جمال النساء
جمال النساء واختلاف الرأي فيه حسب الشعوب والعصور
هل فكرت مرة في ماهية الجمال؟ وهل خطر لك أن تساءلت عن السبب الذي من أجله ترى هذه المرأة جميلة وتلك غير ذلك أو متوسطة أو عديمة التأثير في نفسك؟
اجلس يوماً وحلل أحكامك على النساء اللواتي تعرفهن وانظر في الدواعي التي تحملك على إصدار تلك الأحكام. لا ريب أن الأمر يلتبس عليك بعد استقصائه، وقد يتعذر عليك أن تستخرج قاعدة أو قانوناُ تعتمد عليه في تعليل أحكامك.
وإذا أخذت أحكام أصدقائك ومعارفك بهذا الشأن في الإعتبار، لا تلبث أن تزادا التباساً في أمرك إذ تجد التباين عظيماً بين تلك الأحكام بل قد تكون متضادة متناقضة. فقد يعجب زيد بجمال سلمى ويراها مستوفية لشروط الجمال كافة، في حين يراها عمرو على غير هذه الصورة وبغير عينيّ زيد.
وإذا قارنت آراء أهل البيئة التي تعيش فيها بآراء القاطنين في بيئات أخرى ازددت غموضاً في حقيقة الجمال وكنهه وشروطه وعناصره، إذ ترى كل طبقة ذات ذوق خاص في هذا الشأن كما تجد لكل شعب أحكاماً تختلف عن أحكام سواه.
وهذا ينطبق أيضاً على العصور المختلفة، إذ لكل عصر أميالٌ ومعايير خاصة. فلأهل الجيل الماضي آراء وأحكام في الجمال تختلف عن آراء أهل هذا الجيل وأحكامهم.
خلاصة ما تقدم أن الجمال في الغالب أمرٌ نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان وتباين الأذواق والأميال. بل أن الشخص الواحد قد يتغير ذوقه مع انتقاله من دور إلى دور.
ولا يبرح من الذهن أننا عندما نحكم على امرأة بكونها جميلة... نفعل ذلك تحت تأثيرين: تأثير شخصية المرأة وتأثير مظهرها الخارجي من لباس وهندام وزينة وغيره. وبعبارة أخرى الجمال نوعان: جمال أساسي وجمال إضافي (جمال فطري وجمال مكتسب).
قد يظن القارئ أنه ليس للمحسّنات الصناعية (أدوات الزينة) شأن في حكمه على النساء ولكن الحقيقة هي أن لها شأناً كبيراً ولا سيما في هذا العصر بما فيه من انتشار تلك الوسائل بين جميع الطبقات من أدناها إلى أرقاها. بل يكفي أن نراجع في أذهاننا بعض الأزياء التي كانت شائعة... فقد نجدها قبيحة بالنسبة إلى الأزياء التي نألفها اليوم؛ وربما كنا آنذاك نستحسن تلك الأزياء ونعجب بها.
أما ميل أحدنا إلى نوع خاص من الجمال فيتعذر تعليله من حيث الأخذ في الاعتبار الملامح ومطابقتها لقواعد أو قوانين معينة. فقد نحدد شروطاً نظنها ضرورية للجمال كالملامح والتكوين... وتناسبها وشكل العينين ولونهما إلخ.. فإذا رأينا امرأة مستوفية لتلك الشروط تعذر علينا أن نصفها بالجمال. وقد نرى امرأة غير مستوفية لبعضها فلا نتردد في الإعجاب بها. فما ذلك إلا لأن الجمال يأبى التقيد بقاعدة أو قانون، ولأن غاية الجمال إنما هي التأثير المعنوي. فالجمال الحقيقي إنما هو عامل غير محسوس.. هو كامل في نفس الشخص، في السيال الروحي الذي ينبعث من ملامحه، لا في طول فمه وأنفه أو حجم عينيه وأذنيه أو نحو ذلك. فالشخصية تنفخ في الملامح روحها وتجعلها ذات معنى وتأثير نفسي.
