( محيسن .. مازال يبكي ) ؟؟
صالح البدري
تكوَّم - متنهداً - بجانب إبنه الصغير البكر والوحيد ( محيسن ) ، والذي ظل يبكي طوال يومين متتاليين لأنه يريد ثوباً وبنطلوناً جديدين . ثوباً يخفي ماظهر من جسده ، ويحلم معه ( ببنطلون ) بنصف عمر على الأقل ، كي يتحاشى نظرات أقرانه في المدرسة أو في المحلة ذات البيوت العالية الحديثة على طريق بيتهم القديم ، والذي تآكلت جدرانه بفعل عوامل الفقر والعوز والحاجة !!
نظر بأنكسار طويلاً بأتجاه إبنه المُحمّر العينين ، وحيث عجزعن ترضيته على الرغم مما يبذله من تدليله إياه ، وحيث يراه الأبن مشجعاً لبكائه ، ولأنه يشعر بطعمه لأول مرة منذ أن بدأ يعي حياته ووجوده ، وفشل الأب عن إيقاف تشنجه المستمر ولأنه يدرك جيداً مايريده إبنه ، ويدرك أيضاً بأنه عاجز الآن عن شراء الثوب والبنطلون ، خاصة وأن على ذمته للخياط (أبو عباس) ديناراً واحداً ، هو أجرة خياطة ثوب كان قد لبسه بعد أن ترك سلك الشرطة ، حينذاك تصدّر مقهى (الطرف ) فأنهالت عليه التهاني والتبريكات كالبرق بمناسبة إرتدائه ثوباً جديداً وبمناسبة تركه لسلك الشرطة أيضاً . وكانت أصواتهم تتبادرالى سمعه صادقة ودودة :
- تقطعه بستين عافية ..
- بالعافية أبو محيسن .. تهانينا بالتسريح ..
شعر لأول مرّة بأنه إنسان ، وبأن هناك من يسلم عليه ويقدره ويشغل باله به ويبتسم بوجهه ، بعد سنوات طويلة من القطيعة واللامبالاة والنسيان !! حتى أنهم دفعوا عنه ثمن (إستكانأً) من الشاي ، تقديراً له .
نهض مودعاً جلاسه ، ولكنه وعند قيامه ، كان هناك مسماراً ظاهراً على الكرسي الخشبي الذي جلس عليه لم ينتبه له ، كان قد أحدث الطعنة الأولى في إنشراحه ومسرته معهم . ولم يشعر إلا وثوبه قد تمزق من الخلف . نظر الى مكان (الطعنة) طويلاً ، ثم بصق على الكرسي وعلى هذا المسمار المتطفل اللعين ! زفر زفرة طويلة ومشى حزيناً ، متألماً ، مستغفراً ربه . ومنذ تلك اللحظة ، إفتقد لذة لبس الأشياء الجديدة !
قطع عليه بكاءُ إبنهِ تذكارات تلك الأيام، وقاد عربة بيع النفط التي يجرها حمار هزيل، لكنه صاح بكل قوته وكأنه لم يأبه لصراخ ولده :
- نفط .. نفط .. نفط ...
تطلع إليه جاره الجنوبي البشرة مواسياً ومتسائلاً :
- محيسن يبكي ؟ شنو مشكلته اليوم ؟؟
لم يجبه . وأستمر ينادي على بضاعته وتعالت صيحاته . نظر الى عربته المحملة بالنفط ، والى حماره الهزيل الذي بالكاد يستطيع أن يجرها في هذا الصباح ، ثم عض على شفته السفلى وقال مخاطباً برميل النفط :
- إشوكت راح تخلص ؟
سمعه جاره وشاركه :
- الله كريم أبو محيسن .. إنتظر .. يخلص .
- ماجايب همه يا أبو فيصل !
بكاء إبنه على الثوب والبنطلون أخذ يقطع نياط قلبه ، والثوب والبنطلون الجديدان سيكلفانه الكثير وهو رب أسرة كبيرة تضم جوقة من الأطفال وجدة مقعدة وأم مريضة لاتقوى على غسل ملابس البيوت المجاورة العالية ، حتى ولا تستطيع أن تبيع كما النساء الأخريات السمك أوالخضار أو الملابس العتيقة ، كما في أيام شبابها يوم كانت تعيل أباً وأماً وأخوات قبل زواجها .
