لماذا فاز وليم غولدنغ بجائزة نوبل
عن روايته (لورد الذباب) بالذات ؟!
عن روايته (لورد الذباب) بالذات ؟!
كتب: وليد محمد الشبيـبي
بغداد - 2008
بغداد - 2008
وليم غولدنغ (1911 - 1993)william golding
لربما يظل هذا السؤال يتردد عليك بإلحاح وأنت تطالع رواية (لورد الذباب Lord of the Flies) (1) للروائي البريطاني وليم غولدنغ (William Golding) (1911 – 1993) فاللغة هي نفسها لغة وليم غولدنغ في رواياته الأخرى مثل (السقوط الحر)، (الورثة)، (الإله العقرب)، وغيرها ، فلماذا فازت هذه بالذات ؟! التساؤل لا يقف عند هذا الحد بل تطرح المقارنة نفسها بداخلك وأنت تواصل المطالعة (ان السقوط الحر كان أهم وأخطر عمل روائي له على الأقل أهم منها فعجباً كيف فازت هذه ؟!) ، وتظل تلك التساؤلات تترى وتطغى على تفكيرك قبل ان تكتشف ما خبأه غولدنغ كلؤلؤة بين ركام الأصداف البخسة ، نعم .. سرعان ما تدخل الرواية في منحى جديد وخطير وانا أحسست بهذا وتذكرت رواية (الطاعون) لالبير كامو (1913 – 1960) وانا اطالعها (عام 1995) ، اتذكر اني عندما طالعت رواية (الغريب) لكامو التي فاز عنها بجائزة نوبل عام 1957 ، طالعت بعدها رواية (الطاعون) والتي شعرت بالملل والتفاصيل المتشابكة فيها حتى كدت أرميها ولكن تحولت الأحداث فجأة وتصاعدت فبدأت التهم الرواية التهاماً !! .. هذا ما يميز الروائيون الكبار عن غيرهم.
أعود لغولدنغ وأقول ما أن وصلت لأكتشاف هذه اللؤلؤة المخبأة بعناية وحرفنة وحذق من قبل غولدنغ حتى فهمت المغزى من إعادة كتابة رواية مشهورة ومعروفة للكاتب روبرت مايكيل بالانتاين (1825 – 1894) وهي رواية (جزيرة المرجان) رغم عدم بعد الفترة الزمنية بين العملين.
ففي الوقت الذي كتب الأخير روايته لتسلية الصغار لا غير، كان غولدنغ قد تناولها من منظار آخر وعالجها معالجة مختلفة، رغم الإبقاء على الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية (رالف) و(جاك) ، لكن هاتين الشخصيتين مختلفتين تماماً في العملين.
الرواية ببساطة تتحدث عن حصول حادث أدى إلى وصول العديد من الصبية والأطفال إلى جزيرة نائية وغير مأهولة ، وبعد ان يجتمع هؤلاء الأولاد والأطفال يتفقوا على العمل سوية لغرض العيش معاً والبقاء على قيد الحياة في هذه الجزيرة النائية وبنفس الوقت البدء بمحاولات الانقاذ على الجزيرة ، لعل سفينة ما تأتي وتعثر عليهم.
اذن ، وضعوا قوانين وقواعد الجزيرة لا يجوز خرقها وتم قبلها انتخاب الرئيس من بينهم بالتصويت ، فمنذ البداية تشعر بالتنافس بين (رالف – يبلغ من العمر 12 سنة وبضعة أشهر) (2) و(جاك ميريديو) على الزعامة، مَنْ سيكون زعيماً لهؤلاء الصبية والأطفال ؟ إلى ان يُجمع هؤلاء على أختيار رالف زعيماً لهم ، ولأسباب وجيهة طبعاً ، اذن انت تشعر بالبراءة كلها موجودة هنا فضلاً عن التنظيم ، وهم أطفال مدرسة بريطانيون ، فكيف لا يكونوا كذلك ؟! لكن ماذا يضمر لنا غولدنغ في النهاية ؟ ! ، الحقيقة منذ البداية يجلب أنتباهك صبي طريف وفكاهي (رغم انه لم يقصد ان يكون كذلك !) أقصد كان محط سخرية البقية (رغم انه كان اذكى هؤلاء !) بجسمه البدين ونظارته الطبية وصعوبة تنفسه ، بل حتى جبنه أو (حذره الزائد والدائم !) ، رغم انه كان اخطر الاطفال والصبية كما قلنا على هذه الجزيرة لنظرته الثاقبة ، حتى ان الزعيم رالف لكثرما كان يعتمد عليه بقصد أو دون قصد ؟! وتظهر أهمية هذا الصبي البدين جلياً في نهاية الرواية عندما يكون الزعيم رالف مطارداً وحده في الجزيرة من قبل البقية الذين انقلبوا عليه وأرادوا قتله ! ، فبعد مقتل خنّوص (الصبي البدين) بحادث مؤسف ، لم يجد رالف العقل المفكّر الذي ينقذه والبقية من الأزمات والمحن، (... كان أقصر من الولد الأشقر [رالف] وسميناً جداً. تقدم ، باحثاً عن موطيء آمن لقدميه ، ثم نظر إلى الأعلى خلال نظارة سميكة...)(3) (... وقف الولد السمين إلى جانبه [أي رالف] ، متنفساً بصعوبة. قال موضحاً :
- طلبت مني عمتي ألاّ أجري ، بسبب الأزمة (4)
- الأزمرة ؟
- نعم. لا أستطيع التقاط أنفاسي.
