ثلاث قصص... من الماضي البعيد ج2
الحليب
رن هاتفي النقال وأنا في طريق عودتي من العمل، وكانت زوجتي تريد أن اشتري لها (كيس حليب) وتحديداً نوع (مدهش) لأنه الأطيب والأسهل ذوباناً، ولأنني (لا أستطيع أن أعصي أمراً لزوجتي أبداً!!!!!) فلقد اشتريت كيسين بدلاً من كيس واحد.
وقصتي اليوم عن (حليب أيام زمان)
ففي السبعينات لم نكن نعرف ما هو (حليب البودرة) أو على الأقل لم نكن نستعمله نهائياً وكان البديل عن ذلك هو شخص يأتي في الصباح الباكر (وقبل بزوغ الشمس حتى) وعلى دراجته الهوائية حاملا في سلته الأمامية والخلفية قناني مملوءة بالحليب الطازج (تعبئة يدوية.. من البقرة إلى القنينة مباشرة) ويبدأ بتوزيع ذلك الحليب على البيوت التي يتفق معها شهريا مقابل ذلك الحليب... يأتي ليجد (قنينتين فارغين) في باب البيت الخارجي فيأخذهما ويضع بدلاً عنها قنينتين مملوءتين (بالحليب الطازج).. ويمضي إلى بيت آخر. ليوزع جميع ما في سلته من حليب، ولربما كانت هناك جولة أخرى مع قناني أخرى وبيوت أخرى، وكانت هذه طريقته لكسب عيشه.
كانت أمي حفظها الله تستيقظ صباحاً وتجلب الحليب من باب البيت وتضعه في قدر صغير لتغليه... والغليان كان له فائدتان: الأولى التعقيم من الجراثيم، والثانية الاستفادة من (الگشوة) التي ستطفو على سطحة لتناولها قشطة طازجة كل يوم.
أما حليب الأطفال فإنني لا أتذكر إلا نوعية واحدة هي حليب (كيكوز) ذو العلبة المعدنية الرفيعة والطويلة ذي السطح المجعّد والمغلفة بورقة إما حمراء أو خضراء مكتوب عليها الماركة التجارية مع صورة شهيرة جداً لطفل له (گذلة) جميلة واقفة حتى باتت مثلاً لدينا لكل من نرى أن شعره يحوي (گذلة منتصبة) فنقول له... أشو اليوم مسوي شعرك كيكوز!!!)
علماً أن تلك العلب كانت مشهورة أيضاً لأننا نضع فيها الماء لتجميده في الثلاجة عندما تفرغ، ونستعملها باستمرار لهذا الغرض
أحن كثيرا لتلك الحياة التي كانت بسيطة جداً وليس فيها تعقيدات هذا الزمان.
مكتبة الطفل العربي
كنـّا نمر من أمامها كلما ذهبنا لبيت عمتي الكائن في المنصور، فمكانها كان (وما زال) أمام حديقة الزوراء، واذكر يوماً أن والدتي همست في أذن والدي قائلة: "لماذا لا تذهب بالأولاد (لمكتبة الطفل العربي) فلقد أصبحوا كباراً في السن.
كنت حينها في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي وكانت أختي تصغرني بسنتين، وفعلاً أخذنا والدي رعاه الله يوم (إثنين) إلى المكتبة (إذا كان الوقت هو العطلة الصيفية) بعد أن ألبستنا والدتي ملابس جديدة ومرتبة كأننا في يوم عيد، ودخلنا المكتبة وأنا متشوق لمعرفة ذلك المكان الجديد... طلبت المدرية من والدي صورة لكل منـّا (أنا وأختي) وعملت لنا في الحال بطاقة جميلة وقالت: "يمكنهم من الآن أن يداوموا في المكتبة".
تركنا والدي صباح ذلك اليوم في المكتبة على أن يرجع ليأخذنا بعد ثلاث أو أربع ساعات، ومن فورها استلمتنا إحدى المعلمات هناك وبدأت بسؤالنا عن أسمائنا وأي صف نحن في محاولة منها لكسر حاجز الرهبة الخوف لدينا وخصوصا عند أختي الصغرى، وأخذت تعرّفنا على أقسام المكتبة الثلاث... السينما... المكتبة... غرفة اللعب (أو الملاعيب كما كنـّا نسميها) ولأن الأخيرة كانت مشوقة جداً وكنـّا نود أن نقضي معظم وقتنا هناك فلقد جعلوها آخر المطاف قائلين لنا: (من يسمع الكلام وميسوي وكاحة انوديه لقاعة الملاعيب).
