعيون أنصاره ما هو مكتوب على جبينه وجبينهم.
من غير المفيد التقليل من شأن المنافسات الرياضية في حياة الشعوب كتفعيل لروح التحدي التي جبل عليها الإنسان، وبغيرها لما كانت البشرية قد برحت كهفها الأول ولما كانت قد وصلت إلى ما هي عليه اليوم، فكيف إذا اقترنت روح التحدي تلك بالبراعة الساحرة والمتعة الآسرة؟ والرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً كأكثر الرياضات شعبية في العالم، ما هي إلا إحدى مظاهر الترابط الإنساني وواحدة من أهم أدوات التواصل الحضاري بين الأمم والشعوب على اختلافها وتباعد أمكنتها وإمكاناتها. ولا شك أن الجميع يذكر كيف أن داهية السياسة الأمريكية هنري كيسنجر في السبعينات الماضية كان قد تقارب مع غريمه ونقيضه الصيني موظفاً لذلك مباراة في تنس الطاولة بين الفريقين الأمريكي والصيني، في ما عرف وقتها بدبلوماسية البينغ بونغ.
ليس الأمر متعلقاً بمجرد مباراة في كرة القدم، ولا ذنب لقطعة الجلد المنفوخ تلك في ما رأيناه من الانتفاخ المؤلم الذي تمكن من القلوب إلى حد الورم، وبالتأكيد ليست القضية قضية ثنائية بين بلدين شقيقين، فهذان البلدان يمثلان معاً ما يقارب نصف الأمة العربية، بشرياً واقتصادياً وسياسياً وحضارياً، هذا النصف الذي انخرط في تقطيع أوصال ذاته بينما انشغل النصف الآخر في التداعي بالألم الذي أصاب كامل مجموع الأمة بسبب تلك المباراة وسرى فيها وكأنه الأنفلونزا، ولسنا نتجنى على الحقيقة عندما نقول أن أعراضها وظواهرها قد انتشرت بين أبنائها جميعاً من محيطهم إلى خليجهم، حتى لتكاد تكون هي القاعدة وما عداها استثناء.
فالمثير للاستغراب والدهشة والألم في آن معاً، أن وسائل التواصل الحضاري بين أمم الأرض تتحول في الجسد العربي إلى أدوات للتمزيق والشرذمة كما تتحول أسباب التقارب الإنساني عندنا إلى محفزات للتنافر والعنصرية والكراهية المتبادلة، رغم كل ما قيل ويقال ويدركه الجميع عن وحدة الهوية والمصير والهدف الدين واللغة وما إلى ذلك من شعارات ينقضها ويطيح بها أول محك من محكات الواقع الفج، ما جعل من حديث الوحدة العربية والوطن العربي الأكبر والذي كان مقدساً إلى يوم غير بعيد من الأيام حديثاً مضحكاً لا يخلو من السذاجة حتى لا نقول السخافة.
كنا قد توصلنا فيما سبق إلى أن التطرف في سبيل أية قيمة مهما كان سموها ونبلها، إنما هو أقصر السبل للإطاحة بهذه القيمة، وهكذا فقد كان التطرف القومي هو المسؤول تحديداً عن تصدع القومية العربية ونهيارها، وهذا ما أكد عليه مؤخراً المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في محاضرته الأخيرة في الدوحة قبل أيام من أن أدلجة الهوية القومية العربية كان هو الخطأ القاتل الذي سقط فيه سهواً مفكروها ودعاتها وأسقطوها معهم بين براثنه المميتة. فالتطرف والتعصب هما بيت الداء، وإذا كان من حق الكثرة المأخوذة بشعار (نحن أولاً) أن لا يأبهوا كثيراً أو قليلاً بمصير الهوية القومية الذي ذهب أدراج الرياح جراء التعصب والشوفينية، فإن عليهم أن يتنبهوا إلى مصير مماثل يتربص ويحيق بالهوية الوطنية نفسها، من حيث يظنون كونهم وإياها تحت مظلة التعصب في أمان.
