حسن البطران
ونزف من تحت الرمال
بقلم / حسن الشيخ *
يثار الكثير من الجدل ،حول هوية القصة القصيرة جدا ، ومقارنتها بقصيدة النثر . ونعتقد ان القصة القصيرة جدا ، يمكن تمييزها عن جنس قصيدة النثر ، بخصلتين : الحكائية و القصر . و تبقى القصة القصيرة ( الأقصوصة ) في مقدرتها على التكثيف الإبداعي ، و تفجير لحظة الوعي عند المتلقي ، بمهارة أسلوبية عالية . فلا كل حكاية ، يمكن أن تندرج في إطار فن القصة القصيرة جدا . فهناك العديد من محاولات التجريب ، التي لا يمكن ان ندرجها تحت هذا المسمى . و هناك الكثير من محاولات كتابة القصيدة النثرية ، التي لا يمكن أن ندرجها تحت هذا المسمى أيضا .
الزميل القاص حسن البطران ، أهداني مجموعته القصصية ( نزف من تحت الرمال ) منذ مدة طويلة ، و قرأتها ، و استبطأ كتابتي عنها لمدة أطول . ولعل السبب في ترددي يكمن في مفهومي الشخصي ( للأقصوصة ) ، وتذوقي الخاص بقراءة نصوصها . وطالما إنني لا اكتب نقدا علميا عن الأقصوصة ، وإنما اكتب قراءة انطباعية ، لها بعدها الوجداني . خشيت من غضب زميلنا القاص البطران ، ان كتبت شيئا لا يرضيه .
و الحقيقة ان ذوقي الخاص على مجموعته القصصية ، ليس حكما نقديا على مهارته الإبداعية . وخاصة أن القاص البطران استحوذ على هامش نقدي كبير ، جعله في مقدمة كاتبي القصة القصيرة جدا ، على الساحة الأدبية المحلية . وليس بحاجة إلى شهادة مرور مني إلى عالم الأقصوصة .
ورغم كل ذلك ، فقد قرأت مجموعته القصصية ، واستمتعت بها ، وأظهرت كتابته القصصية العديد من جوانب قدراته الإبداعية في هذا الفن الجميل . وخاصة في مجموعة كبيرة من القصص أمثال ( رائحة العلقم ) ، ( رجولة ) ، ( جرح ) ، ( غفلة ) ، ( ندى وقت الظهيرة ) وغيرها من القصص الجميلة الأخرى ، الذي يعتمد القاص فيها على مهارته في تفجير لحظة الوعي في كلمات القصة الأخيرة . و بالمقابل هناك العديد من القصص التي اعتمدت على عنصر المقابلة في ثنايا السرد ، وعنصر المفاجأة في ختام السرد ، بها الكثير من المهنية الإبداعية .
كما اعتمد القاص حسن البطران كثيرا على أسلوب ( النهايات المفتوحة ) كأحد تقنيات كتابة القصة القصيرة جدا . هذا الأسلوب الذي يترك للقارئ مساحة من المشاركة و التخيل لإكمال فكرة القاص . و تقنية النهايات المفتوحة ، تستخدم في السرد الروائي ، و القصة القصيرة ، بعد ان يعيش القارئ أجواء النص ، و يتقمص ادوار شخصياته ، و يكتسب – من داخل النص السردي – مهارة توقع ردود فعل الشخوص ، و يتعرف على إيقاعات البعد الزماني للنص ، وملامح المكان . إلا انه في فن الأقصوصة ، والتي لا يتجاوز طول سردها بضعة اسطر ، أو بضع كلمات أحيانا ، لا تمكن القارئ – مهما بلغ من الذكاء – من التعرف على كل ذلك .
بل ان الأقصوصة عند حسن البطران – كما هو الحال عند غيره – مجردة من الشخوص . فلا وجود لشخصيات حقيقية لها ملامحها ، التي يسهل التعرف عليها . بل إنها شخصيات وهمية ، بلا اسم ولا أعمار ولا هوية . كما ان تلك الشخوص – بحكم طبيعة طول الأقصوصة - بلا أفعال متكررة ، فالقارئ يعيش فعل وحيد ، حدث بسيط ، خاص بالأقصوصة فقط . ولا يستطيع القارئ ان يميز هوية محددة ، ولا رسم محدد ، ولا عمر ، ولا اسم لتلك الشخوص المحتشدة في تلك النصوص .. أما الزمان و المكان فلا وجود لهما في معظم النصوص القصيرة جدا . وبذلك تفتقد القصة القصيرة جدا للحميمية ، التي توفرها الرواية ، أو القصة القصيرة . وتلك ليست عيوبا فنية عند القاص البطران . بل ان تقنيات كتابة الأقصوصة القصيرة جدا ، لا تمكن القاص من تسمية الشخوص ، ورسم ملامحهم ، ورصد أفعالهم ، و خلق زمان ومكان سردي لهم . ولم تم ذلك لتحولت الأقصوصة إلى قصة من بضع صفحات . ولتحولت القصة إلى رواية من عشرات الصفحات .
لا أظن أن القارئ قادر على تشخيص مهارة كتابة القصة عند المبدع . فالأمر بحاجة إلى ناقد حصيف . لان القاص قادر على خداع القارئ عندما يكتب قصة ، ولكنه لا يستطيع ان يخادع القارئ عندما يكتب رواية . فالقاص يستطيع أن يحاجج القارئ ، بأنه يكتب بتكثيف إبداعي ، قصة من بضع صفحات . لا تستدعي من القاص رسم شخوص عدة ، والإفصاح عن هويتها بدقة ، و توظيف أكثر من حدث بسيط ، يخدم لحظة الوعي الإبداعية . كذلك الزمان و المكان ،فهما اختياريان ، طبقا للحدث السردي العابر في القصة . أما الرواية فهي على العكس تماما . الرواية عمل هندسي شاق ، ودقيق ، لا يستطيع الروائي خداع القارئ بسهولة . وإذا كان كل ذلك هو فن السرد القصصي والروائي ، فان الأمر في الأقصوصة اقل التزما بكل ذلك . حتى ان البعض من النقاد راح يقارن بينها وبين قصيدة النثر . فكل قصيدة نثر بها حكاية ، هي أقصوصة . وكل أقصوصة بها إيقاع موسيقي أو داخلي هي في نهاية المطاف قصيدة .
ولعل الأصعب على القارئ ، ان يكتب القاص بضع كلمات ، ويطلب من القارئ ان يتخيل ، نهاية مغلقة ، لنهايات القصص القصيرة جدا المفتوحة . أما الكم الهائل من النصوص – في مجموعة واحدة - القصيرة جدا ، يجعل القارئ يلهث ، ويتخيل ، و يقفز من نص لآخر .
وطالما إنني اكتب عن الأقصوصة لا عن القاص حسن البطران . وطالما إنني اكتب بصفتي قارئا لا ناقدا ، فلا بد من الإشارة إلى ما كتبه الناقد الدكتور جميل حمداوي عن ( خصائص القصة القصيرة جدا عند القاص حسن البطران ) الذي شخّص مهارات القاص الإبداعية بمهنية نقدية عالية . وبالطبع فإن شهادة حمداوي القادمة من المغرب ، لا يمكن أن تكون مجروحة ، كما لو شهدت أنا في حقه .
* كاتب وقاص من السعودية
Shaikh31141@hotmail.com