أيام الثورة الفرنسية 1848-1849
( الحلقة الأولى)
( الحلقة الأولى)
Ibrahim Hijazin
مقدمة:--لا يوجد شبه أو تطابق بين الثورات والتغيرات الديمقراطية في البلاد العربية الجارية حاليا وتلك الثورات التي جرت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، فالظروف مختلفة كليا، إلا أن الكثيرين من المفكرين والمؤرخين العرب عرضوا إلى تلك الإحداث العظيمة أثناء تحليلهم لمسيرة الثورات في مصر وتونس مستأنسين برؤية لا غبار عليها وتوحي بأن الطابع العام للثورة في هاتين الدولتين والحراك في المجتمعات العربية الأخرى يكتسب سمات ديمقراطية أصيلة تماما كتلك التي سادت في أووربا في الفترة الزمنية المشار إليها، بالإضافة إلى الشبه بين الطابع الطفيلي والدكتاتوري للفئات التي سادت وتحكمت بالبلدان الأوروبية وهذه التي سادت في بلداننا العربية، إلى جانب أمرين آخرين يكشفان شبه ما أيضا تجدر الإشارة إليهما وهو أن بعض البلدان في أوروبا كانت تعاني من الاحتلال الأجنبي كبعض أجزاء الأرض الإيطالية او التشيك والمجر وبولونيا والأخر أن كل من ألمانيا وإيطاليا كانتا مفتتين وتسعى كتلتهما الشعبية نحو الوحدة الوطنية. تماما كمعاناة البلاد العربية والمسألة القومية المطروحة أمامهم.
لكن توجد دروس من تلك الأيام يمكن الاستفادة منها فيما يخص الحراك الديمقراطي الحالي وأهداف المرحلة والكتل السياسية المشاركة فيها من ناحية البرامج والتكتيكات والسلوك السياسي لمختلف الفئات الاجتماعية، كما أن مسيرة هذه الثورات قد تلقي الضوء على دور الثورة المضادة وقواها وسلوكها أيضا في إجهاض مكتسبات الثورة. وقد تساعد هذه الإطالة على تاريخ أوروبا في هذه المرحلة في فهم كيف تحدد الفئات والطبقات الاجتماعية التي يتكون منها الشعب موقفها من القضايا المطروحة والإخطار المتوقعة التي تحف بهذه الثورة المجيدة في وقتنا الحاضر. ورأيت أن أقدم مختصرا للثورة الفرنسية لسبب أنها تشكل نموذجا كلاسيكيا يمكن الاستفادة منه يرجع إليه البعض في كثير من الأحيان .
لم تكن الحالة الثورية التي سادت في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر مقتصرة عليها فقط، فقد عاشتها معظم الدول الأوروبية، فبعض العوامل التي قادت لنضوجها كانت متشابهة وكانت هناك أبضا أسباب وظروف خاصة بكل دولة على حدة. ففي منتصف القرن التاسع عشر شهدت معظم الدول الأوروبية نجاحات هامة في تطورها الرأسمالي. في انجلترا مثلا تحقق الانقلاب الصناعي وفي كل مكان من أوروبا وخاصة الغربية جرى تحول من العمل الحرفي اليدوي( المانيفاكتورة) نحو الإنتاج المعملي- الصناعي وبهذا تشكلت الطبقات والفئات الاجتماعية الملازمة للمجتمع الرأسمالي. وخاصة البرجوازية الصناعية والطبقة العاملة في ظل تسيد وسيطرة طبقات تعرقل نمو وسيادة علاقات هذه الأسلوب الجديد في الإنتاج مما شكل تناقضا في مصالح الطبقات الصاعدة مع تلك السائدة.