أستطرد وقد غشيت صوته رنة فخر:
- كنت الولد الوحيد في مدرستنا الذي يعاني من الأزمة، وأستعملت النظارة منذ كنت في الثالثة ... لن يهمني ما سيدعوني به طالما لن يدعوني بما أعتادوا أن يدعوني في المدرسة. كان رالف قليل الأهتمام.
- ماذا كانوا يدعونك ؟
ألقى الولد السمين نظرة سريعة من فوق كتفه، ثم مال بجسمه نحو رالف. همس: - أعتادوا أن يدعوني: (( خَنـُّوص )) . صاح رالف ضاحكاً. وقفز واقفاً
- خنوّص . خنوّص.
- رالف ، من فضلك (5).
أما رالف فهو (... كان قد بلغ السن الذي أفقده تكّور بطن الطفولة، أثنتي عشرة سنة وبضعة أشهر ، مع أنه لم يبلغ سن المراهقة الأمر الذي كان سيشعره بالأرتباك. يمكن أن ترى الآن أنه قد يصلح لأن يكون ملاكماً ، فكتفاه عريضان وثقيلان لكن رقة مرتسمة حول فمه وعينيه بيّنت أنه لم يكن شريراً...) يقول رالف لخنّوص بعد أن أنبهر الأخير بسبب مهارته في السباحة.. : (بدأت السباحة وأنا في الخامسة. علّمني أبي . أنه قائد في البحرية...) (6).
أما القوقعة (أو المحارة) التي أصبحت رمزاً مهماً وعنواناً لزعامة (رالف) على البقية وتفوقه على (جاك ميريديو) ، حيث (... كان شيء أصفر ينطرح بين الأعشاب الخنشارية... كانت القوقعة مثيرة للأهتمام ، جميلة ، ولعبة طريفة ، ... كان لون القوقعة عميق الصفرة كما تناثرت عليها هنا وهناك بقع وردية ، ذابلة. وأمتدت بين الحافة المشقوقة على شكل ثقب صغير وبين الشفاه الوردية الفوهات ثماني عشرة بوصة من صدفة ملتوية التواءً حلزونياً طفيفاً ومغطاة بنموذج من نقوش بارزة. هزّها رالف وأخرج الرمل من انبوبها العميق ...) (7). ثم يقترح خنّوص كعادته: (...
- رالف.
- رفع رالف نظره إلى الأعلى.
- نستطيع أستعمال هذه لاستدعاء الآخرين. لعقد الأجتماع. سيحضرون حين يسمعوننا) (8 ). ثم يقوم بتعليم رالف كيفية النفخ فيها .
اذن مجموعة من أطفال وصبية لا يتجاوز اكبرهم سن الأثنتي عشرة سنة وبضعة أشهر، في الجزيرة النائية، لا يعرفوا متى سينقذون ؟! وكيف ؟ اذن يجب التحرّك بسرعة بأتجاهين:
أولاً : البقاء على قيد الحياة والدفاع عن أنفسهم ضد الوحوش .
