لحظة من صقيع..
الصباح كان أحد الأغطية التي التحفت بها روحك و أنت تشدّين الرحال إلى ثنايا صوته في الهاتف محاولة فكّ شفرة الألم الذي بدا حريقا سيأتي على كلّ الذكريات و الأحلام.
وصلت أخيرا كما طلب منك إلى ذلك المكان المسكون بفجائع الماضي تحيطه شجرة الياسمين ببعض حنانها. جلست إلى تلك المائدة التي طالما اجتمعتما حولها و ضحكتما بعفوية و بتلقائية قلتما كلّ الأشياء و بصوت عال.
اليوم لا يمكنكما فعل ذلك على الأقل الضحك مؤجّل ، لا مجال سوى لتأمّل هذه اللحظة الهاربة من اعترافكما بأنّ الجليد اكتسح عواطفكما و أنهى انتماءكما لعاطفة اسمها الحبّ. كان صدره يعجّ ٌ بكلمات لم يفصح عنها لسانه لكنّها تطايرت من عينيه دمعة و نظرات ثقبت الجدار المقابل.
حاولت الاحتماء بيديك متراجعة إلى الخلف حتى كاد كرسيّك أن يقع، متخيّلة موجة من بحره هاجت و امتدّت لتصفعك ، لتغمرك ، لتحتويك ربّما لآخر مرّة ، لكن لا بدّ من مقاومتها فالغرق كان الحالة المؤكّدة في تلك اللّحظة .
كانت نظراته تثقب الجدار و نظراتك تثقب روحه حتى أنّك وجدت لصفير الريح صدى داخلها ، كانت تنهيدات صمّت أذنيك . تمنّيت لحظتها لو أفرغ كلّ ما في جعبته فتباعدكما كلّ هذه المدّة كان كفيلا بإعطائكما فرصة لاتّخاذ القرار.
اتّصاله الهاتفي بك و دعوته لك للحضور مؤشران على وصوله لقرار أنت نفسك لا تعرفين لماذا أردته أن يتّخذه نيابة عنك.
لأوّلّ مرّة في حياتك تفقدين القدرة على اتّخاذ القرار و أنت من تدير مؤسّسة كبيرة بدقّة ، حاسمة في قراراتك ، حازمة في رأيك ، اليوم يتهاوى كلّ هذا أمام الأنثى الذبيحة فيك و تحتاجين أن يأخذ هو القرار نيابة عنك .
نظراتك هذه المرّة مسحت شجرة الياسمين التي طالما ظلّلت أحلامكما و احتوت لحظات الجنون فيكما ..كنت ترينها تستمتع بمنظركما ترتشفان شاي المساء تحت ظلّها ، اليوم ما بالها تشيح بوجهها عنكما. انتابك إحساس بأنّ البحر ملأ المكان وهي الآن وحيدة في جزيرة معزولة عنكما ، أو أنّكما انعزلتما في جزيرة خبّأها لكما القدر و قادتكما إليها سفينة هذه اللّحظة من صقيع . كان ما يزال يحاول الاستنجاد بفنجان القهوة ليفسح له المجال لحديث أرهقه.
الفنجان كان ملّ من انتظاره ، انفلت من يده التي مدّها اليك ، و اندلقت القهوة ، فزعت أنت و ارتبك هو ..بدأ يبحث عن عبارات يعتذر بها و كأنّه الاعتذار الوحيد الملزم بتقديمه لك لتلتقي نظراتكما و تخترقا الصّمت.
هو أراد أن يسمعك لكنّك بادرته بقولك:
_ أنا هنا لأسمع قرارك.
_ نجوى ، أنت تعرفين مقدار حبّي لك ، لا يمكنني تصوّر حياتي بدونك ، لكنّني أريد أطفالا.
_ و الحل في رأيك؟
_ نجوى ..أنا قرّرت الزواج مرّة ثانية و الاختيار الآن لك إمّا أن تقبلي بالوضع أو..
كان البحر حينها يزداد اتّساعا ، لم تعد ترى الجزيرة ، لم يعد لشجرة الياسمين أثر.
بقلم : جميلة طلباوي