رسالة منتصف الليل منقول بواسطة صباح السعدي
نشر هذا النداء على موقع الحوار المتمدن ليلة 20/3/03 قبل ساعات من الحرب!
هذه الرسالة ليست صلاة،
وليست أملا،
ولا هي رسالة خوف،
إنها صيحة البطريق قبل العاصفة.
إنها نشيج من فوق الكارثة على موتى في الطريق الآن إلى الأنقاض والصمت الأبدي.
الصمت الذي رأيته في أماكن كثيرة تتركه الحرب: رأيته في مقابر مضيق برسلين وديانا وعلىسفوح جبل زوزك وقنديل وفي جبل السلام، وفي وديان جومان ومهران وسهول كيلان غرب وصحارى البصرة وفي أدغال ومستنقعات الأهواز، وفي عيون الأمهات المنتظرات على الطرق الخارجية الجالسات أمام نقاط السيطرة العسكرية كبقع سوداء غامضة.
كطيور الظلام، وفي المستشفيات العسكرية أو في نقالات الجرحى،وفي كل الأماكن التي اغتالها الدكتاتور.
ليس صمتا تماما، إنه نحيب سري.
إنني أتوجه بهذا النشيج في هذه الساعات إلى الذين يجلسون الآن في غرفهم أو في خنادقهم على ضوء فانوس أو شمعة أو أمل دفين.
إلى أولئك السجناء في العتمة الباردة في انتظار قنبلة طائشة أو مفرزة انتقام أو أي أمل أو حركة في القفل المحكم أو الباب المغلق على النهار والشمس والريح والقمر والأمل.
أتوجه إلى أصدقائي في كل مكان، في المنافي البعيدة، أو في المنافي القريبة، داخل وخارج الوطن.
الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم.
إلى المنتصرين الأبرياء،
والمهزومين الأبرياء.
وليس عندي في هذه الساعات غير ذاك النشيد البوذي الذي يغني للفراشات الواقفة على صدور المنتصرين النائمين، وعلى صدور المهزومين الموتى.
إنها أغنية الفراشات في زمن الحرب.
لا تعرف الفراشات عنصرية العرق والدم والأمة.
لا تعرف غير المحبة حتى داخل بركة دم.
أو حقل ألغام.
وكثيرا ما رأيت الفراشات تطير وتلعب في حقول الألغام أو بين الجنود القتلى وسط العشب الربيعيحدث ذلك في معارك الطاهري جسر حالوب، وفي معارك شرقي البصرة 82، وفي معارك جبل زوزك 74، وفي غيرها ).
كما رأيت القمر يبزغ من خلال الأسلاك الشائكة.
ليس إلا الذين عرفوا الحرب عن قرب يعرفون معنى بزوغ قمر من فوق الأسلاك الشائكة.
إنها إطلالة الحياة على الموت،
ورائحة الأمل على رائحة الجثث،
ونور الأبدية على منطق القنبلة.
ومعنى صخب العصافير في بركة ماء تحت القصف.
أو انبثاق الزهور في خوذ الجنود القتلى القدامى المرميين في العراء في الأرض الحرام من معارك سابقة، أو بين حفر القنابل.
ليس إلا نحن من يعرف ماذا يعني النوم الليلي الشتوي فوق مصاطب محطات السفر أو تحت أبواب المحلات المغلقة آخر الليل، أو البحث عن مسجد ليلي مفتوح للنوم قبل الالتحاق في الصباح بالخطوط الأمامية( أتذكر جيدا سنة 82 حين طردتني مفرزة حزبية من جامع بلدة "الدير" بعد منتصف الليل لأنه ممنوع النوم في الجوامع بالنسبة للجنود، فنمت على منصة ـ بسطة ـ محل مغلق حتى الفجر، حين أيقظتني عجوز تبيع القيمر، وألقت عباءتها فوقي وهي تقول: عساها بخت من سوّاها ، أي الحرب!).
إلى اليوم أشم رائحة تلك العباءة.
ليست عباءة فحسب، إنها رسالة حب، وحضارة، وجمال.
ولو نمت في كل شوارع العالم اليوم، فلن ترمي امرأة أو رجل معطفا أو عباءة فوقك.
الحضارة روح وليست تكنولوجيا.
ليس غيرنا من يعرف ماذا يعني إعداد الحقيبة قبل التوجه للحرب.
ليس غيرنا من يعرف معنى برد المحطات.
وصراخ الأطفال في لحظات الوداع.
ولون النوافذ الأزرق.
