المرأة التي جاءت في الساعة السادسة
(1950)
قصة لغابرييل غارسيا ماركيز
ترجمة شوقي فهيم
ترجمة شوقي فهيم
ُفتح الباب في تلك الساعة لم يكن هناك أحد في مطعم خوسيه. منذ لحظات دقت الساعة السادسة والرجل يعرف أن الزبائن المنتظمين لن يبدأوا في الوصول حتى السادسة والنصف. كانت زبونته محافظة ومنتظمة في مواعيدها فلم تكد الساعة تنهي دقاتها الست حتى دخلت امرأة. جاءت في موعدها اليومي الثابت وجلست على المقعد دون كلمة. كانت تضع بين شفتيها سيجارة سيجارة غير مشتعلة.
(أهلاً بالملكة). هكذا قال خوسيه حين رآها تجلس. ثم ذهب إلى الطرف الآخر من المنضذة الرخامية للبار، يمسح السطح المخطط بقطعة قماش جافة. كلما جاء أحد يفعل خوسيه نفس الشيء. حتى مع المرأة التي صار بينه وبينها نوع من الألفة والود. كان خوسيه صاحب المطعم ، الممتلئ المتورد الوجه، حريصاً على أن يبدو جم النشاط لا يكف عن العمل.
تحدث وهو عند الطرف الآخر من الطاولة الرخامية:
–(ماذا تريدين اليوم) ؟ .
–(أول شئ أريد أن أعلمك كيف تكون رجلاً مهذباً).
كانت تجلس في نهاية المقاعد ومرفقاها على الرخامة والسيجارة المطفأة بين شفتيها.
قال خوسيه:
–(لم ألاحظ).
–(إنك لم تتعلم أن تلاحظ أي شئ).
ترك الرجل قطعة القماش على الرخامة ومشى تجاه البوفيه الخشبي المعتم الذي تنبعث منه رائحة القار والتراب، وعاد ومعه الكبريت. مالت المرأة لتشعل سيجارتها من يده المغطاة بالشعر. ورأى خوسيه شعر المرأة الغزير مدهوناً بالفازلين الرخيص. رأى كتفيها العاريتين وحمّالة ثدييها المنقوشة بالأزهار. حين رفعت المرأة رأسها بداية ثدييها بلون الشفق، وكانت السيجارة مشتعلة بين شفتيها الآن.
قال خوسيه:
–(انك جميلة الليلة ايتها الملكة).
–(كف عن هذا الهراء. لا تظن أن هذا يجعلني أدفع لك).
–(لا أعني هذا يا ملكة. أراهن ان الغذاء لم يعجبك اليوم).
جذبت المرأة نفساً عميقاً من سيجارتها ، وشبكت ذراعيها، ومرفقاها ما يزالان على الرخامة، وظلت تنظر إلى الشارع من نافذة المطعم الواسعة. كانت تبدو مكتئبة. أكتئاباً مضجراً وفجّاً.
قال خوسيه:
–(سأجهّز لك قطعة لحم ممتازة).
–(ما زلت لا أملك أي نقود).
–(لم يكن معك أي نقود طوال شهور ثلاثة ودائماً أجهّز لك شيئاً ممتازاً).
قالت المرأة برنّة حزن وهي ما تزال تنظر إلى الشارع:
–(اليوم مختلف).
–(كل يوم نفس الشئ، كل يوم تدق الساعة السادسة وحينئذ تدخلين وتقولين انك جائعة مثل كلب وأنا أجهّز لك شيئاً ممتازاً). الفرق الوحيد اليوم هو انك لم تقولي (أنا جائعة مثل كلب) ولكن قلت ان اليوم مختلف).
قالت المرأة:
–(وهذا صحيح). ثم استدارت لتنظر إلى الرجل الذي كان عند الطرف الآخر من الطاولة الرخامية بفحص ما في الثلاجة. ركّزت عليه نظرها لثانيتين أو ثلاث. ثم نظرت إلى الساعة فوق البوفيه. كانت السادسة وثلاث دقائق. (صحيح يا خوسيه ان اليوم مختلف). نفثت دخان السيجارة ثم واصلت حديثها بلهجة حازمة متقدة: (اليوم لم أحضر في السادسة. هذا هو الفرق يا خوسيه).
نظر الرجل إلى الساعة وقال:
–(أقطع ذراعي لو كانت هذه الساعة متأخرة دقيقة واحدة).
قالت المرأة:
–(ليست الساعة يا خوسيه. أنا لم أجيء في الساعة السادسة اليوم).
قال خوسيه:
–(لقد دقت الساعة الآن يا ملكة. حين دخلت كانت تنهي دقاتها).