ما أذكره في أول يوم هو أننا ذهبنا أولا إلى السينما وعرضوا لنا الكارتون الروسي المشهور في حينها (أنا حورّيك) أو يسمى أيضاً (يا ويلك يا ارنب)، وكنـّا مستأنسين به كثيراً بعدها ذهبنا للمكتبة وأعطتنا المشرفة كتابا لكل واحد منـّا حسب عمره فكان نصيبي كتاب تاريخيٌ حول خالد بن الوليد، بعدها جاءت فقرة (الملاعيب) فكانت أجمل فقرة ختامية لنا، فكانت (المكعبات) و (الطين اصطناعي) و (دفاتر التلوين) و (الميكانو) هي أهم ما أذكره في حينها.
بعدها أصبح أجمل أيام الأسبوع يوم ذهابنا إلى المكتبة حيث انضم معنا كل من أولاد عمي وأولاد عمتي، واستمر الحال معنا سنتين أو ثلاث.
هكذا كانت تربية الأطفال والنشأ الجديد في بلادنا قبل 40 سنة وهكذا كان عندهم التعليم والتربية... قيمة ثقافية عالية وتعليم بأخلاق ومعايير تربوية راقية... فكانت الحصيلة جيلٌ مثقفٌ وواعٍ قلّ أن تجد في بلاد العرب مثيلاً له في حينها.
الفلس الأحمر
قد لا يعرف الكثيرون أن (الفلس) هو عملة كانت متداولة في العراق بشكل رئيسي في السابق، وذلك لقلة قيمته ولعدم وجود شيء يمكن ان يُباع بفلس واحد لذلك كانت هناك وفي العهود الملكية عملة تسمى (العانة) وهي ما تساوي (4 فلوس)، وجاء عبد الكريم القاسم ليلغي (العانة) ويزيدها فلساً آخر فتصبح عملة من فئة (5 فلوس) كي تكون لها مضاعفات منطقية وهي (10 فلوس) و (25 فلس) و( 50 فلس ويسمى درهم) ثم (100 فلس) هذه كلها كانت عملاً حديدية بين مقرنص ومدوّر
كان عمري 6 سنوات ربما حينما اصطحبني والدي معه لدفع فاتورة الكهرباء، وحين وصولنا أعطاني الفاتورة وأمرني أن اذهب أنا لدفعها في قسم للجباية صغير في منطقة راغبة خاتون كان ولنهاية الثمانينيات موجودا في نفس مكانه قرب صيدلة عمّار لمن يتذكر تلك المنطقة... المهم أنني أخذت الفاتورة ومعها مبلع 100 فلس ووقفت تحت شباك الدفع الذي أشار لي والدي عليه والذي كانت يدي لا تطاله لقصر طولي... كانت محاولة من والدي رعاه الله كي يزرع الثقة في نفوسنا ونحن صغار ويعلمنا كيفية التعامل مع الناس والاعتماد على النفس كأسلوب تربوي.
فهم الموظف المسؤول قصد والدي وأخرج راسه من الشباك ومد يده لي ليأخذ الفاتورة في الوقت الذي مددت له يدي دون أن أنطق بكلمة واحدة، هممت بالخروج إلا أن الموظف صاح بي: "تعال عمو أخذ الباقي"
رجعت وأخذت باقي المبلغ بيدي لأعطيه لوالدي وكان ضمن المبلغ المرجوع (فلسان) وكان لون (الفلس) أحمراً لأنه مصنوع من النحاس... وكمكافأة لي أعطاني والدي الفلسين كي أجمعها في (القاصة) خاصتي.
ومنذ ذلك الحين بدأت اصر على والدي بأن أذهب أنا لأدفع الفاتورة كل شهر شعوراً مني بالثقة العالية وكوني أصبحت كبيراً وأدفع فاتورة الكهرباء.. وكذلك طمعاً في .... (الفلس أو الفلسين) والتي أصبحت دائما من نصيبي الشهري
تذكرت تلك القصة وأنا أرتب بين أغراضي القديمة لأجد علبة معدنية تحوي تلك (الفِلسان الحمراء) التي جمعتها منذ أن كنت في الصف الأول الابتدائي لتبقى شاهداً على فترة من حياتي كان (الفلس) له قيمته بالشكل الذي يجعل موظف الكهرباء يرجعه كباقي المبلغ حينما يستلم قيمة فاتورة الكهرباء.