وبصيص الشمعة وهي تخبو في الملجأ أو الغرفة.
ولا دوي القنبلة.
ولا اللون الكريه لقناع الغازات ورائحته المنفرة في الصيف الحار(رائحة تشبه رائحة حذاء يحترق!).
وصمت الطرق الخارجية، حين تخترق الحافلة أو القطار السهول.
ليس غيرنا من يعرف حزن المواقد البعيدة عبر نافذة قطار.
أو أغنية تنبثق من الذاكرة أو من السهول الليلية النحيلة عن القهوة والقطار والعشق وفز القطا وبرد الفجر.
ولا جمال ضفيرة تحنّت بليلة مهر.
ولا حزن الأغاني:
( يا طيور الطايرة روحي الهلي).
ولا نحيب:
( أريد أبجي على صدرك مشتهي النوح).
ليس غيرنا، نحن حطب الحروب والمنافي في كل زمان/ في كل مكان، أبناء الفقراء، من يعرف ماذا تعني نافذة مضاءة داخل الليل المعتم من خلف نافذة قطار مندفع نحو الحرب.
ولا لون الوسادة،
أو حمام ساخن،
أو لذة حساء على ضوء ناعم مسالم.
ولا معنى بكاء طفل آخر الليل.
إنه نشيد الحياة في مواجهة الموت.
فالأطفال لا يبكون في الخطوط الأمامية.
والهجوم؟
والهجوم المقابل؟.
إنها ليست مجرد ألفاظ في القاموس العسكري.
ولا كلمات عابرة في نشرة أخبار .
إنها الموت والرائحة والنسيان.
إنها قيامة الوحش.
لست واعظا.
ولا ناصحا.
ولو كنت كذلك، فمن يسمع صلاة أو أغنية أو موعظة جبل من نبي أو شريد أو فقير في هذه الساعات التي ينهض فيها الوحش البشري من رقاده بعد أن كنا على وشك الاحتفال بنهاية عصر الغابة، وموت الغوريلا؟
لكن الغوريلا خرجت وهي تستحم بالنار الآن على مشارف قرن جديد كان يقال له قبل سنوات أنه: قرن الإنسان.
وليس الوقت وقت عتاب أو ملامة أو ندم أو حسرة أو أسف.
ليس لأن الزمن قد مات أو توقف بل لأن ذلك لم يكن مجديا في أي يوم مضى ولا في أي يوم قادم.
وفات الأوان كي نقول أيضا أن هذه الحرب ليست حرب الدكتاتور وحده مع خصومه فحسب، بل هي حرب الأخطاء.
أخطاؤنا نحن التي مجدناها ورعيناها وفلسفناها كل هذه القرون والحقب والسنوات وحتى اليوم.
في هذه الساعات العصيبة يجب علينا بل من واجبنا ككتاب وشعراء وفنانين أن نبرهن لأنفسنا ولشعبنا أننا قادرون على الرؤية في الظلام، وتلمس طريق النور في هذا الديجور، وسماع النشيج المرْ في فوضى صخب الطائرات والقنابل، وعلى شم رائحة الأمل بين الجثث والأنقاض.
الذين قالوا وكتبوا وفرحوا لهذه الحرب أثبتوا لنا للمرة الأخيرة أن شهوة القتل والحرب والدمار ليست نزعة خاصة بالدكتاتور.
الذين كتبوا ومازالوا يكتبون بحماسة يومية لهذه الحرب كانوا البرهان الواضح على أن الخلل في الوجدان العراقي أعمق بكثير من أن ترقعه أو تصلحه أو ترممه جيوش أو حكومة جديدة أو ديمقراطية بنادق أو غازات.
فليس الدكتاتور في حالة عري هذه الأيام وفي مواجهة مصيره، بل هذا الوعي الشقي الوحشي المحتفل بالجثة والنار والموت والرصاص.
هذه الاحتفال الوحشي هو علامة خطر مبكرة على أننا سنجد أنفسنا يوما أمام سلطة الوحش ذاتها.
والكراهية ذاتها،
ونفس نزعة الانتقام.
( مع أننا لسنا من يصغي لعلامات الإنذار المبكرة حتى بعد فوات الأوان كما دلت كل التجارب السابقة وكما ستدل كل التجارب اللاحقة).
لا تفصلنا الآن عن كارثة قادمة،
ومجزرة وشيكة،
ومذبحة كبرى،
غبر ساعات.
وفي هذه الفسحة الباقية من الأمل، هناك فرصة لنا وحدنا للتأمل، حتى في قلب هذه العتمة والليل واليأس.
