مما يثير الاستغراب ويبعث على التساؤل حقاً هو أن أئمة المذاهب الأربعة(1) رغم اعترافهم بالمنزلة العلمية والدينية الرفيعة للإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام، و رغم معرفتهم بأنه حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن جملة آل بيته الطاهرين عليهم السلام الذين لا يأخذون تعاليمهم إلا من جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً، وأما جدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل ما نطق به فقد أخذه من الله عَزَّ و جَلَّ عن طريق الوحي، قال الله جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾(2).
فأئمة أهل البيت عليهم السلام سندُ أحاديثهم متصل بالوحي مباشرة، حيث أنهم كانوا يقولون حدثني أبي عن جدي عن جبريل عن الباري، فمذهبهم هو مذهب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلف عنه في شيء أبداً.
والغريب أننا نجدُ أن أبا حنيفة(3) إمام المذهب الحنفي وأستاذ بقية أئمة المذاهب الأخرى(4) رغم تتلمذه على الإمام الصادق عليه السَّلام، ورغم اعترافه الصريح بأهمية ما تلقاه من الإمام الصادق عليه السَّلام، فإنه مع كل ذلك قد خالف أستاذه الإمام الصادق عليه السَّلام ولم يتَّبعه في منهجه الفقهي والعلمي.
يقول الآلوسي : وهذا أبو حنيفة وهو هو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : " لولا السنتان لهلك النعمان "، يريد السنتين اللتين صحب فيها - لأخذ العلم - الإمام جعفر الصادق عليه السَّلام(5).
ويقول مالك بن أنس(6) : اختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال : إما مصلّياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يُحدِّثُ عن رسول الله إلاّ على الطهارة، ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله(7) وما رأت عين ولا سمعت أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً(.
وهنا يكرر السؤال طرح نفسه : إذاً لماذا لم يتبع أبو حنيفة أستاذه الإمام الصادق عليه السَّلام ؟!!..
والجواب واضح يتفطن إليه كل من أراد الحقيقة بعيداً عن الانتماءات والتعصبات المذهبية، والسبب الأول والأخير في هذا الأمر وفي غيرها من الموارد الأخرى المشابه ليس إلا السياسة وحب الرئاسة و.. و.. ويكفيك دليلاً على صحة هذا القول موقف أبي حنيفة من أستاذه وتعاونه مع السلطان للنيل منه.
يقول أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ.
فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد - أي الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام - فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بَصُرتُ به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلَّمتُ، وأومأ فجلست.
ثم التفتَ إليه قائلاً : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة.
فقال عليه السلام : نعم أعرفه.
ثم التفت المنصور، فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله مسائلك.
فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا، وهم يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا، وربّما تابعهم، وربّما خالفنا، حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخلّ منها مسألة واحدة.
ثم قال أبو حنيفة : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(9).
وهذه القضية تدل بوضوح على حب الرجل للرئاسة حيث حاول إرضاء المنصور والتقرب إليه حتى بواسطة النيل من الإمام الصادق عليه السَّلام، الأمر الذي لم يوفق له.
ــــــــــ الهوامش ــــــــــ
(1) المذاهب الأربعة هي كالتالي :
1. المذهب الحنفي، المنسوب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، المولود سنة : 80هـ، والمتوفى سنة : 150هـ.
2. المذهب المالكي، المنسوب لمالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، المتولد سنة : 95هـ، والمتوفى سنة : 179هـ.
3. المذهب الشافعي، المنسوب لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، المولود سنة : 150هـ، والمتوفى سنة : 204هـ.
4. المذهب الحنبلي، المنسوب لأحمد بن حنبل بن هلال بن أسد، المولود سنة : 164هـ، والمتوفى سنة : 241هـ.
(2) سورة النجم الآية : 3 و 4.
(3) الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ولد سنة : 80هـ في نسا، وتوفي سنة : 150هـ في بغداد.
(4) أول من أخذ عن جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت، ثم أخذ مالك العلوم عن كتب أبي حنيفة، ثم الشافعي أخذ عن مالك و درس عليه، ولقنه ما أخذه عن كتب أبى حنيفة عن الإمام الصادق عليه السَّلام، ثم أخذ أحمد بن حنبل كذلك.
(5) مختصر التحفة الاثني عشريّة : 8.
(6) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبعي، ولد سنة 93هـ بالمدينة وتوفي سنة 179هـ.
(7) مالك بن أنس، للخولي : 94، كتاب مالك لمحمد أبو زهرة : 28، نقلاً عن المدارك للقاضي عياض : 212، وأيضاً إلى هنا عبارة التهذيب وما بعدها زيادة في كتاب المجالس السنية : / 5، و قد ذكر ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة : 52 الطبعة الثانية، هذه العبارة في جملة طويلة في ضمنها هذه الجملة.
( التهذيب : 2/104.