*************
بقلم :_ عراقي أصيل
الحليب
رن هاتفي النقال وأنا في طريق عودتي من العمل، وكانت زوجتي تريد أن اشتري لها (كيس حليب) وتحديداً نوع (مدهش) لأنه الأطيب والأسهل ذوباناً، ولأنني (لا أستطيع أن أعصي أمراً لزوجتي أبداً!!!!!) فلقد اشتريت كيسين بدلاً من كيس واحد.
وقصتي اليوم عن (حليب أيام زمان)
ففي السبعينات لم نكن نعرف ما هو (حليب البودرة) أو على الأقل لم نكن نستعمله نهائياً وكان البديل عن ذلك هو شخص يأتي في الصباح الباكر (وقبل بزوغ الشمس حتى) وعلى دراجته الهوائية حاملا في سلته الأمامية والخلفية قناني مملوءة بالحليب الطازج (تعبئة يدوية.. من البقرة إلى القنينة مباشرة) ويبدأ بتوزيع ذلك الحليب على البيوت التي يتفق معها شهريا مقابل ذلك الحليب... يأتي ليجد (قنينتين فارغين) في باب البيت الخارجي فيأخذهما ويضع بدلاً عنها قنينتين مملوءتين (بالحليب الطازج).. ويمضي إلى بيت آخر. ليوزع جميع ما في سلته من حليب، ولربما كانت هناك جولة أخرى مع قناني أخرى وبيوت أخرى، وكانت هذه طريقته لكسب عيشه.
كانت أمي حفظها الله تستيقظ صباحاً وتجلب الحليب من باب البيت وتضعه في قدر صغير لتغليه... والغليان كان له فائدتان: الأولى التعقيم من الجراثيم، والثانية الاستفادة من (الگشوة) التي ستطفو على سطحة لتناولها قشطة طازجة كل يوم.
أما حليب الأطفال فإنني لا أتذكر إلا نوعية واحدة هي حليب (كيكوز) ذو العلبة المعدنية الرفيعة والطويلة ذي السطح المجعّد والمغلفة بورقة إما حمراء أو خضراء مكتوب عليها الماركة التجارية مع صورة شهيرة جداً لطفل له (گذلة) جميلة واقفة حتى باتت مثلاً لدينا لكل من نرى أن شعره يحوي (گذلة منتصبة) فنقول له... أشو اليوم مسوي شعرك كيكوز!!!)
علماً أن تلك العلب كانت مشهورة أيضاً لأننا نضع فيها الماء لتجميده في الثلاجة عندما تفرغ، ونستعملها باستمرار لهذا الغرض
أحن كثيرا لتلك الحياة التي كانت بسيطة جداً وليس فيها تعقيدات هذا الزمان.
مكتبة الطفل العربي
كنـّا نمر من أمامها كلما ذهبنا لبيت عمتي الكائن في المنصور، فمكانها كان (وما زال) أمام حديقة الزوراء، واذكر يوماً أن والدتي همست في أذن والدي قائلة: "لماذا لا تذهب بالأولاد (لمكتبة الطفل العربي) فلقد أصبحوا كباراً في السن.
كنت حينها في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي وكانت أختي تصغرني بسنتين، وفعلاً أخذنا والدي رعاه الله يوم (إثنين) إلى المكتبة (إذا كان الوقت هو العطلة الصيفية) بعد أن ألبستنا والدتي ملابس جديدة ومرتبة كأننا في يوم عيد، ودخلنا المكتبة وأنا متشوق لمعرفة ذلك المكان الجديد... طلبت المدرية من والدي صورة لكل منـّا (أنا وأختي) وعملت لنا في الحال بطاقة جميلة وقالت: "يمكنهم من الآن أن يداوموا في المكتبة".
تركنا والدي صباح ذلك اليوم في المكتبة على أن يرجع ليأخذنا بعد ثلاث أو أربع ساعات، ومن فورها استلمتنا إحدى المعلمات هناك وبدأت بسؤالنا عن أسمائنا وأي صف نحن في محاولة منها لكسر حاجز الرهبة الخوف لدينا وخصوصا عند أختي الصغرى، وأخذت تعرّفنا على أقسام المكتبة الثلاث... السينما... المكتبة... غرفة اللعب (أو الملاعيب كما كنـّا نسميها) ولأن الأخيرة كانت مشوقة جداً وكنـّا نود أن نقضي معظم وقتنا هناك فلقد جعلوها آخر المطاف قائلين لنا: (من يسمع الكلام وميسوي وكاحة انوديه لقاعة الملاعيب).