من واجبنا ككتاب أن نقرع طبول الأمل.
أن ننذر،
أن نعلن للعالم،
إن بلدنا على وشك الزوال.
إن الوطن ينحدر نحو الهاوية.
والذين يقودونه إلى الصلب العلني هم تجمع وحوش تتناقض مصالحهم، حتى صار الوطن كغزال ممزق بين أنياب ضباع مفترسة وبين مخالب طيور وحشية.
هذه سلطة النمل.
وشعارها العلني:
( نجعل الدماء تسيل أنهارا في سبيل العراق).
والمقصود الكرسي.
أو:
( من يستلم العراق، يستلمه أرضا بلا شعب).
الغوريلا تركض في شوارع بغداد لتأكل أهلنا.
الغوريلا تستحم بالدم.
هل من فسحة للصلاة؟
هل من فسحة للأمل؟
هل من فرصة للتأمل؟
الأمل الوحيد الباقي هو أن ندفن موتانا وننهض.
الأمل الوحيد الباقي هو أن ندفن الوحشي فينا،
ألا نسمح مرة أخرى، لمجرمين جدد يحكموننا باسم مشنقة أخرى أو كذبة وردية أو لعبة سياسية مموهة.
أن نزرع الأمل والحب في قلوب الناجين من المحرقة.
ليس مطلوبا موت الدكتاتور فحسب، بل العقل الذي أنتجه.
الحاضنة،
والثقافة، والمناخ، والذهنية.
وكل الدلائل تشير على أن أكثر من دكتاتور في الطريق.
وعلينا ككتاب وشعراء وأدباء ومثقفين، أن نواصل طريق الأمل بالطرق الخاصة التي لا يعرفها غيرنا.
طرق الحرية.
طرق التغيير.
طرق تقود كلها إلى ثورة فكرية وثقافية.
طرق لا تمر بالثكنات،
ولا في صالونات عائلية،
ولا في قبائل سياسية جديدة.
وعلينا أن نجهز أنفسنا كي نكون معارضة منذ اليوم لكل نظام قادم، وفي أي زمان.
الوطن في الطريق إلى الهاوية.
ادفنوا موتاكم، وانهضوا.
ولندق أبواب الأمل
ولو بأعواد الثقاب !
19/آذار/2003
نشر هذا النداء على موقع الحوار المتمدن ليلة 20/3/03 قبل ساعات من الحرب!
هذه الرسالة ليست صلاة،
وليست أملا،
ولا هي رسالة خوف،
إنها صيحة البطريق قبل العاصفة.
إنها نشيج من فوق الكارثة على موتى في الطريق الآن إلى الأنقاض والصمت الأبدي.
الصمت الذي رأيته في أماكن كثيرة تتركه الحرب: رأيته في مقابر مضيق برسلين وديانا وعلىسفوح جبل زوزك وقنديل وفي جبل السلام، وفي وديان جومان ومهران وسهول كيلان غرب وصحارى البصرة وفي أدغال ومستنقعات الأهواز، وفي عيون الأمهات المنتظرات على الطرق الخارجية الجالسات أمام نقاط السيطرة العسكرية كبقع سوداء غامضة.
كطيور الظلام، وفي المستشفيات العسكرية أو في نقالات الجرحى،وفي كل الأماكن التي اغتالها الدكتاتور.
ليس صمتا تماما، إنه نحيب سري.
إنني أتوجه بهذا النشيج في هذه الساعات إلى الذين يجلسون الآن في غرفهم أو في خنادقهم على ضوء فانوس أو شمعة أو أمل دفين.
إلى أولئك السجناء في العتمة الباردة في انتظار قنبلة طائشة أو مفرزة انتقام أو أي أمل أو حركة في القفل المحكم أو الباب المغلق على النهار والشمس والريح والقمر والأمل.
أتوجه إلى أصدقائي في كل مكان، في المنافي البعيدة، أو في المنافي القريبة، داخل وخارج الوطن.
الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم.
إلى المنتصرين الأبرياء،
والمهزومين الأبرياء.
وليس عندي في هذه الساعات غير ذاك النشيد البوذي الذي يغني للفراشات الواقفة على صدور المنتصرين النائمين، وعلى صدور المهزومين الموتى.
إنها أغنية الفراشات في زمن الحرب.
لا تعرف الفراشات عنصرية العرق والدم والأمة.
لا تعرف غير المحبة حتى داخل بركة دم.
أو حقل ألغام.
