لأنها انتظرت ..
اخترق رنين الهاتف ذهولها المفرط ، وأيقظت نغمته سكون جسدها كي تفز وسط ارتعاب فؤادها الذي لم يهدأ حتى تيقنت إنها ستلتقيه غدا ،هكذا أخبرتها صديقتها ، انه عائد غدا إلى البلاد ، ولذلك لم تستوعب نهاية صمتها وحزنها ، حيث أخذت تعزف في أعماقها دهشة الفرح ، وتترنم بلحن نشوتها المبعدة منذ سنين ..
بلعت ريقها بتلاحق .. ثم أسرعت نحو غرفتها ، وما أن أغلقت الباب .. حتى توجهت نحو المرآة ، لتسجل ضمن حسرتها بعض التجاعيد التي تجمعت في أطراف عينيها ، فراحت تتحسس وجهها و تتفقد في جوانبه ثمان وثلاثين سنة ..
أين كنت ؟ هكذا بدأت تخاطب شبحه المتجسد خلف صورتها في المرآة .. واتخذت من صمته فرصة استئثار لتنال فيها مراسيم عتاب ، وهي توسد كلماتها ضريح حلم لم تبدأ تباشير ولادته بعد ..
ثم توجهت نحو خزانة الملابس .. لتغمر جسدها النحيل وسط خطاب الألوان ، وتودعه أحضان الثياب ، وحينما لم تجد ما يشبع تمرد ذوقها .. وتقرفصت فوق سريرها ، ولم تدر ما تصنع ؟
أوقفت حركتها المضطربة وتوجهت نحو السكون ، وأرادت استرجاع بعض من خزائن الذاكرة حيث موطن صورته ، فانغمست في شغف الذكريات .. مرحهما .. والابتسامات ، وحتى توقه للانقضاض على خديها ، لا تدري لم حرمته من أمنيته حينذاك ؟ .. آآه .. أذا ستكون هديتها له عند اللقاء .. قبلة يرضاها .
ومتى يفر الليل من هيمنة الفجر ، كي تسطو على مزامير غدوها فتسرق كل هبات الجمال في صباح باكر ، اقتربت من نافذة غرفتها ، لتدنو من سقف الحلم وأغمضت عينيها بهدوء واستنشقت عبيرا مرافقا لنداءاته الخفية ، ترى هل لا زال على شوقه ؟ ابتسمت وهي تلوك بفمها جملا عصية من الاستفهام بلا إجابات ، وغمرت روحها بهطول غيثه السابق ..
ما أطول الليلة ؟ حيث مازال الوشاح الأسود يقلد هيبة السماء وهي تبصر طول الانتظار نحو الغبش المرتجى ، هبات نسيم باردة تقرع رقة ما ظهر من جسدها فتحيل في أعماقها بعض ارتجاف إلى شوق دافئ ، ولم يكتمل عند النافذة أي دوران للزمن ، حيث تعلقت الساعات جامدة على قمتها لا حراك ، صار الوقت مقيد الحوافر .. وهو الذي هزم بركلاته ثمان وثلاثين عاما ، تعطل الليلة عن القفز ، تراه قد هرم ؟ فركت يدها بالأخرى وهي تريد أن تهزم بداخلها شبحا جديدا تمثل بقلق مجهول .. لا تدرك كنهه ولا تعرف مصدره ، وراحت تجوب أرجاء غرفتها بحثا عن إيقاعات توازي رقاص ساعة الجدار المعلقة ، لعله الزمن ما يوقد بداخلها جذوة نشوب القلق !! أو انه انتظار اللحظة الموعودة ، تبسمت في داخلها تريد قهر الصمت الخفي في أعماقها ، وتصنعت بمزيد من الفرح والسرور ، أليس غدا هو حلمها الموعود ؟
أجهدها الأرق .. وان قارب الفجر بالحلول ، فارتجفت أطرافها ، حيث صار جسدها نهبا للسعات البرد ، ولذلك أغلقت النافذة بعد أن قلبت ببصرها صفحات الكون بحثا عن خيوط الفجر ، وتراجعت نحو سريرها ، ولكي تقضي الوقت ركزت ببصرها نحو السقف وبدأت بسرد حكايتها ، منذ لحظة عشقه لها ، حتى مغادرته البلاد ، عاهدها أن يعود لها ، وكيف كانت لا تبالي به وبوعوده ، وكيف أدركت أنها كانت تعشقه حينما خلا مكانه ، فآثرت انتظاره ..
أغمضت عينيها رغبة في إدراك صورته منذ خمسة عشر عاما .. وكانت لحظة سهاد ووسن ، ثملت روحها وهي تتوسد بساط ريح ، يحدوها شبحه نحو أحلام قابعة في أقصى العمر ، طربت ، وغنت ، وترنمت ، وصارت قاب قوسين أو أدنى من انعتاقها ، فقعدت على حافة البساط وطار بها .. بعيدا ، دون أن تعي حجم البعد . لا تهبط في أي جنة ، ولا ترضى النزول بأي عدن ، تسابق أجنحة الطيور ، وعن بعد .. نوارس تبكي .. وهل في الجنة بكاء ؟ و طرقات خلف الباب ، انتفضت مرعوبة ، حيث تسللت أشعة الشمس لتغزو أرجاء غرفتها فتشبعها ضوءا ..
سارت نحو المطار .. ولا يفارقها نحيب النوارس ، بينما شخصت بصرها نحو الصور المتحركة عبر نافذة السيارة ، حيث تتقطع في رأسها مضامين أملها عندما يلتقيان ، تراجعت نحو الخلف وهي تجر شهيقها بتثاقل شديد كما لو كادت خنق توقعاتها ، كيف شكله .. وصورته .. وضحكته .. غمرت خيالها ببعض أحلامها ، وانطلقت تسبح في فضاءات أفكارها ، دون توقف حتى أذن لها السائق بالخروج من السيارة حيث المطار ..
تعثرت في الباب .. وكادت تسقط من رأسها لذة اللقاء ، فاسترجعت قواها ، وشمخت بقامتها ، وولجت هناك
ها . انه يجلس على تلك الطاولة في مطعم المطار ، لم يرها حتى الآن ، ولكن كيف ستقابله ؟ توقفت قليلا خلف الزجاج تستحضر لهفتها ، وترقب منظره عن كثب ، عدلت هيئتها وتلمست خديها ، ثم عاودت النظر إليه ، انه هو ، شعره ، ولونه ، وحركة يديه ، وقبل أن تبدأ بشحذ همتها للقدوم نحوه ، اقتربت منه سيدة تحمل صغيرا ، نهض من مكانه ، ليحمل الصغير ووضعا يد بيد وخرجا ..