أوقف العربة ومدّ يده ملا طفاً إبنه المنتحب :
- ولا يهمك إبني .. راح أشتري لك الثوب والبنطلون ، بس خليني أبيع هالغضب هذا!
وأومأ بيده الى برميل النفط الممدد فوق العربة كالقتيل .
إلاّ أن ( محيسن ) لم يقتنع وهو يرى أطفال الطرف ببنطلوناتهم الزاهية والحديثة وثيابهم الأنيقة الملونة ، مما أدى كل هذا الى جره لنحيب مستمر ، أثار أبيه الذي لم يستطع الصبر أو التحمل .
سحب عربته مقهوراً ، يتبعه إبنه الى مدخل السوق الكبير بأتجاه محلات بيع الملابس القديمة وأختارله ثوباً وبنطلوناً جاهزين من دكان الحاج ( عودة ) لبيع الملابس المستعملة (اللنكات) ، وقال له : نهاية النهار ياحاج ، سأدفع لك . وغادر السوق مع ولده .
وهز الحاج رأسه ببطئ معلقاً : لا يالمسكين يا أبو محيسن !! الله يرزقك .
علق جاره ضاحكا بشماته وهو يفتل شاربه : هذا إذا رجع مثل ما قال ؟
رد الحاج : لا لا .. أبو محيسن خوش آدمي .. يرجع .. الرجل معروف بالمحلة .
فجأة ظهر الفرح والأستبشار على وجه ( محيسن ) وهو يحتضن ثوبه بكلتا يديه كمن يحتضن عصفوراً يخاف عليه ألايطير منه !
أثارت هيئة ( محيسن ) الجديدة أولاد (الطرف) و لفتت إنتباههم له . تقدم نحوه أحد الصبيان ونظر إليه غير مصدق ، ثم ضحك ضحكة ساخرة منادياً على أصحابه الذين إلتفوا بدورهم على ( محيسن ) مبتسمين بخبث . قال أحدهم : - ثوب جديد ..؟
قال آخر : - وبنطلون ..؟
قال ثالث : لنكات !!
ردد وراءه الآخرون : ( لنكات ) .. ودوت ضحكاتهم الساخرة .. وأخذوا بالصفير والتعليقات والترديد .
تكور ( محيسن ) في مكانه خائفاً ، وتدخل أبوه راجياً الأولاد الأبتعاد عنه . لكن كبيرهم قال مخاطباً ( محيسن ) : تعال وإلعب معنا ؟
أحاطوا به من كل جانب ، وهم يجذبونه الى وسط الشارع مرددين : ثوبك حلو .. حلو ..! حتى إتخذ الترديد شكل أغنية ، إستمتع بها بعض المارة ، وضحك البعض الآخر.. مرددين معهم الأغنية وهم يطلون برؤوسهم من شرفات البيوت المطلة على الشارع .
حاول ( محيسن ) التخلص من قبضاتهم والعودة الى أبيه الذي تصلب بجانب عربة النفط ، لايقوى على الكلام من الخجل والخوف ، كي لا يجرح مشاعر أبائهم وإمهاتهم فيمتنعون عن الشراء ، أو يجبرونه على مغادرة محلتهم بتهمة الأساءة الى أطفالهم . حاول ( محيسن ) التخلص منهم ، إلا أن الأطفال يحيطونه بقوة ككلاب مسعورة منفلتة ، فضاع بينهم باكياً مستنجداً ، وأبوه حائراً مكتفياً بالتوسل فقط ومن بعيد . وظل هكذا فترة مابين ترديدهم وصراخهم وتكالبهم على إبنه الذي كان ينادي على أبيه صارخاً وبدون فائدة ، حتى تركوه كالفريسة التي إنقضّت عليها نسور جائعة نهمة !
ظهر ( محيسن ) بعد أن إنفضوا من حوله بثوب وببنطال ممزقين وهو يبكي مولولاً مكسور الخاطر . حتى أن ما كان خافياً من جسده النحيل قد ظهر مرة أخرى . وإزداد بكاؤه أكثر من السابق وهو يقترب من أبيه الذي سحب حمار العربة بقوة ، رافعاً رأسه الى أعلى ، مواصلاً سيره ومنادياً :
- نفط .. نفط ... نفط .....