وكثيرا ما رأيت الفراشات تطير وتلعب في حقول الألغام أو بين الجنود القتلى وسط العشب الربيعيحدث ذلك في معارك الطاهري جسر حالوب، وفي معارك شرقي البصرة 82، وفي معارك جبل زوزك 74، وفي غيرها ).
كما رأيت القمر يبزغ من خلال الأسلاك الشائكة.
ليس إلا الذين عرفوا الحرب عن قرب يعرفون معنى بزوغ قمر من فوق الأسلاك الشائكة.
إنها إطلالة الحياة على الموت،
ورائحة الأمل على رائحة الجثث،
ونور الأبدية على منطق القنبلة.
ومعنى صخب العصافير في بركة ماء تحت القصف.
أو انبثاق الزهور في خوذ الجنود القتلى القدامى المرميين في العراء في الأرض الحرام من معارك سابقة، أو بين حفر القنابل.
ليس إلا نحن من يعرف ماذا يعني النوم الليلي الشتوي فوق مصاطب محطات السفر أو تحت أبواب المحلات المغلقة آخر الليل، أو البحث عن مسجد ليلي مفتوح للنوم قبل الالتحاق في الصباح بالخطوط الأمامية( أتذكر جيدا سنة 82 حين طردتني مفرزة حزبية من جامع بلدة "الدير" بعد منتصف الليل لأنه ممنوع النوم في الجوامع بالنسبة للجنود، فنمت على منصة ـ بسطة ـ محل مغلق حتى الفجر، حين أيقظتني عجوز تبيع القيمر، وألقت عباءتها فوقي وهي تقول: عساها بخت من سوّاها ، أي الحرب!).
إلى اليوم أشم رائحة تلك العباءة.
ليست عباءة فحسب، إنها رسالة حب، وحضارة، وجمال.
ولو نمت في كل شوارع العالم اليوم، فلن ترمي امرأة أو رجل معطفا أو عباءة فوقك.
الحضارة روح وليست تكنولوجيا.
ليس غيرنا من يعرف ماذا يعني إعداد الحقيبة قبل التوجه للحرب.
ليس غيرنا من يعرف معنى برد المحطات.
وصراخ الأطفال في لحظات الوداع.
ولون النوافذ الأزرق.
وبصيص الشمعة وهي تخبو في الملجأ أو الغرفة.
ولا دوي القنبلة.
ولا اللون الكريه لقناع الغازات ورائحته المنفرة في الصيف الحار(رائحة تشبه رائحة حذاء يحترق!).
وصمت الطرق الخارجية، حين تخترق الحافلة أو القطار السهول.
ليس غيرنا من يعرف حزن المواقد البعيدة عبر نافذة قطار.
أو أغنية تنبثق من الذاكرة أو من السهول الليلية النحيلة عن القهوة والقطار والعشق وفز القطا وبرد الفجر.
ولا جمال ضفيرة تحنّت بليلة مهر.
ولا حزن الأغاني:
( يا طيور الطايرة روحي الهلي).
ولا نحيب:
( أريد أبجي على صدرك مشتهي النوح).
ليس غيرنا، نحن حطب الحروب والمنافي في كل زمان/ في كل مكان، أبناء الفقراء، من يعرف ماذا تعني نافذة مضاءة داخل الليل المعتم من خلف نافذة قطار مندفع نحو الحرب.
ولا لون الوسادة،
أو حمام ساخن،
أو لذة حساء على ضوء ناعم مسالم.
ولا معنى بكاء طفل آخر الليل.
إنه نشيد الحياة في مواجهة الموت.
فالأطفال لا يبكون في الخطوط الأمامية.
والهجوم؟
والهجوم المقابل؟.
إنها ليست مجرد ألفاظ في القاموس العسكري.
ولا كلمات عابرة في نشرة أخبار .
إنها الموت والرائحة والنسيان.
إنها قيامة الوحش.
لست واعظا.
ولا ناصحا.
ولو كنت كذلك، فمن يسمع صلاة أو أغنية أو موعظة جبل من نبي أو شريد أو فقير في هذه الساعات التي ينهض فيها الوحش البشري من رقاده بعد أن كنا على وشك الاحتفال بنهاية عصر الغابة، وموت الغوريلا؟
لكن الغوريلا خرجت وهي تستحم بالنار الآن على مشارف قرن جديد كان يقال له قبل سنوات أنه: قرن الإنسان.
وليس الوقت وقت عتاب أو ملامة أو ندم أو حسرة أو أسف.