وقد علل أحد علماء النفس منشأ الميل الذي قد نشعر به فجأة نحو شخص لم نره من قبل، بقوله أن الإنسان تمر عليه في كل يوم صور وحوادث يختزنها في دماغه وهو لا يشعر، أو بالأحرى يكوّن في مخيلته من تلك الصور والحوادث صورة خيالية لامرأة تجتمع فيها الصفات التي يستحسنها، يحدث ذلك في نفسه من دون إعمال الفكر وتظل تلك الصورة تنمو وتتكامل في ذهنه فإذا وفق إلى من كان مطابقاً لها شعر لساعته بلهيب الحب. وقد تتفاوت أحكامه على السيدات والفتيات من حيث الجمال حسب قربهن من الصورة المُثلى أو بعدهن عنها.
من ذلك يتبين لنا التأثير الخفي الذي للبيئة في أحكام الإنسان. ومنه ندرك أيضا بعض السبب في كون أهل الجيل الواحد يختلفون ذوقاً في هذا الشأن عن أهل جيل آخر، كالفرق في الذوق بين النشء الجديد والمتقدمين في السن من أهل هذا الزمن.
ومما يروى في هذا الشأن أن قرينة الرئيس السابق للوزارة البريطانية (قرينة رئيس الوزراء) نشرت أخيراً مذكرات ضمنتها أقوالا عن نساء هذا العصر قامت لها قيامة المجتمعات. فقد ادّعت هذه السيدة أن نساء هذا الجيل أقل جمالاً من نساء الجيل السالف، وذكرت بعض النساء البارعات في الجمال من اللواتي كن معاصرات لها في عهد شبابها فقالت أنها لا تجد بين سيدات اليوم من يقاس بتلك السيدات جمالاً وبهاءً.
ولو عُرضت أمامك نماذج للجمال بين الشعوب المختلفة لأخذتك الدهشة من تعددها وتباينها وعناية كل شعب بصفة خاصة أو بجانب معيّن دون سواه. وأول فرق يذكر في هذا الباب يتعلق بلون البشرة. فلا يظنن الأوروبي أن المرأة البيضاء اللون هي مثال الجمال لدى غيره من الناس. فالزنجي لا يرى الجمال إلا في زنجية مثله. وكذلك سائر الأجناس، فإن كلاً منها يعد لونه أفضل الألوان كافة.
وهناك فروق عظيمة فيما يخص الصفات الجسمانية الأخرى. ففي بلاد الفرس مثلاً وعند بعض الأقوام التركية والمغربية وبعض القبائل الأفريقية تعد السمنة من الشروط الأساسية للجمال. وترى النساء في تلك الأقطار يعنينَ أعظم عناية في استخدام الوسائل المؤدّية إلى السمنة وتناول الأطعمة التي تساعد على ذلك (منذ حوالي القرن).
وعند بعض القبائل القاطنة لشواطئ أميركا الشمالية الغربية تحسب المرأة جميلة متى كانت جبهتها منحرفة بعض الإنحراف. ولذا توضع رؤوس الطفلات في مكابس أو قوالب خاصة تمنحهنّ ذلك الشكل الجميل.
ومن العادات الشائعة بين أهل بولينيزيا أن الأمهات يعنين عناية عظيمة بضغط أنوف الفتيات حتى لا تكون بارزة. وهنّ يزدرين بالأنوف الكبيرة البارزة في وسط وجوه الأوربيات.
ومن المشهور عن أهل الصين أن المرأة الصينية تأخذ منذ نعومة أظفارها في ضغط قدميها ضغطاً شديداً مستمراً، حتى أنها قلما تستطيع الإستفادة من قدميها في الحياة. ومع ذلك يجدر بنساء هذه المدنية قبل أن يقهقهن لدى اطلاعهن على هذه العادة الغريبة أن يسمعن ما يقوله بعض الأطباء الذين درسوا هذا الأمر وهو أن مساوئ تلك العادة أقل من مساوئ المشدات التي يستعملنها.
ويحكى عن فتاة صينية أن إحدى المبشِّرات شرعت تقنعها يوماً بقبح هذه العادة فأجابتها الفتاة بسذاجة: "إنني أضغط قدميّ وأنتِ تضغطين خصرك، وكلتانا تفعل ذلك للغرض نفسه، وهو الحصول على زوج من جنسها."
