روايات غزو العراق
محمد عارف
محمد عارف
كما في فيلم سينمائي تبدأ الرواية بوصول سيارة ليموزين تحمل ثمانية مجندين في حرب العراق إلى ملعب كرة القدم في تكساس. تنتظر المجندين خارج السيارة فتيات حسناوات يتطلعن إلى استقبالهم بالهتاف والصراخ المعتادين عند استقبال نجوم السينما والرياضة. بطل الرواية "بيلي لين" وزملاؤه المجندون السبعة نالوا الشهرة عندما عرض تلفزيون "فوكس" تقريراً عن معركتهم الضارية في العراق. وحالما يغادرون السيارة تتهافت الفتيات عليهم، وتنهال عروض منتجي هوليود لبيع قصتهم، وخطط مالكي فرق كرة القدم لاستغلال شهرتهم، رغم أنهم كانوا سيعودون بعد ساعات للقتال من جديد في العراق.
عنوان الرواية "مسيرة بيلي لين الطويلة في الهافتايم". و"الهافتايم" هي الفترة ما بين شوطي مباراة كرة القدم، والتي يجري خلالها استعراض المجندين ومشجعات كرة القدم المبهرجات ضمن احتفالات عيد الشكر التقليدية. الوتيرة العنيفة لأحداث الرواية التي تجري مع تصاعد عملية غزو العراق عام 2004 تشد القارئ. ومع أن زمن الرواية لا يستغرق سوى بضع ساعات تفلح في تقديم تفاصيل الكون المصغر للولايات المتحدة، وتكساس بالذات، ولاية بوش، حيث الرأسمالية الفاحشة الثراء، والمجتمع الطبقي وامتيازاته، والسلطة، والجنس، والتجارة.
"إنه لأمر غريب تكريمك عن أسوأ يوم في حياتك". يقول ذلك بطل الرواية "بيلي لين" (19عاماً)، الساذج إلى الحد الذي يدهشه الاحتفاء الصاخب، لكنه ذكي بما يكفي لمعرفة أن واقعه الوحيد الذي يهمه موجود داخل رأسه. وهو لا يستطيع نسيان كوابيس القتال في العراق، ولا يمكنه تصديق أنها أضحت علف أشرطة الفيديو. أمنيته بعيدة المنال لو يستطيع وزملاؤه مغادرة الحرب في نهاية الجولة، هكذا بمحض إرادتهم، لكنهم بدلاً من ذلك يواصلون مشيهم في ستاد تكساس وسط هتافات المعجبين الذين يعتبرهم بيلي "مجانين ومخيفين". وضع سريالي يتمازج فيه صخب الحياة، وكوابيس الموت التي تلاحقهم في العراق.
لا تُحمِّل الروايةُ البنتاجون مسؤولية زجّ الجيش في حرب العراق، بل المجتمع الأميركي نفسه. ومع أنها الرواية الأولى لمؤلفها "بن فاوتن" الذي يعمل محامياً في تكساس فالنقاد الأميركيون يعتقدون أنها الرواية المنتظرة عن حرب العراق، ويقارنوها برواية "الأحبولة" Catch-22 عن الحرب العالمية الثانية. العنوان العبثي لتلك الرواية التي يعتبروها من أعظم روايات القرن العشرين أضحى عبارة مجنحة تصور مأزقاً لا مخرج منه، تتحكم به قواعد اللعبة المتأصلة في ظروفها العبثية التي لا معنى لها. ويعيد مجرى الأحداث إنتاج الهزيمة، وتخيّبُ الشخص قواعد ظروف متناقضة تعرقل كل محاولة للهرب منها.
وإذا كان غباء الناس يأتي من الأجوبة التي يملكونها عن كل شيء، حسب الروائي الجيكي ميلان كونديرا "فحكمة الرواية تأتي، من الأسئلة التي يملكونها عن كل شيء. والروائي يُعلِّم القارئ أن يدرك العالَمَ كسؤال". وينفع هذا التقييم في التمييز بين عشرات الروايات الأميركية عن غزو العراق، وفي مقدمتها رواية "الطيور الصفراء" المنافسة لرواية "بيلي لين" في الترشيح لجائزة الناشرين الأميركيين. مؤلف الرواية "كيفن باورز" حارب وهو في عمر 17 عاماً في العراق عام 2004، وكان يعتقد مثل بطل روايته "بأن الانضمام إلى الجيش يؤمن حياة واضحة، حيث يقول لك الآخرون من أنت، وعندما ننهي عملنا نذهب للنوم الهادئ أحراراً من الشعور بالندم". كان ذلك قبل حرب العراق التي "لم تمنحهم كوابيس متصلة فحسب، بل تحدَّتْ أيضاً كل يقين يملكونه عن أنفسهم، وعن الطبيعة البشرية، وعن القدر وعشوائية الحياة". في العراق فقد البطل يقينه حين رأى مشاهد كما في لوحة الفنان الهولندي بوش عن الجحيم. "ممرضون يحاولون إعادة حشو ظهر جندي شاب في بدنه، وجثة تُفجِّرها قنبلة فوق جسر، وجسم مقطّع، بدون أذنين وأنف، يُرمى من فوق برج". ويتذكر بارتيل راوي الراوية وهو في الزنزانة كيف كان وزملاؤه يتناولون عقاقير لمنع النوم عن عيونهم، "محاولين البقاء يقظين، البقاء أحياء".