(9) مناقب أبي حنيفة للموفق : 1/173، وجامع أسانيد أبي حنيفة : 1/252، وتذكرة الحفاظ للذهبي : 1/157.
المصدر
http://www.islam4u.com/almojib_show.php?rid=693#ftn693_2
فأئمة أهل البيت عليهم السلام سندُ أحاديثهم متصل بالوحي مباشرة، حيث أنهم كانوا يقولون حدثني أبي عن جدي عن جبريل عن الباري، فمذهبهم هو مذهب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلف عنه في شيء أبداً.
والغريب أننا نجدُ أن أبا حنيفة(3) إمام المذهب الحنفي وأستاذ بقية أئمة المذاهب الأخرى(4) رغم تتلمذه على الإمام الصادق عليه السَّلام، ورغم اعترافه الصريح بأهمية ما تلقاه من الإمام الصادق عليه السَّلام، فإنه مع كل ذلك قد خالف أستاذه الإمام الصادق عليه السَّلام ولم يتَّبعه في منهجه الفقهي والعلمي.
يقول الآلوسي : وهذا أبو حنيفة وهو هو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : " لولا السنتان لهلك النعمان "، يريد السنتين اللتين صحب فيها - لأخذ العلم - الإمام جعفر الصادق عليه السَّلام(5).
ويقول مالك بن أنس(6) : اختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال : إما مصلّياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يُحدِّثُ عن رسول الله إلاّ على الطهارة، ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله(7) وما رأت عين ولا سمعت أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً(.
وهنا يكرر السؤال طرح نفسه : إذاً لماذا لم يتبع أبو حنيفة أستاذه الإمام الصادق عليه السَّلام ؟!!..
والجواب واضح يتفطن إليه كل من أراد الحقيقة بعيداً عن الانتماءات والتعصبات المذهبية، والسبب الأول والأخير في هذا الأمر وفي غيرها من الموارد الأخرى المشابه ليس إلا السياسة وحب الرئاسة و.. و.. ويكفيك دليلاً على صحة هذا القول موقف أبي حنيفة من أستاذه وتعاونه مع السلطان للنيل منه.
يقول أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ.
فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد - أي الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام - فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بَصُرتُ به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلَّمتُ، وأومأ فجلست.
ثم التفتَ إليه قائلاً : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة.
فقال عليه السلام : نعم أعرفه.
ثم التفت المنصور، فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله مسائلك.
فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا، وهم يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا، وربّما تابعهم، وربّما خالفنا، حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخلّ منها مسألة واحدة.
ثم قال أبو حنيفة : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(9).
وهذه القضية تدل بوضوح على حب الرجل للرئاسة حيث حاول إرضاء المنصور والتقرب إليه حتى بواسطة النيل من الإمام الصادق عليه السَّلام، الأمر الذي لم يوفق له.
ــــــــــ الهوامش ــــــــــ
(1) المذاهب الأربعة هي كالتالي :
1. المذهب الحنفي، المنسوب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، المولود سنة : 80هـ، والمتوفى سنة : 150هـ.
2. المذهب المالكي، المنسوب لمالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، المتولد سنة : 95هـ، والمتوفى سنة : 179هـ.
3. المذهب الشافعي، المنسوب لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، المولود سنة : 150هـ، والمتوفى سنة : 204هـ.
4. المذهب الحنبلي، المنسوب لأحمد بن حنبل بن هلال بن أسد، المولود سنة : 164هـ، والمتوفى سنة : 241هـ.
(2) سورة النجم الآية : 3 و 4.
(3) الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ولد سنة : 80هـ في نسا، وتوفي سنة : 150هـ في بغداد.
(4) أول من أخذ عن جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت، ثم أخذ مالك العلوم عن كتب أبي حنيفة، ثم الشافعي أخذ عن مالك و درس عليه، ولقنه ما أخذه عن كتب أبى حنيفة عن الإمام الصادق عليه السَّلام، ثم أخذ أحمد بن حنبل كذلك.
(5) مختصر التحفة الاثني عشريّة : 8.
(6) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبعي، ولد سنة 93هـ بالمدينة وتوفي سنة 179هـ.
(7) مالك بن أنس، للخولي : 94، كتاب مالك لمحمد أبو زهرة : 28، نقلاً عن المدارك للقاضي عياض : 212، وأيضاً إلى هنا عبارة التهذيب وما بعدها زيادة في كتاب المجالس السنية : / 5، و قد ذكر ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة : 52 الطبعة الثانية، هذه العبارة في جملة طويلة في ضمنها هذه الجملة.
( التهذيب : 2/104.
(9) مناقب أبي حنيفة للموفق : 1/173، وجامع أسانيد أبي حنيفة : 1/252، وتذكرة الحفاظ للذهبي : 1/157.
المصدر
http://www.islam4u.com/almojib_show.php?rid=693#ftn693_2