هذا قليل من كثير. ومن يدرس طبائع الشعوب يجد أموراً عديدة من الغرابة بمكان،على أن النساء في كل قطر يسعين لغرض واحد وهو تحسين مظاهرهن ولكنهن يختلفن في الطرق المؤدية إلى ذلك. فقد يعمدن إلى دَهن الجسم أو تلوينه أو تخضيب الوجه، أو إلى الوشم أو تسويد الأسنان أو ضغط الأنف أو تشويه الفم أو الأذنين أو حلق الرأس أو تلوين الشعر، إلى غير ذلك من الوسائل الكثيرة المتنوعة بتنوع البشر وطبائعهم. هذا عدا عن تباين الأذواق في اللباس والأزياء. فالاختلاف في هذا الباب ليس دون الاختلاف في الوسائل المستعملة لتزيين الجسم مباشرة.
وقد تبيّن من درس أحوال الشعوب البدائية أن النساء في تلك الشعوب يعتبرن دَهن الجسم وتلوينه في مقدمة المحسّنات أي أنهن لا يقصرن عنايتهن من هذا القبيل على الوجه، كما تفعل شقيقاتهن المتمدنات، بل يتناولن الجسم بأجمعه. ومن أغرب العادات في هذا الباب أن بعض نساء بلاد التبت يرسمن على خدودهن رسوما هندسية بالنشاء وينزلن فيها بعض الحبوب! أما سائر الصينيات فيكتفين بالنشاء وحده. ومنها أيضا أن النساء في الجهات الجنوبية الشرقية من آسيا يستخدمن صمغ اللك لتزيين الأسنان. ويجدر بنا أن ندخل في هذا الباب استعمال "الحناء" المنتشرة في معظم الأقطار الشرقية.
أما الوشم فمنتشر بين شعوب كثيرة. فنساء بعض القبائل تزين به ذقونهن ونساء بعض القبائل الأخرى تحبذ وشم الشفة العليا فتصبح المرأة كأن لها شارباً. وفي بعض القبائل البدائية في أفريقيا تجرح النساء خدودهن أو أماكن أخرى من الجسم جروحاً بليغة يبقى أثرها طول الحياة.
وإذا أردنا تعديد أنواع الحلي والمصوغات والعقود وسائر أدوات الزينة التي تعشقها النساء في كل صقع وعصر لضاق بنا المقام، وإنما نقول بوجه الإجمال أن هناك تشابهاً عظيماً بين ما تستعمله النساء عامة من هذا القبيل سواء كن متمدنات أو غير ذلك. وهل من فرق جوهري بين عقد من فصوص الألماس وعقد من العاج أو الأسنان؟
وإذا تقدمنا إلى درس اللباس وجدنا التنوع أعظم وأعجب. ويرى دارسو الطبائع البشرية أن المرأة استعملت اللباس أولاً من قبيل الزينة لا حياءً وأدباً.
فالحياء في نظرهم هو نتيجة اللباس وليس اللباس نتيجة للحياء. وهم يستشهدون على ذلك بملاحظة غريزة الحياء في الشعوب المختلفة وتباين مظاهرها. فالمرأة الصينية تعتقد أن من الواجب ستر رجليها قبل سائر الجسم، ونساء سومطرة يهتممن اهتماماً خاصاً بستر ركبهن. ونساء بعض القبائل الأفريقية لا يسترن سوى بعض أجزاء الجسم بأوراق الأشجار. وبعض القبائل الآسيوية ترى العيب كل العيب في ظهور أصابع المرأة. والنساء اللواتي اعتدن النقاب يعتريهن الخجل الشديد إذا انتزع من على وجوههن، وقس على ذلك. مما يدل على أن الحياء أمرٌ نسبي يتوقف على العادات أكثر مما هو جوهري أساسي في الطبيعة البشرية.
والسلام عليكم
المصدر: مجلة الهلال – الجزء الثالث – ديسمبر (كانون أول) 1920
إعداد: محمود عباس مسعود
ملاحظة: قمت بتهذيب وإعادة صياغة بعض الجمل بما ينسجم مع الذوق ويلاءم روح العصر.