ثانياً : محاولة لفت أنتباه (العالم الخارجي) لهم عن طريق أشعال شعلة تكون دائمة الأشتعال في قمة الجزيرة كي يتم مشاهدتها لكل من يمر بجانب الجزيرة …
اذن الحياة بالجزيرة بحاجة إلى تنظيم وأنضباط ، ومنذ البداية تلاحظ التنافس بين رالف (الممثل للقانون ، التنظيم – الأسلوب والنهج السياسي) وجاك ميريديو (الممثل للقوة – الأسلوب والنهج العسكري) ، وهكذا طوال الرواية نجد الشد والجذب بينهما ، فبعد ان تم انتخاب رالف منذ البداية كزعيم لهم (الشرعية القانونية لزعامته) الا ا نجاك ميريديو (ومن معه – فريق الصيادين – القوة العسكرية)، كان دائم التذمر ويستهزيء بأساليب رالف المتحضرة والتزامه بالثوابت والقواعد السلوكية المتفق عليها !
وهكذا تجلَّت سياسة الزعيم رالف في أمرين هامين (أمتلاك المحارة للحديث) وهي بمثابة (صولجان الحكم) لمن يمتلكها (ودليل شرعية زعامته !) ، فمنذ البداية تم الأتفاق على وجوب أن يستأذن كل من يطلب الحديث منهم أمام الجميع وأن يتكلم من خلال هذه القوقعة (او المحارة) والشخص الذي يمتلك المحارة فقط من يحق له الكلام ولا يجوز مقاطعته ، الا اذا امتلك بدوره تلك المحارة ! ، والأمر الهام الآخر ، هو إبقاء النار مشتعلة حتى يُنقَذون متى ما ىمرّت باخرة أو سفينة ، وهكذا بالفعل مرّت سفينة في إحدى المرات فيما كانت الشعلة منطفأة ، وقد حمّل رالف مسؤولية ذلك لجاك ميريديو وفريق الصيادين ! لأنهم كانوا منشغلين بصيد الخنازير ، اذن الأصطدام كان لا بد منه ، وقد وقع ، هذا يتمسك بزعامته والمتآتية من شرعية الانتخاب وأمتلاك المحارة ، وذاك يؤكد على أمتلاكه القوة وأنه ورفاقه سبب بقائهم على قيد الحياة وعدم الاكتفاء بأكل الفواكه فقط ! عن طريق صيد الخنازير !
اذن وصلنا لمفترق الطرق ! ، الأصطدام المحتوم قد وقع ، في إحدى الاجتماعات أصطدم رالف بجاك ميريديو (ص 161 – 162)، حيث طالب جاك ميريديو بإقالة رالف من الزعامة وانتخابه بدلاً عنه ! لكنه أفق في إقناع البقية ، وهكذا أنشق وحده عن البقية وغادر إلى مكان آخر في الجزيرة وبمرور الوقت تسلل إليه البقية من رفاقه الصيادين وهكذا أنقسمت الجزيرة إلى معسكرين ، معسكر رالف الشرعي والذي يمثل النهج السياسية والقانوني والشرعية الديمقراطية (انتخاب رالف من البقية بالإجماع) (شريعة الحضارة)، ومعسكر جاك ميريديو والذي يمثل القوة (العسكرية) (الصيادين) و(شرعية) القوة والقهر والإجبار (شريعة الغاب) ! وهكذا تتسارع الأحداث بطريقة متواترة وتتصاعد فيتحول الصبية إلى مجرّد آلات منفّذة لإرادة الزعماء وبالذات في معسكر جاك ميريديو (الذين تحولوا تماماً الى قبيلة متوحشة ومجموعة من المحاربين ممن يصبعون اوججهم بألوان الحرب !) (خذ مثلاً قتلهم بالخطأ لسيمون المختل ظناً منهم بأنه الوحش في حفل ليلي جماعي وطقوس غريبة شارك فيها الجميع حتى رالف وخنّوص ، وحتى عند أكتشاف الخطأ الجسيم لم تبدُ إمارات الأسى والفجيعة لدى الصبية لمقتل سيمون المأساوي هذا والذي كان يريد أخبارهم بأمر خطير والاكتشاف بأن الوحش المرعب للجميع إن هو إلا جثة معلقة كفزاعة بانت جمجمتها ؟! فلم يمهله الجميع وقتل قبل ان يبوح بتلك الحقيقة !) بعد ذلك ، نرى موت خنوّص البدين (العقل المفكر ومحط