لقد تسارعت مؤخراً وبشكل لافت وتيرة التقشير والسلخ للأطر الضامة والضامنة لهوية هذه المنطقة، وسحبها تدريجياً من أطرها الطبيعية، فمن فضاء الهوية الثقافية إلى نطاق القومية ثم إلى قوقعة الإقليمية وأخيراً إلى شرنقة الشعوبية وصولاً إلى انبثاق أزمة الأقليات، فبعد الدأب والإمعان في نزع واجهتها الإسلامية، هاهو يجرى على قدم وساق سلخ الوجه العربي عنها، وبعد فشل الشرق أوسطية والمتوسطية والمحورية الإقليمية، وحتى قبل أن يتم الغرض لأصحاب الغرض، نرى كيف أن الهوية الوطنية ذاتها التي اخترعها كل من سايكس وبيكو ذات يوم واتخذ منها البعض لاحقاً أيديولوجيا وطنية ـ بالإذن من عزمي بشارة ـ قد أصبحت هي الأخرى في مرمى النيران غير الصديقة ولا الشقيقة، وإنما بالضرب الذاتي من تحت الحزام ومن فوقه.
إنها الأزمة تنخر في صميم الوجدان العربي، يقودها الإحساس الدفين بالمرارة والفشل، هذا الفشل الذي يدفع كلاً منا إلى التعلق بأي إنجاز من أي نوع أو وزن، فعندما يتعذر إنتاج مشروع قومي على قدر من النجاح تتعلق الأنظار والآمال بأية غاية قابلة للتحقيق كبديل عن ذلك المشروع المأمول، حتى لو كان هذا من قبيل الفوز على الذات في مباراة رياضية أو دخول موسوعة غينيس بأكبر صحن حمص بيروتي أو بأطول ثوب فلسطيني أو أكبر جناح فندقي أو أغلى رقم مميز أو أطول لوحة جدارية، وعندما تعد هذه كلها إنجازات قياسية في وجود هذا الكم المليوني الصافع من المجوعين والمحاصرين والعاطلين والمعطلين، وتلك الأرقام القياسية للأرامل والأيتام والمعاقين وأضعافهم من المسكونين بالرعب مما يخبئه لهم الغد من مصائر لا يعرف ألوانها إلا الله، كل هذا وأكثر منه يجري ملء السمع والبصر ثم نرى أن شرف المواطن وكرامة الوطن ـ أي وطن كان ـ قد أريد لها أن تتعلق حصراً بركلة كرة، فهل من سيبل إلى إنكار الأزمة بعد؟
هناك كم لا بأس به من الأقلام يتوجه إلى النظام الرسمي العربي بالاتهام بالعمل على تسييس القضية لإلهاء العامة وصرف اهتمامها عن المشاكل الحقيقية التي تعتري المجتمع والدولة وذلك بصب زيت الغوغائية على نار الإحباط، ولكن هذا الرأي رغم وجاهته أحياناً كثيرة قد أسقطته الواقعة الأخيرة بامتياز، فالشحن قد بدأ وانتهى جماهيرياً ولم يكن تقافز قرد الإعلام على طحين الغوغاء إلا مجاملة وتملقاً للرأي العام وركوباً لموجته الجماهيرية العارمة.
هاهي المنطقة إذن تتعرى فتنزع عنها قشورها قشرة تلو قشرة، ومع كل قشرة تنزع يكون الانكفاء أكثر وأكثر نحو المركز، وها هي تباشير التقوقع الشعوبي والعرقي قد لاحت في الأفق في أكثر من موقع على شكل حروب وفتن اندلعت أو هي على وشك الاندلاع، وقودها الناس والحجارة وأدواتها التعصب والانغلاق والشعوبية العمياء.
منشور في "الشرق القطرية يوم الخميس 19/11/2009