ما أذكره في أول يوم هو أننا ذهبنا أولا إلى السينما وعرضوا لنا الكارتون الروسي المشهور في حينها (أنا حورّيك) أو يسمى أيضاً (يا ويلك يا ارنب)، وكنـّا مستأنسين به كثيراً بعدها ذهبنا للمكتبة وأعطتنا المشرفة كتابا لكل واحد منـّا حسب عمره فكان نصيبي كتاب تاريخيٌ حول خالد بن الوليد، بعدها جاءت فقرة (الملاعيب) فكانت أجمل فقرة ختامية لنا، فكانت (المكعبات) و (الطين اصطناعي) و (دفاتر التلوين) و (الميكانو) هي أهم ما أذكره في حينها.
بعدها أصبح أجمل أيام الأسبوع يوم ذهابنا إلى المكتبة حيث انضم معنا كل من أولاد عمي وأولاد عمتي، واستمر الحال معنا سنتين أو ثلاث.
هكذا كانت تربية الأطفال والنشأ الجديد في بلادنا قبل 40 سنة وهكذا كان عندهم التعليم والتربية... قيمة ثقافية عالية وتعليم بأخلاق ومعايير تربوية راقية... فكانت الحصيلة جيلٌ مثقفٌ وواعٍ قلّ أن تجد في بلاد العرب مثيلاً له في حينها.
الفلس الأحمر
قد لا يعرف الكثيرون أن (الفلس) هو عملة كانت متداولة في العراق بشكل رئيسي في السابق، وذلك لقلة قيمته ولعدم وجود شيء يمكن ان يُباع بفلس واحد لذلك كانت هناك وفي العهود الملكية عملة تسمى (العانة) وهي ما تساوي (4 فلوس)، وجاء عبد الكريم القاسم ليلغي (العانة) ويزيدها فلساً آخر فتصبح عملة من فئة (5 فلوس) كي تكون لها مضاعفات منطقية وهي (10 فلوس) و (25 فلس) و( 50 فلس ويسمى درهم) ثم (100 فلس) هذه كلها كانت عملاً حديدية بين مقرنص ومدوّر
كان عمري 6 سنوات ربما حينما اصطحبني والدي معه لدفع فاتورة الكهرباء، وحين وصولنا أعطاني الفاتورة وأمرني أن اذهب أنا لدفعها في قسم للجباية صغير في منطقة راغبة خاتون كان ولنهاية الثمانينيات موجودا في نفس مكانه قرب صيدلة عمّار لمن يتذكر تلك المنطقة... المهم أنني أخذت الفاتورة ومعها مبلع 100 فلس ووقفت تحت شباك الدفع الذي أشار لي والدي عليه والذي كانت يدي لا تطاله لقصر طولي... كانت محاولة من والدي رعاه الله كي يزرع الثقة في نفوسنا ونحن صغار ويعلمنا كيفية التعامل مع الناس والاعتماد على النفس كأسلوب تربوي.
فهم الموظف المسؤول قصد والدي وأخرج راسه من الشباك ومد يده لي ليأخذ الفاتورة في الوقت الذي مددت له يدي دون أن أنطق بكلمة واحدة، هممت بالخروج إلا أن الموظف صاح بي: "تعال عمو أخذ الباقي"
رجعت وأخذت باقي المبلغ بيدي لأعطيه لوالدي وكان ضمن المبلغ المرجوع (فلسان) وكان لون (الفلس) أحمراً لأنه مصنوع من النحاس... وكمكافأة لي أعطاني والدي الفلسين كي أجمعها في (القاصة) خاصتي.
ومنذ ذلك الحين بدأت اصر على والدي بأن أذهب أنا لأدفع الفاتورة كل شهر شعوراً مني بالثقة العالية وكوني أصبحت كبيراً وأدفع فاتورة الكهرباء.. وكذلك طمعاً في .... (الفلس أو الفلسين) والتي أصبحت دائما من نصيبي الشهري
تذكرت تلك القصة وأنا أرتب بين أغراضي القديمة لأجد علبة معدنية تحوي تلك (الفِلسان الحمراء) التي جمعتها منذ أن كنت في الصف الأول الابتدائي لتبقى شاهداً على فترة من حياتي كان (الفلس) له قيمته بالشكل الذي يجعل موظف الكهرباء يرجعه كباقي المبلغ حينما يستلم قيمة فاتورة الكهرباء.
*************
بقلم :_ عراقي أصيل