سخرية الجميع !) لسقوط صخرة ضخمة فجأة عليه من الأعلى فهشّمت جمجمته وأخذته معها إلى قاع البحر وتهشّم المحارة معه ايضاً (صولجان الحكم – رمز الشرعية والقانون ودليل زعامة رالف على البقية)، ليس هذا فحسب بل أصبح أسلوب معسكر جاك ميريديو هو الطاغي في الجزيرة ، فليست هناك وسيلة لأشعال النار إلا بسرقة نظارات خنوّص الطبية ذو العين الواحدة (التي سبق ان تسبب جاك ميريديو في كسرها !) ، وهكذا أغار جاك ميريديو ورفاقه ليلاً بعد أن صبغوا وجوههم بألوان الحرب على معسكر رالف وسرقوا النظارة الاحادية المتبقية غير آبهين كونها ضرورية جدا لخنوّص الذي لا يرى بدونها الا بصعوبة بالغة ! ، الأمر الذي جعل أفراد معسكر رالف يتسللون واحداً تلو الآخر إلى (القبيلة المتوحشة) التي يترأسها جاك ميريديو ورفيقه المتوحش روجير والذي (اي معسكر جاك) يمتلك ما لا يمتلكه معسكر رالف وهو حفل شواء اللحم لقدرتهم على اصطياد الخنازير وهذا الاغراء لم تخلص منه حتى الزعيم رالف نفسه ، اذن بقي في معسكر رالف (الممثل للشرعية) فقط خنّوص والتوأمان سام وأيريك وعندما قتل خنّوص وتهشمت المحارة (فقدانه للعقل المفكر ودليل زعامته الشرعية بوقت واحد !) ، أسر التوأمان سام وايريك بعد ان هاجمت القبيلة المتوحشة الزعيم رالف بالرماح بغية قتله قبل ان يهرب ! ، اجبر التوأمان سام وايريك على الانضمام لمعسكر جاك ميريديو ، وهكذا بقي الزعيم رالف لوحده ومطارداً من قبل الجميع رغم انه كان (ولم يزل) زعيمهم الشرعي (وهكذا انتصرت شريعة الغاب في هذه الجزيرة على شرعة القانون والحضارة وتحول الصبية والاطفال البريطانيين ذوو المدارس البريطانية النظامية الصارمة إلى مجموعة أفراد متوحشين في قبيلة متوحشة !).
لاحظوا كيف تغيّرت الأحوال ! فرغم ان غولدنغ لم يشر إلى الفترة التي قضاها الصبية والاطفال في تلك الجزيرة الا اننا يمكن ان نقدّرها بحوالي 4 اشهر إلى 6 أشهر ، الشيء الخطير الذي أشار له المؤلف ، هو أن الظروف والبيئة تلعب دوراً في تحديد السلوك والتصّرف وتوجيهه إذا جاز التعبير، فها هم (الصبية البريطانيون) الذين تربوا في مدارس بريطانية نظامية مشهورة بتقاليدها العريقة في الانضباط والتقاليد ، قد انجرفوا في المكان الجديد والبيئة الجديدة والظروف الجديدة ! وتحت ضغط متطلبات الحياة القاسية هنا وغريزة البقاء ، وأصبحوا يتصّرفون شيئاً فشيئاً كما تتصرف القبائل البدائية المتوحشة التي تعيش في بيئة وظروف متشابهة !! (غولدنغ يشير بذلك إلى ان الطبع يغلب التطبَّع – وبذلك فهو مصّر علىفلسفته الشهيرة التي آمن بها طوال حياته وظهرت جلياً في جميع أعماله الأدبية وهي: الإنسان ينتج الشر كما تنتج النحلة العسل) ؟! ، وهنا رغم التربية الانكَليزية والمدارس الانكَليزية والأهم من كل ذلك ، أعمارهم الصغيرة المترعة بالبراءة ، كل تلك لم تكبح هذا التغيير وهذه الوحشية التي وصلوا إليها فتبدأ مطاردتهم الجماعية لزعيمهم الشرعي رالف بغية قتله ؟! وهذا ما علمه من التوأمين سام وايريك اللذان أصبحا في قبيلة جاك ميريديو المتوحشة وساعداه على الافلات من قبضة أفراد (قبيلة المتوحشين المصبوغي الأوجه !) ، فها هو سام يرمي لرالف بقطعة لحم كبيرة رغم ان أفراد القبيلة ستطارده يوم غد المطاردة الأخيرة وللتخلّص منه نهائياً وإلى الأبد !! (التخلص نهائيا من الشرعية القانونية وشرعة الحضارة هنا وإلى الأبد !)