منقوول
جمال النساء واختلاف الرأي فيه حسب الشعوب والعصور
هل فكرت مرة في ماهية الجمال؟ وهل خطر لك أن تساءلت عن السبب الذي من أجله ترى هذه المرأة جميلة وتلك غير ذلك أو متوسطة أو عديمة التأثير في نفسك؟
اجلس يوماً وحلل أحكامك على النساء اللواتي تعرفهن وانظر في الدواعي التي تحملك على إصدار تلك الأحكام. لا ريب أن الأمر يلتبس عليك بعد استقصائه، وقد يتعذر عليك أن تستخرج قاعدة أو قانوناُ تعتمد عليه في تعليل أحكامك.
وإذا أخذت أحكام أصدقائك ومعارفك بهذا الشأن في الإعتبار، لا تلبث أن تزادا التباساً في أمرك إذ تجد التباين عظيماً بين تلك الأحكام بل قد تكون متضادة متناقضة. فقد يعجب زيد بجمال سلمى ويراها مستوفية لشروط الجمال كافة، في حين يراها عمرو على غير هذه الصورة وبغير عينيّ زيد.
وإذا قارنت آراء أهل البيئة التي تعيش فيها بآراء القاطنين في بيئات أخرى ازددت غموضاً في حقيقة الجمال وكنهه وشروطه وعناصره، إذ ترى كل طبقة ذات ذوق خاص في هذا الشأن كما تجد لكل شعب أحكاماً تختلف عن أحكام سواه.
وهذا ينطبق أيضاً على العصور المختلفة، إذ لكل عصر أميالٌ ومعايير خاصة. فلأهل الجيل الماضي آراء وأحكام في الجمال تختلف عن آراء أهل هذا الجيل وأحكامهم.
خلاصة ما تقدم أن الجمال في الغالب أمرٌ نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان وتباين الأذواق والأميال. بل أن الشخص الواحد قد يتغير ذوقه مع انتقاله من دور إلى دور.
ولا يبرح من الذهن أننا عندما نحكم على امرأة بكونها جميلة... نفعل ذلك تحت تأثيرين: تأثير شخصية المرأة وتأثير مظهرها الخارجي من لباس وهندام وزينة وغيره. وبعبارة أخرى الجمال نوعان: جمال أساسي وجمال إضافي (جمال فطري وجمال مكتسب).
قد يظن القارئ أنه ليس للمحسّنات الصناعية (أدوات الزينة) شأن في حكمه على النساء ولكن الحقيقة هي أن لها شأناً كبيراً ولا سيما في هذا العصر بما فيه من انتشار تلك الوسائل بين جميع الطبقات من أدناها إلى أرقاها. بل يكفي أن نراجع في أذهاننا بعض الأزياء التي كانت شائعة... فقد نجدها قبيحة بالنسبة إلى الأزياء التي نألفها اليوم؛ وربما كنا آنذاك نستحسن تلك الأزياء ونعجب بها.
أما ميل أحدنا إلى نوع خاص من الجمال فيتعذر تعليله من حيث الأخذ في الاعتبار الملامح ومطابقتها لقواعد أو قوانين معينة. فقد نحدد شروطاً نظنها ضرورية للجمال كالملامح والتكوين... وتناسبها وشكل العينين ولونهما إلخ.. فإذا رأينا امرأة مستوفية لتلك الشروط تعذر علينا أن نصفها بالجمال. وقد نرى امرأة غير مستوفية لبعضها فلا نتردد في الإعجاب بها. فما ذلك إلا لأن الجمال يأبى التقيد بقاعدة أو قانون، ولأن غاية الجمال إنما هي التأثير المعنوي. فالجمال الحقيقي إنما هو عامل غير محسوس.. هو كامل في نفس الشخص، في السيال الروحي الذي ينبعث من ملامحه، لا في طول فمه وأنفه أو حجم عينيه وأذنيه أو نحو ذلك. فالشخصية تنفخ في الملامح روحها وتجعلها ذات معنى وتأثير نفسي.