فرنسا كانت مثالا على هذا التناقض، فالثورة الفرنسية العظمى من عام 1789 لم تقض نهائيا على العلاقات الإقطاعية لكنها عبدت الطريق ومهدته لنمو أسلوب الإنتاج الرأسمالي الذي وصل إلى مرحلة التناقض مع بقايا الإقطاع وتحالفه مع الارستقراطية المالية التي استغلت سنوات الردة بعد عام 1815 للنمو والهيمنة. وهكذا وصلت البرجوازية الصناعية إلى مرحلة التناقض الحاد مع الارستقراطية المالية-الإقطاعية المسيطرة والتي كانت تتابع بقلق ظهور طبقات وفئات اجتماعية جديدة وخاصة العمالية والتي كانت تظهر نشاطا مطلبيا ملحوظا، مثل هذه الصيرورة شهدتها دول أوروبية أخرى مثل بروسيا في الأراضي الألمانية، وكذلك الأمر حدث في النمسا والأراضي الإيطالية حيث كانت تسود التقاليد الإقطاعية المطلقة والتي كانت تمنع نمو وتطور الرأسمالي. وفي مناطق عديدة تداخل الصراع الاجتماعي مع الظلم القومي، بالإضافة إلى مسألة الوحدة القومية في مناطق أخرى من بلدان القارة الأوروبية.
هذه المسائل والقضايا كانت مطروحة على أجندة القارة وكان يمكن حلها عن طريق الثورات الديمقراطية والتي تتداخل مع النضال من أجل التحرر الوطني او الوحدة القومية.
ساعدت ظروف مختلفة على انفجار التحركات والانتفاضات التي تحولت إلى ثورات في أوروبا، ففي منتصف أربعينات القرن التاسع عشر شهدت كل الدول الأوروبية ترجعا حادا في الأوضاع المعيشية للجماهير الشعبية، الإنتاج الزراعي تعرض لأمراض قادت إلى كوارث أدت إلى مجاعات كبرى وانتشار الأوبئة كالكوليرا والتيفوس وغيرها.
المصائب في القطاع الزراعي ترافقت مع أزمة تجارية- صناعية قادت في النهاية إلى بطالة جماعية هائلة، انتشرت في انجلترا وفرنسا وألمانيا وغيرها. ففي فرنسا هبط الإنتاج الصناعي إلى النصف، وفي إنجلترا هبط إنتاج الحديد والصلب إلى النصف أيضا وكذلك الأمر في الصناعات الصوفية التي عانت من أزمة كبيرة.
أصابت الأزمات ونتائجها مختلف الطبقات من عمال وفلاحين والحرفيين والتجار الصغار وبعض الكبار منهم وكذلك بعض الصناعيين الكبار. في مختلف البلدان انفجرت انتفاضات شعبية ذات طابع متنوع. في فرنسا انطلقت أعمال الشغب بسبب الجوع وإضرابات عمالية واضطرابات فلاحية. في إنجلترا نشطت حركة الشارتيين كما شهدت ألمانيا انتفاضات عفوية وأعمال شغب بسبب انتشار الجوع هناك أيضا.
الاستياء ساد في أوساط معارضة في صفوف البرجوازية الفرنسية وكذلك الأمر حدث في بروسيا ودول أخرى، هذه الأوساط أظهرت عدائها بوضوح لأسلوب الحكم الإقطاعي الذي يعيق النمو والتطور في مجتمعاتها وطرحت ضمن مطالبها العمل من اجل الحقوق والحريات الديمقراطية.
نلاحظ في هذه المقدمة تمايزا واضحا بين وضع أوروبا في ذلك الحين والأوضاع التي تعيشها البلدان العربية حاليا من حيث الفرق الزمني ومن حيث التطور الاجتماعي والفرق الهائل بين طبيعة الإنتاج في كل من الحالتين، لكن هناك تقارب واضح حيث أن بلدان أوروبا كانت تعاني من هيمنة قوى طفيلية عفى على أسلوبها في الحكم الزمن وتستأثر بالإنتاج الإجمالي وتكدس الثروات وتخضع الشعب بمجمل فئاته المنتجة لأسلوب حكم استبدادي تسلطي. فطرح التاريخ في حركته على جدول أعماله التخلص منها وفتح الأبواب نحو الديمقراطية وحقوق المواطن، وهذا طرحه تاريخنا أيضا على جدول أعماله في بلادنا أيضا ....
منقول