، وهكذا بدأت المطاردة الأخيرة من الكل ضد الزعيم الشرعي لهم (وفق آلية الحضارة وشرعية الانتخاب !) الكل يطالب برأس الزعيم الآن ! ، كان أفراد القبيلة المتوحشين مصممين على القبض عليه وقتله مهما كلَّف الأمر ! وهكذا أتبعوا للايقاع به ، سياسة الأرض المحروقة لاخراجه من الاماكن التي يختبيء فيها ! غير آبهين لمصيرهم نفسه ؟! لان حرق الجزيرة يعني الهلاك بالنسبة للجميع ، حاصروه .. طاردوه .. أوشكوا على الايقاع به .. أحرقوا الجزيرة في الجانب الذي يختبيء فيه رالف .. وشيئاً فشيئاً أشتعلت الجزيرة وأصبحت كتلة من اللهيب ! حوصر رالف ولم يعد أمامه مهرب .. ركض ركضته الأخيرة والنار تكاد تلتهمه ! .. ركض .. ركض .. والجميع مهووسين بحب القتل والانتقام والمطاردة المجنونة والصراخ الجنوني .. فوقع الزعيم رالف منتظراً الموت .. وما هي الا لحظات وتكون النهاية المحتومة على ايدي هؤلاء المتوحشين (الذين كانوا بالأمس مجرد اطفال بريطانيين ابرياء !) وهكذا نطالع خاتمة الرواية بمفاجأة ! ..
(... تعثّر بجذر وعلت الصرخة التي كانت تطارده إلى درجة أعلى من السابق. رأى مأوى تنفجر فيه ألسنة اللهب وخبطت النار كتفه الأيمن وكان هناك تلألؤ ماء. ثم سقط ، متدحرجاً حول نفسه في الرمل الدافئ وقرفص رافعاً ذراعاً إلى الأعلى ليصدَّ ضربةً محاولاً إطلاق صرخة طالباً الرحمة.
تمايل ليقف على قدميه ، متوتراً من شدة الرعب ، ورفع نظره إلى الأعلى إلى طاقية ضخمة مستدقة . كانت طاقية عالية بيضاء وفوق ظل حافتها المستدقة الأخضر ألتصق تاج ، ومرساة وخضرة ذهبية. رأى زياً من نسيج قطني أبيض ، كتفية (9)، مسدس ، صف أزرار مذهبة أسفل مقدمة الزي.
وقف ضابط البحرية على الرمل وهو ينظر إلى الأسفل إلى رالف بدهشة حذرة. وعلى الشاطيء خلفه ، رسا زورق سفينة حربية رفع مجدافاه الأماميان عالياً وقد أمسك بهما بحاران. وفي مؤخرة الزورق أمسك جنديّ آخر ببندقية رشاشة.
خفت الزعيق. ثم خمد تماماً.
نظر الضابط إلى رالف نظرة شك لحظة من الزمن ، ثم أبعد يده عن عقب مسدسه.
-مرحباً .
أجاب رالف بخجل ، مرتعشاً قليلاً وواعياً مظهره القذر.
-مرحباً .
أومأ الضابط كما لو كان قد أجيب عن سؤال.
-هل هناك أي أشخاص بالغين – أي أشخاص بالغين معكم ؟
بصمت ، هز رالف رأسه . استدار نصف استدارة على الرمل. وقف أولاد صغار مكونين نصف دائرة وأجسامهم مخططة بلون الصلصال وفي ايديهم عصي حادة الأطراف ، ولم تصدر عنهم أية ضجة .
قال الضابط:
-لعب ولهو .
وصلت النار إلى أشجار جوز الهند قرب الشاطئ والتهمتها مصدرة ضجة صاخبة . تأرجح لهب ، بدا منفصلاًَ عن بقية النيران ، كلاعب بهلوان ولعق رؤوس النخيل على الرصيف . كانت السماء سوداء .
أبتسم الضابط ابتسامة عريضة مرحة وجهها إلى رالف .
-رأينا دخانكم . ماذا كنتم تفعلون ؟ حرب أو شيء من هذا القبيل .
أومأ رالف برأسه.
عاين الضابط الَفزَّاعة الصغيرة التي تنتصب أمامه . يحتاج الولد إلى حمام ، وقص شعر ، ومسح أنف وطليهِ بكمية كبيرة من المرهم .
-لم يُقتل أحد ، على ما آمل ؟ هل توجد جثث ؟
-جثتان فقط ؟ وقد أختفتا .