وقد علل أحد علماء النفس منشأ الميل الذي قد نشعر به فجأة نحو شخص لم نره من قبل، بقوله أن الإنسان تمر عليه في كل يوم صور وحوادث يختزنها في دماغه وهو لا يشعر، أو بالأحرى يكوّن في مخيلته من تلك الصور والحوادث صورة خيالية لامرأة تجتمع فيها الصفات التي يستحسنها، يحدث ذلك في نفسه من دون إعمال الفكر وتظل تلك الصورة تنمو وتتكامل في ذهنه فإذا وفق إلى من كان مطابقاً لها شعر لساعته بلهيب الحب. وقد تتفاوت أحكامه على السيدات والفتيات من حيث الجمال حسب قربهن من الصورة المُثلى أو بعدهن عنها.
من ذلك يتبين لنا التأثير الخفي الذي للبيئة في أحكام الإنسان. ومنه ندرك أيضا بعض السبب في كون أهل الجيل الواحد يختلفون ذوقاً في هذا الشأن عن أهل جيل آخر، كالفرق في الذوق بين النشء الجديد والمتقدمين في السن من أهل هذا الزمن.
ومما يروى في هذا الشأن أن قرينة الرئيس السابق للوزارة البريطانية (قرينة رئيس الوزراء) نشرت أخيراً مذكرات ضمنتها أقوالا عن نساء هذا العصر قامت لها قيامة المجتمعات. فقد ادّعت هذه السيدة أن نساء هذا الجيل أقل جمالاً من نساء الجيل السالف، وذكرت بعض النساء البارعات في الجمال من اللواتي كن معاصرات لها في عهد شبابها فقالت أنها لا تجد بين سيدات اليوم من يقاس بتلك السيدات جمالاً وبهاءً.
ولو عُرضت أمامك نماذج للجمال بين الشعوب المختلفة لأخذتك الدهشة من تعددها وتباينها وعناية كل شعب بصفة خاصة أو بجانب معيّن دون سواه. وأول فرق يذكر في هذا الباب يتعلق بلون البشرة. فلا يظنن الأوروبي أن المرأة البيضاء اللون هي مثال الجمال لدى غيره من الناس. فالزنجي لا يرى الجمال إلا في زنجية مثله. وكذلك سائر الأجناس، فإن كلاً منها يعد لونه أفضل الألوان كافة.
وهناك فروق عظيمة فيما يخص الصفات الجسمانية الأخرى. ففي بلاد الفرس مثلاً وعند بعض الأقوام التركية والمغربية وبعض القبائل الأفريقية تعد السمنة من الشروط الأساسية للجمال. وترى النساء في تلك الأقطار يعنينَ أعظم عناية في استخدام الوسائل المؤدّية إلى السمنة وتناول الأطعمة التي تساعد على ذلك (منذ حوالي القرن).
وعند بعض القبائل القاطنة لشواطئ أميركا الشمالية الغربية تحسب المرأة جميلة متى كانت جبهتها منحرفة بعض الإنحراف. ولذا توضع رؤوس الطفلات في مكابس أو قوالب خاصة تمنحهنّ ذلك الشكل الجميل.
ومن العادات الشائعة بين أهل بولينيزيا أن الأمهات يعنين عناية عظيمة بضغط أنوف الفتيات حتى لا تكون بارزة. وهنّ يزدرين بالأنوف الكبيرة البارزة في وسط وجوه الأوربيات.
ومن المشهور عن أهل الصين أن المرأة الصينية تأخذ منذ نعومة أظفارها في ضغط قدميها ضغطاً شديداً مستمراً، حتى أنها قلما تستطيع الإستفادة من قدميها في الحياة. ومع ذلك يجدر بنساء هذه المدنية قبل أن يقهقهن لدى اطلاعهن على هذه العادة الغريبة أن يسمعن ما يقوله بعض الأطباء الذين درسوا هذا الأمر وهو أن مساوئ تلك العادة أقل من مساوئ المشدات التي يستعملنها.
ويحكى عن فتاة صينية أن إحدى المبشِّرات شرعت تقنعها يوماً بقبح هذه العادة فأجابتها الفتاة بسذاجة: "إنني أضغط قدميّ وأنتِ تضغطين خصرك، وكلتانا تفعل ذلك للغرض نفسه، وهو الحصول على زوج من جنسها."