قالت المرأة:
–(منذ ربع ساعة وأنا هنا).
مشى خوسيه إلى حيث تجلس المرأة. وضع وجهه الضخم اللاهث في مواجهة المرأة وهو يشد أحد جفنيه بسبابته. قال:
–(أنفخي هنا).
أمالت المرأة رأسها إلى الوراء. كانت جادة متضايقة ، منهكة ، أضفى عليها التعب والحزن مسحة من الجمال.
–(كف عن سخافتك يا خوسيه. أنت تعرف اني لم أشرب منذ ستة شهور).
–(قولي هذا لشخص غيري، ليس لي. أراهن انك شربت ُثمُناً أو ثُمنين على الأقل).
–(شربت كأسين مع صديق).
–(آه. الآن فهمت).
–(ليس هناك شيء تفهمه. أنا هنا من ربع ساعة).
هز الرجل كتفيه وقال:
–(طيب ، اذا كان هذا ما تريدين فأنت هنا من ربع ساعة. ولكن ما الفرق، عشر دقائق هنا أو عشر دقائق هناك) ؟.
قالت المرأة:
–(ثمة فرق يا خوسيه). وفردت ذراعيها على المائدة الزجاجية وهي تبدو منهكة غير مبالية. وأكملت: (ليست الحكاية انني أريد ذلك ، انما أنا جئت إلى هنا من ربع ساعة).
نظرت إلى الساعة مرة ثانية وصححت نفسها: (ما أقوله – انني جئت هنا منذ عشرين دقيقة).
قال الرجل:
–(تماماً يا ملكة. أوافقك حتى على أربع وعشرين ساعة لأراك سعيدة فقط).
خلال كل هذا الوقت كان خوسيه يتحرّك وراء المائدة ، يغّير أشياء ، يأخذ شيئاً من مكان ويضعه في مكان آخر. كان يلعب دوره. كرر جملته:
–(أريد أن أراك سعيدة) توقّف فجأة متجهاً إلى حيث تجلس المرأة:
–(هل تعرفين انني أحبك للغاية).
نظرت إليه المرأة ببرود:
–(نعم ؟ يا له من أكتشاف يا خوسيه. هل تظن انني أذهب معك ولو بمليون بيزو ؟ .
–(لا أعني هذا يا ملكة. أكرر انني أراهن ان الغداء لم يعجبك).
قالت المرأة وقد صار صوتها أكثر استرخاء:
–(ليس لهذا السبب. لا توجد امرأة تستطيع تحمّل وزن شخص مثلك ، حتى ولو بمليون بيزو).
أحمّر وجه خوسيه. أدار ظهره للمرأة وبدأ ينفض التراب من على الزجاجات فوق الرفوف. تحدّث دون أن يدير رأسه:
–(انك غير محتملة اليوم يا ملكة. أظن أن أحسن شئ لك أن تأكلي قطعة من اللحم المشوي وتروحي لتنامي).
قالت المرأة: (أنا لست جائعة). راحت تنظر إلى الشارع مرة أخرى ترّقب المارة في المدينة المقبلة على الإظلام. للحظة كان ثمة صمت ضبابي في المطعم. لا يقطعه سوى عبث خوسيه في دولاب الأطباق. فجأة كفّت المرأة عن النظر إلى الشارع وتحدّثت بصوت مختلف، رقيق وخافت:
–(هل تحبني حقاً يا بيبلو) ؟.
رد خوسيه بجفاء دون أن ينظر إليها:
–(نعم).
–(رغم كل ما قلته لك ؟).
–(ماذا قلت لي) ؟ هكذا سأل خوسيه دون أي تعبير في صوته ودون أن ينظر إليها أيضاً. قالت المرأة:
–(ذلك الكلام عن مليون بيزو).
قال خوسيه:
–(لقد نسيت تماماً).
سألت المرأة:
–(اذن فأنت تحبني) ؟.
–(نعم).
سادت لحظة صمت. ما زال خوسيه يتحرّك ووجهه تجاه الادراج ولا ينظر إلى المرأة. نفثت دخان سيجارتها وأرتكزت بصدرها على الطاولة ثم راحت تتحدث بحرص ولؤم وهي تعض لسانها قبل أن تتكلم كأنها تتحدث على أطراف أصابع قدميها:
–(حتى لو لم تذهب معي إلى الفراش) ؟.
هنا فقط أستدار خوسيه لينظر إليها، وقال:
–(اني أحبك حُبّاً جمّاً لدرجة اني لا أنوي الذهاب معك إلى الفراش).