أنحنى الضابط إلى الأسفل ونظر محدقاً في رالف .
-أثنان ؟ ُقتلا ؟
أومأ رالف برأسه مرة أخرى . ووراءه ، كانت الجزيرة كلها ترتعد واللهب يلتهمها . يعرف الضابط ، كقاعدة عامة ، متى يقول الناس الحق . أطلق صفيراً خافتاً.
أخذ الأولاد الآخرون بالظهور الآن ، كان بعضهم أطفالاً دقيقي الحجم ، سمر البشرة ، لهم بطون متوحشين صغار منتفخة. أقترب أحدهم من الضابط ورفع نظره إلى الأعلى.
-أنا ، أنا –
لم يعد يصل أشخاص آخرون . بحث بيرسيفال ديميس ماديسون في رأسه عن تعويذة بهتت صورتها وأختفت.
التفت الضابط إلى رالف :
-سنأخذكم . كم عددكم ؟
هز رالف رأسه . نقل الضابط نظرم منه إلى مجموعة الأولاد المصبوغين.
-من الرئيس هنا ؟
قال رالف بصوت عال:
-أنا .
تقدم ولد صغير ، يعتمر ما بقي من طاقية سوداء على رأسه الأحمر ويثبت ما بقي من نظارة على خصره، تقدم إلى الأمام ثم غَّير رأيه ووقف ساكناً.
-رأينا دخانكم . وأنتم لا تعرفون عددكم هنا ؟
-لا يا سيدي .
قال الضابط وهو يتخيل البحث الذي يتوقع أن يجري فيما بعد .
-كنت أظن ! كنت أظن أن مجموعة من الأولاد البريطانيين – أنتم كلكم بريطانيون ، أليس كذلك ؟ - لا بد أن تظهروا بمظهر أفضل من – أعني –
قال رالف:
-كان الأمر على هذا النحو في البداية ، قبل أن تتغير الأمور –
توقف.
-كنا متكاتفين ثم –
أومأ الضابط مشجعاً :
-أعرف عرض جميل جداً . مثل جزيرة المرجان.
نظر إليه رالف بصمت. وللحظة من الزمن مرت في مخيلته صورة سريعة للبهاء الغريب الذي كان يكتنف الشواطئ في وقت من الأوقات .
لكن الجزيرة أحترقت الآن وأصبحت مثل غابة ميتة – سيمون – مات – وجاك أصبح ... أخذت الدموع تنهمر من عينيه وهزّه نشيج . لقد أستسلم لأول مرة في الجزيرة لنوبات حزن عميقة مرعشة بدت بأنها تلوي جسمه كله. أرتفع صوته تحت الدخان الأسود أمام حطام الجزيرة المحترق ، وبعد أن أصابت الأولاد الآخرين عدوى ذلك الأنفعال العاطفي، بدأوا يهتزون وينشجون . وبكى رالف ، وهو في وسطهم بجسمه القذر وشعره المجدول وأنفه السائل ، بكى حزناً على نهـايـة البـــراءة ، على ظـلام قلـب الإنسـان ، وعلى سقوط صديق صدوق حكيم ، يدعى خنّوص ، في الهواء.
تأثر الضابط ، وقد أحاطت به هذه الأصوات ، وأحس بأرتباك طفيف. أستدار وأبتعد عنهم ليتيح لهم الوقت حتى يتمالكوا أنفسهم ، وأنتظر ، مجيلاً عينيه حتى أستقرتا على الطرّاد الجميل الذي يرسو بعيداً.) (10).
اذن ، لقد فقدوا البراءة ! .. فقدوا براءتهم وإلى الأبد ! .. لم يعودوا أطفالاً بعد ! سيعودون إلى حياتهم العادية الرتيبة .. سيعودون الى بيوتهم .. مدارسهم .. وهم صبية .. وأطفال .. سيعود كل شيء كما كان سابقاً .. لكنهم الآن .. بدون براءة ! .. لقد فقدوها .. فقدوا البراءة .. وإلى الأبد !
وهنا تتجلّى روعة وعبقرية غولدنغ في هذا العمل الأدبي الرائع . ونجد الإجابة أخيراً ، لماذا فازت هذه الرواية بالذات بجائزة نوبل للآداب !
عدل سابقا من قبل وليد محمد الشبيبي في الجمعة 14 مايو 2010, 2:58 am عدل 3 مرات