*************************************
salehalbadri@yahoo.com
النرويج 2009
صالح البدري
تكوَّم - متنهداً - بجانب إبنه الصغير البكر والوحيد ( محيسن ) ، والذي ظل يبكي طوال يومين متتاليين لأنه يريد ثوباً وبنطلوناً جديدين . ثوباً يخفي ماظهر من جسده ، ويحلم معه ( ببنطلون ) بنصف عمر على الأقل ، كي يتحاشى نظرات أقرانه في المدرسة أو في المحلة ذات البيوت العالية الحديثة على طريق بيتهم القديم ، والذي تآكلت جدرانه بفعل عوامل الفقر والعوز والحاجة !!
نظر بأنكسار طويلاً بأتجاه إبنه المُحمّر العينين ، وحيث عجزعن ترضيته على الرغم مما يبذله من تدليله إياه ، وحيث يراه الأبن مشجعاً لبكائه ، ولأنه يشعر بطعمه لأول مرة منذ أن بدأ يعي حياته ووجوده ، وفشل الأب عن إيقاف تشنجه المستمر ولأنه يدرك جيداً مايريده إبنه ، ويدرك أيضاً بأنه عاجز الآن عن شراء الثوب والبنطلون ، خاصة وأن على ذمته للخياط (أبو عباس) ديناراً واحداً ، هو أجرة خياطة ثوب كان قد لبسه بعد أن ترك سلك الشرطة ، حينذاك تصدّر مقهى (الطرف ) فأنهالت عليه التهاني والتبريكات كالبرق بمناسبة إرتدائه ثوباً جديداً وبمناسبة تركه لسلك الشرطة أيضاً . وكانت أصواتهم تتبادرالى سمعه صادقة ودودة :
- تقطعه بستين عافية ..
- بالعافية أبو محيسن .. تهانينا بالتسريح ..
شعر لأول مرّة بأنه إنسان ، وبأن هناك من يسلم عليه ويقدره ويشغل باله به ويبتسم بوجهه ، بعد سنوات طويلة من القطيعة واللامبالاة والنسيان !! حتى أنهم دفعوا عنه ثمن (إستكانأً) من الشاي ، تقديراً له .
نهض مودعاً جلاسه ، ولكنه وعند قيامه ، كان هناك مسماراً ظاهراً على الكرسي الخشبي الذي جلس عليه لم ينتبه له ، كان قد أحدث الطعنة الأولى في إنشراحه ومسرته معهم . ولم يشعر إلا وثوبه قد تمزق من الخلف . نظر الى مكان (الطعنة) طويلاً ، ثم بصق على الكرسي وعلى هذا المسمار المتطفل اللعين ! زفر زفرة طويلة ومشى حزيناً ، متألماً ، مستغفراً ربه . ومنذ تلك اللحظة ، إفتقد لذة لبس الأشياء الجديدة !
قطع عليه بكاءُ إبنهِ تذكارات تلك الأيام، وقاد عربة بيع النفط التي يجرها حمار هزيل، لكنه صاح بكل قوته وكأنه لم يأبه لصراخ ولده :
- نفط .. نفط .. نفط ...
تطلع إليه جاره الجنوبي البشرة مواسياً ومتسائلاً :
- محيسن يبكي ؟ شنو مشكلته اليوم ؟؟
لم يجبه . وأستمر ينادي على بضاعته وتعالت صيحاته . نظر الى عربته المحملة بالنفط ، والى حماره الهزيل الذي بالكاد يستطيع أن يجرها في هذا الصباح ، ثم عض على شفته السفلى وقال مخاطباً برميل النفط :
- إشوكت راح تخلص ؟
سمعه جاره وشاركه :
- الله كريم أبو محيسن .. إنتظر .. يخلص .
- ماجايب همه يا أبو فيصل !
بكاء إبنه على الثوب والبنطلون أخذ يقطع نياط قلبه ، والثوب والبنطلون الجديدان سيكلفانه الكثير وهو رب أسرة كبيرة تضم جوقة من الأطفال وجدة مقعدة وأم مريضة لاتقوى على غسل ملابس البيوت المجاورة العالية ، حتى ولا تستطيع أن تبيع كما النساء الأخريات السمك أوالخضار أو الملابس العتيقة ، كما في أيام شبابها يوم كانت تعيل أباً وأماً وأخوات قبل زواجها .