والروايات الأميركية عن غزو العراق جيدة، سواء كانت سيئة أو جيدة، فهي وثائق تستحق الذكر، منها "نقطة تفتيش" لنيكولسن بيكر، و"الشبح" لروبرت هاريس، وكثير منها بعناوين مثيرة مثل: "عملية الوزّة الكبرى"، و"بوابة العقرب"، و"صفارات إنذار بغداد"، و"انتعش انتعش"، و"ألف نقاب"، و"100 نهار و99 ليلة"، وبعضها روايات "شعبية" رعناء وقذرة، مثل: "اقتل كلاب الشيطان"، و"من بيت لبيت" التي تصف مجندين أميركيين يتبرزون في كل مكان، ويدهسون بالدبابة شاحنة حلويات صغيرة اقترب سائقها العراقي منهم فتنبجس أحشاؤه وأحشاء زوجته الجالسة قربه ويسووهم بالتراب. ويلتقط المجندون الذين لم يكونوا قد أكلوا شيئاً منذ 24 ساعة الحلويات من الشاحنة، يمسحون ما علق بها من دماء وأشلاء جثتي السائق وزوجته ويأكلوها!
وبانتظار الرواية العالمية المنتظرة عن حرب العراق، لماذا لا يبحثون عنها لدى العراقيين. فعلى قلة رواياتهم عن الحرب، سبق العراقيون في إبداعها الأميركيين، وتُرجم بعضها، قبل الأميركية إلى لغات أخرى، لكنها لم تحظ مثلها بتغطية إعلامية عالمية، ولم تنهمر عليها عقود الإنتاج السينمائي. أحدث هذه الروايات "يا مريم" للشاعر والروائي العراقي سنان أنطون المقيم في الولايات المتحدة. تعرض الرواية التي تدور أحداثها في يوم واحد، محنة المسيحيين العراقيين الذين تعرضوا للتهجير والقتل والتعذيب بعد الاحتلال. ومعظم الروائيين العراقيين الذين كتبوا عن الحرب مغتربون، حياتهم كرواياتهم لم يعطونها بل صنعوها بأنفسهم. حياة الروائي العراقي الأميركي الجنسية محمود سعيد تضاهي رواياته التي يبلغ عددها نحو عشرين. اعتُقل وسجن في العراق مرات عدة في ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومُنعت رواياته من النشر، أو حذفت فصول منها، ويواجه حتى الآن صعوبة في نشر بعضها، بينها رواية عن التعذيب في معتقل أبو غريب. روايته الأخيرة "الشاحنة" التي تتناول فظاعات احتلال العراق، مرشحة لجائزة صحيفة "الأدب العالمي اليوم" الصادرة بالإنجليزية.
وأول روايات العراقيين عن الحرب التي ترجمت إلى الإنجليزية "الحفيدة الأميركية" لإنعام كجه جي، رُشحت عام 2008 لجائزة "بوكر العربية" وكان ينبغي أن تفوز بها حسب تقديري. رواية ماكرة تزيح فيها البطلة المؤلفة جانباً عن الكمبيوتر، وتتولى بنفسها كتابة قصتها الشخصية، وهي قصة لا تُصدّق لشابة عراقية أميركية تغادر أسرتها في ديترويت للعمل مترجمة مع جيش الاحتلال في بغداد. والمتعة على قدر الأوجاع في رواية "الحفيدة الأميركية" التي تتقن بسرعة بذاءة مجندة في جيش الاحتلال. ترفع ساقيها على مسند الكرسي في "قصر صدام" في تكريت، قائلة: "الفُحش من لزوم الموقف، وهي أول صورة لي في العراق الجديد"!
الاتحاد الاماراتية
http://alwaleedonline.com/NewsDetails.aspx?ID=29167
انعام كجه جي