ليس لأن الزمن قد مات أو توقف بل لأن ذلك لم يكن مجديا في أي يوم مضى ولا في أي يوم قادم.
وفات الأوان كي نقول أيضا أن هذه الحرب ليست حرب الدكتاتور وحده مع خصومه فحسب، بل هي حرب الأخطاء.
أخطاؤنا نحن التي مجدناها ورعيناها وفلسفناها كل هذه القرون والحقب والسنوات وحتى اليوم.
في هذه الساعات العصيبة يجب علينا بل من واجبنا ككتاب وشعراء وفنانين أن نبرهن لأنفسنا ولشعبنا أننا قادرون على الرؤية في الظلام، وتلمس طريق النور في هذا الديجور، وسماع النشيج المرْ في فوضى صخب الطائرات والقنابل، وعلى شم رائحة الأمل بين الجثث والأنقاض.
الذين قالوا وكتبوا وفرحوا لهذه الحرب أثبتوا لنا للمرة الأخيرة أن شهوة القتل والحرب والدمار ليست نزعة خاصة بالدكتاتور.
الذين كتبوا ومازالوا يكتبون بحماسة يومية لهذه الحرب كانوا البرهان الواضح على أن الخلل في الوجدان العراقي أعمق بكثير من أن ترقعه أو تصلحه أو ترممه جيوش أو حكومة جديدة أو ديمقراطية بنادق أو غازات.
فليس الدكتاتور في حالة عري هذه الأيام وفي مواجهة مصيره، بل هذا الوعي الشقي الوحشي المحتفل بالجثة والنار والموت والرصاص.
هذه الاحتفال الوحشي هو علامة خطر مبكرة على أننا سنجد أنفسنا يوما أمام سلطة الوحش ذاتها.
والكراهية ذاتها،
ونفس نزعة الانتقام.
( مع أننا لسنا من يصغي لعلامات الإنذار المبكرة حتى بعد فوات الأوان كما دلت كل التجارب السابقة وكما ستدل كل التجارب اللاحقة).
لا تفصلنا الآن عن كارثة قادمة،
ومجزرة وشيكة،
ومذبحة كبرى،
غبر ساعات.
وفي هذه الفسحة الباقية من الأمل، هناك فرصة لنا وحدنا للتأمل، حتى في قلب هذه العتمة والليل واليأس.
من واجبنا ككتاب أن نقرع طبول الأمل.
أن ننذر،
أن نعلن للعالم،
إن بلدنا على وشك الزوال.
إن الوطن ينحدر نحو الهاوية.
والذين يقودونه إلى الصلب العلني هم تجمع وحوش تتناقض مصالحهم، حتى صار الوطن كغزال ممزق بين أنياب ضباع مفترسة وبين مخالب طيور وحشية.
هذه سلطة النمل.
وشعارها العلني:
( نجعل الدماء تسيل أنهارا في سبيل العراق).
والمقصود الكرسي.
أو:
( من يستلم العراق، يستلمه أرضا بلا شعب).
الغوريلا تركض في شوارع بغداد لتأكل أهلنا.
الغوريلا تستحم بالدم.
هل من فسحة للصلاة؟
هل من فسحة للأمل؟
هل من فرصة للتأمل؟
الأمل الوحيد الباقي هو أن ندفن موتانا وننهض.
الأمل الوحيد الباقي هو أن ندفن الوحشي فينا،
ألا نسمح مرة أخرى، لمجرمين جدد يحكموننا باسم مشنقة أخرى أو كذبة وردية أو لعبة سياسية مموهة.
أن نزرع الأمل والحب في قلوب الناجين من المحرقة.
ليس مطلوبا موت الدكتاتور فحسب، بل العقل الذي أنتجه.
الحاضنة،
والثقافة، والمناخ، والذهنية.
وكل الدلائل تشير على أن أكثر من دكتاتور في الطريق.
وعلينا ككتاب وشعراء وأدباء ومثقفين، أن نواصل طريق الأمل بالطرق الخاصة التي لا يعرفها غيرنا.
طرق الحرية.
طرق التغيير.
طرق تقود كلها إلى ثورة فكرية وثقافية.
طرق لا تمر بالثكنات،
ولا في صالونات عائلية،
ولا في قبائل سياسية جديدة.
وعلينا أن نجهز أنفسنا كي نكون معارضة منذ اليوم لكل نظام قادم، وفي أي زمان.
الوطن في الطريق إلى الهاوية.
ادفنوا موتاكم، وانهضوا.
ولندق أبواب الأمل
ولو بأعواد الثقاب !
19/آذار/2003