ثم مشى إلى حيث تجلس. وقف ينظر إلى وجهها، وذراعاه القويتان على الطاولة أمامها. قال وهو ينظر إلى عينيها:
–(أحبك بجنون حتى اني كل ليلة أوشك ان أقتل الرجل الذي يذهب معك).
للوهلة الأولى بدت المرأة مرتبكة. ثم نظرت إلى الرجل بأهتمام، بتعبير يتردد بين الحنو والشفقة والسخرية. مضت لحظات صمت مشتة. ثم ضحكت بصوت عال:
–(أنت غيور يا خوسيه. هذا شئ همجي، أنت غيور !).
مرة أخرى أحمّر وجه خوسيه خجلاً كطفل كشف عن كل أسراره فجأة. قال:
–(يبدو أنك لا تفهمين شيئاً هذا المساء يا ملكة). ومسح نفسه بقطعة القماش ثم قال:
–(هذه الحياة السيئة تجعلك وحشية).
لكن المرأة غيّرت الآن من تعبيرات وجهها. قالت:
–(هكذا، اذن). ونظرت في عينيه مرة أخرى ، بوهجٍ غريب في نظرتها المضطربة والمتدية في نفس الوقت.
–(اذن فأنت لست غيوراً).
–(بشكل ما أنا غيور. لكن ليس بالشكل الذي تظنينه).
وحرّك ياقته وأستمر يمسح نفسه ويجفّف رقبته بقطعة القماش. سألت المرأة:
–(هكذا) ؟.
–(الحقيقة انني أحبك بجنون حتى انني أكره ما تفعلينه).
–(ماذا) ؟.
–(عملك هذا بالذهاب مع رجل مختلف كل يوم).
–(هل حقيقة يمكنك أن تقتله حتى تمنعه من الذهاب معي) ؟.
–(لا لأمنعه من الذهاب معك ، لا ، انني أقتله لأنه ذهب معك).
–(أنه نفس الشئ).
وصلت المناقشة إلى نقطة مثيرة. كانت المرأة تتحدث بصوت خفيض رقيق ومثير. وكانت تسدد نظراتها إلى وجه الرجل المسالم وهو يقف بلا حراك كما لو أن كلماتها قد سحرته. قال خوسيه:
–(هذا صحيح).
مدّت المرأة يدها لتخبط على ذراع الرجل الخشن وباليد الأخرى ألقت بعقب سيجارتها وهي تقول:
–(اذن فأنت تستطيع قتل رجل) ؟.
رد خوسيه وقد أكتسى صوته بنبرة درامية:
–(من أجل ما قلته لك ، نعم).
أنفجرت المرأة في ضحكة مزلزلة هازئة:
–(يا له من أمر مؤسف يا خوسيه. خوسيه يقتل رجلاً. مَنْ كان يعرف أن وراء الرجل البدين البادي التقوى الذي يقدّم لي الطعام دون أن يجعلني أدفع ثمنه، الذي يطبخ لي كل يوم شريحة لحم ويتحّدث معي بظرف حتى أجد رجلاً ، مَنْ يصدّق أن وراء هذا كله يكمن قاتل. يا للفظاعة يا خوسيه ! أنك ترعبني) !.
أرتبك خوسيه. ربما أحس بالإهانة بعض الشئ. ربما أحس، حين بدأت المرأة تضحك، أنه ضحية. نوع من الأحتيال. قال:
–(انك سكرى وسخيفة، أذهبي ونامي. أنك حتى لا تريدين أن تأكلي).
لكن المرأة توقفت عن الضحك وأصبحت جادة مرة أخرى ، وأعترتها موجة من التأمل الحزين وهي تميل على المائدة الرخامية. راقبت الرجل وهو يبتعد. رأته يفتح الثلاجة ويغلقها ثانيةً دون أن يأخذ أي شيء. ثم رأته يتحرّك إلى الطرف الثاني من المائدة. راقبته وهو يمسح الأكواب اللامعة، كما فعل في البداية. ثم تحدثت المرأة ثانية بنفس الصوت الرقيق الخفيض حين قالت: (هل تحبني حقاً يا بيبلو) ؟.
–(خوسيه).
لم ينظر الرجل إليها.
–(خوسيه) !.
–(أذهبي ونامي، وخذي حماماً قبل أن تذهبي إلى الفراش حتى تستطيعي النوم).
–(صحيح يا خوسيه ، أنا لست مخمورة).
–(اذن فقد أصبحت غبية).
–(تعال هنا ، أريد أن أتحدّث معك).
جاء الرجل مرتبكاً، في حالة بين السرور وعدم الثقة.
–(أقترب) !.
(التكملة تحت لطفاً)