أوقف العربة ومدّ يده ملا طفاً إبنه المنتحب :
- ولا يهمك إبني .. راح أشتري لك الثوب والبنطلون ، بس خليني أبيع هالغضب هذا!
وأومأ بيده الى برميل النفط الممدد فوق العربة كالقتيل .
إلاّ أن ( محيسن ) لم يقتنع وهو يرى أطفال الطرف ببنطلوناتهم الزاهية والحديثة وثيابهم الأنيقة الملونة ، مما أدى كل هذا الى جره لنحيب مستمر ، أثار أبيه الذي لم يستطع الصبر أو التحمل .
سحب عربته مقهوراً ، يتبعه إبنه الى مدخل السوق الكبير بأتجاه محلات بيع الملابس القديمة وأختارله ثوباً وبنطلوناً جاهزين من دكان الحاج ( عودة ) لبيع الملابس المستعملة (اللنكات) ، وقال له : نهاية النهار ياحاج ، سأدفع لك . وغادر السوق مع ولده .
وهز الحاج رأسه ببطئ معلقاً : لا يالمسكين يا أبو محيسن !! الله يرزقك .
علق جاره ضاحكا بشماته وهو يفتل شاربه : هذا إذا رجع مثل ما قال ؟
رد الحاج : لا لا .. أبو محيسن خوش آدمي .. يرجع .. الرجل معروف بالمحلة .
فجأة ظهر الفرح والأستبشار على وجه ( محيسن ) وهو يحتضن ثوبه بكلتا يديه كمن يحتضن عصفوراً يخاف عليه ألايطير منه !
أثارت هيئة ( محيسن ) الجديدة أولاد (الطرف) و لفتت إنتباههم له . تقدم نحوه أحد الصبيان ونظر إليه غير مصدق ، ثم ضحك ضحكة ساخرة منادياً على أصحابه الذين إلتفوا بدورهم على ( محيسن ) مبتسمين بخبث . قال أحدهم : - ثوب جديد ..؟
قال آخر : - وبنطلون ..؟
قال ثالث : لنكات !!
ردد وراءه الآخرون : ( لنكات ) .. ودوت ضحكاتهم الساخرة .. وأخذوا بالصفير والتعليقات والترديد .
تكور ( محيسن ) في مكانه خائفاً ، وتدخل أبوه راجياً الأولاد الأبتعاد عنه . لكن كبيرهم قال مخاطباً ( محيسن ) : تعال وإلعب معنا ؟
أحاطوا به من كل جانب ، وهم يجذبونه الى وسط الشارع مرددين : ثوبك حلو .. حلو ..! حتى إتخذ الترديد شكل أغنية ، إستمتع بها بعض المارة ، وضحك البعض الآخر.. مرددين معهم الأغنية وهم يطلون برؤوسهم من شرفات البيوت المطلة على الشارع .
حاول ( محيسن ) التخلص من قبضاتهم والعودة الى أبيه الذي تصلب بجانب عربة النفط ، لايقوى على الكلام من الخجل والخوف ، كي لا يجرح مشاعر أبائهم وإمهاتهم فيمتنعون عن الشراء ، أو يجبرونه على مغادرة محلتهم بتهمة الأساءة الى أطفالهم . حاول ( محيسن ) التخلص منهم ، إلا أن الأطفال يحيطونه بقوة ككلاب مسعورة منفلتة ، فضاع بينهم باكياً مستنجداً ، وأبوه حائراً مكتفياً بالتوسل فقط ومن بعيد . وظل هكذا فترة مابين ترديدهم وصراخهم وتكالبهم على إبنه الذي كان ينادي على أبيه صارخاً وبدون فائدة ، حتى تركوه كالفريسة التي إنقضّت عليها نسور جائعة نهمة !
ظهر ( محيسن ) بعد أن إنفضوا من حوله بثوب وببنطال ممزقين وهو يبكي مولولاً مكسور الخاطر . حتى أن ما كان خافياً من جسده النحيل قد ظهر مرة أخرى . وإزداد بكاؤه أكثر من السابق وهو يقترب من أبيه الذي سحب حمار العربة بقوة ، رافعاً رأسه الى أعلى ، مواصلاً سيره ومنادياً :
- نفط .. نفط ... نفط .....
*************************************
salehalbadri@yahoo.com
النرويج 2009