هذا قليل من كثير. ومن يدرس طبائع الشعوب يجد أموراً عديدة من الغرابة بمكان،على أن النساء في كل قطر يسعين لغرض واحد وهو تحسين مظاهرهن ولكنهن يختلفن في الطرق المؤدية إلى ذلك. فقد يعمدن إلى دَهن الجسم أو تلوينه أو تخضيب الوجه، أو إلى الوشم أو تسويد الأسنان أو ضغط الأنف أو تشويه الفم أو الأذنين أو حلق الرأس أو تلوين الشعر، إلى غير ذلك من الوسائل الكثيرة المتنوعة بتنوع البشر وطبائعهم. هذا عدا عن تباين الأذواق في اللباس والأزياء. فالاختلاف في هذا الباب ليس دون الاختلاف في الوسائل المستعملة لتزيين الجسم مباشرة.
وقد تبيّن من درس أحوال الشعوب البدائية أن النساء في تلك الشعوب يعتبرن دَهن الجسم وتلوينه في مقدمة المحسّنات أي أنهن لا يقصرن عنايتهن من هذا القبيل على الوجه، كما تفعل شقيقاتهن المتمدنات، بل يتناولن الجسم بأجمعه. ومن أغرب العادات في هذا الباب أن بعض نساء بلاد التبت يرسمن على خدودهن رسوما هندسية بالنشاء وينزلن فيها بعض الحبوب! أما سائر الصينيات فيكتفين بالنشاء وحده. ومنها أيضا أن النساء في الجهات الجنوبية الشرقية من آسيا يستخدمن صمغ اللك لتزيين الأسنان. ويجدر بنا أن ندخل في هذا الباب استعمال "الحناء" المنتشرة في معظم الأقطار الشرقية.
أما الوشم فمنتشر بين شعوب كثيرة. فنساء بعض القبائل تزين به ذقونهن ونساء بعض القبائل الأخرى تحبذ وشم الشفة العليا فتصبح المرأة كأن لها شارباً. وفي بعض القبائل البدائية في أفريقيا تجرح النساء خدودهن أو أماكن أخرى من الجسم جروحاً بليغة يبقى أثرها طول الحياة.
وإذا أردنا تعديد أنواع الحلي والمصوغات والعقود وسائر أدوات الزينة التي تعشقها النساء في كل صقع وعصر لضاق بنا المقام، وإنما نقول بوجه الإجمال أن هناك تشابهاً عظيماً بين ما تستعمله النساء عامة من هذا القبيل سواء كن متمدنات أو غير ذلك. وهل من فرق جوهري بين عقد من فصوص الألماس وعقد من العاج أو الأسنان؟
وإذا تقدمنا إلى درس اللباس وجدنا التنوع أعظم وأعجب. ويرى دارسو الطبائع البشرية أن المرأة استعملت اللباس أولاً من قبيل الزينة لا حياءً وأدباً.
فالحياء في نظرهم هو نتيجة اللباس وليس اللباس نتيجة للحياء. وهم يستشهدون على ذلك بملاحظة غريزة الحياء في الشعوب المختلفة وتباين مظاهرها. فالمرأة الصينية تعتقد أن من الواجب ستر رجليها قبل سائر الجسم، ونساء سومطرة يهتممن اهتماماً خاصاً بستر ركبهن. ونساء بعض القبائل الأفريقية لا يسترن سوى بعض أجزاء الجسم بأوراق الأشجار. وبعض القبائل الآسيوية ترى العيب كل العيب في ظهور أصابع المرأة. والنساء اللواتي اعتدن النقاب يعتريهن الخجل الشديد إذا انتزع من على وجوههن، وقس على ذلك. مما يدل على أن الحياء أمرٌ نسبي يتوقف على العادات أكثر مما هو جوهري أساسي في الطبيعة البشرية.
والسلام عليكم
المصدر: مجلة الهلال – الجزء الثالث – ديسمبر (كانون أول) 1920
إعداد: محمود عباس مسعود
ملاحظة: قمت بتهذيب وإعادة صياغة بعض الجمل بما ينسجم مع الذوق ويلاءم روح العصر.
منقوول