الملك لير .. المنطق واللا منطق*
بقلم : وليد محمد الشبيـبي ـ بغداد 8/10/1999
لوحة تمثل الملك لير وبأحضانه أبنته الصغرى المشنوقة كورديليا
لير(يخاطب كورديليا): تعالي نذهب إلى السجن. سنغني نحن الاثنين
وحدنا كعصفورين في قفص : فأذا طلبــت
البركة مني ، ركعت وناشدتك الغفران: هكذا
سنحيا ، ونصلي ، ونغني ، ونروي حكايـات
قديمة ، ونضحك على الفراشات المعسجدة(1) ،
ونصغي إلى أهل الشقاء يتحدثون بأنباء البلاط
. ولسوف نتحدث إليهم أيضا ، عمّن يخســر
ومن يربح ، من الداخل ومن الخارج ، وندّعي
سر فهم الأشياء كأننا أرصاد الآلهة . وسنأتـي
في السجن المسّور على الفئات والأحزاب مـن
وجوه القوم وهي في مدّها وجزرها مع القمر(2)
ذلك ما قاله لير في النهاية لابنته المخلصة كورديليا (انهما وحدهما ) إزاء الكون ، والهرب إلى السجن بالنسبة له هو الخروج معها من السجن الكبير (العالم) ، إنها نهاية الهروب ، هروبا اثر هروب ، لا ينتهي إلا منزويا في غرفة مع ابنته ، ولكن ليته نجا ؟
إذن ، دعونا نطالع مسرحية (الملك لير ـKing Lear) بشيء من التمحيص وبعين المنطق ، سنجد أنها اعتمدت كثيرا على (اللامنطق) في تأسيس الحدث ، كذلك ردود أفعال شخوص المسرحية ، حتى إن فرضية (الخط المستقيم هو أقصر الطرق بين نقطتين) تصبح غير مجدية هنا ، فالمسرحية ببساطة تتحدث عن ملك يجمع بناته الثلاث (غونريل ـ Goneril) و (ريغن ـ Regan) و (كورديليا ـ Cordelia) مع أزواجهن (دوق البني ـ Duke of Albany) و (دوق كورنوول ـ Duke of Cornwall) و (ملك فرنسا ـ King of France) ليعلن لهم انه قرر تقسيم مملكته عليهم والتنازل عن الحكم ، ومن هنا تبدأ الأحداث تتوالى بأفعال وردود أفعال (غير منطقية) من شخوصها ، وبالأخص من تصرفات الملك لير نفسه ، الذي يفترض انه يمتلك من الخبرة والدراية ما يجعله يميّز بين الغث والسمين وان لا يعتمد على محض كلمات تنطقها السن هو أدرى بأصحابها(3)، فمنذ البداية نعرف انه يجل ابنته الصغرى كورديليا اكثر من أختيها ولكن نجد انه ينسى أو يغفل عن كل ذلك ويضع مصداقية بناته على المحك بكلمات يطلبها منهن قبل تقسيم المملكة بينهن ومؤكد في هذه الحالة يلعب الرياء لعبته ما دام انه سيكون الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك الطموح أما من كان ديدنه الصدق فلن يحصل من الملك إلا سخطه وطرده خالي الوفّاض وكذلك حال كل من يناصره كـ( ايرل اوف كنت ـ Earl of Kent)(4)بهذا التصّرف غير المنطقي والأخرق والانفعالي يضع الملك مصيره ومصير بلاده بيد أولئك المنافقين وبعد أن يسخط على ابنته (كورديليا) يقرر أن (ضمّا إليكما ، مع صداق ابنتي ، صداق الثالثة ، ولتجعل الكبرياء ، التي تسميها هي بساطة ، زوجا لها ، إني لأهبكما معا سلطتي وسؤددي ، وكل ما يصحب الجلال من توابع الأبهة ، أما نحن ، فأننا إذ نحتفظ بمائة فارس ، تكون عليكما العناية بهم ، سنجعل سكنانا عند واحد منكما دوريا كل شهر ، لسوف نتمسّك بلقب الملك ومراسيمه كلها ، غير أن الحكم والدخل وتصريف الأمور ستكون ، يا ولدي الحبيبين ، في ايديكما . ومصداقا لذلك ، تقاسما هذا التاج بينكما )(5)( يقصد دوق البني ودوق كورنوول ) ، ولكن هل يعقل أن الملك لا يملك في مملكته كلها محل إقامة له ليضطر إلى الإقامة دوريا عند ابنتيه؟
لعل هذه المسرحية هي حقا من أكثر مسرحيات شكسبير إثارة للجدل بين النقّاد ،ففي الوقت الذي يعتبرها جبرا إبراهيم جبرا ( أضخم وأهول ما أنتجته العبقرية المسرحية منذ ايسخلس حتى يومنا الحاضر)(6)لا يجدها الروائي الكبير تولستوي(7)كذلك حيث اتهمها بـ(الركاكةوالسـخف)(غير أننا هنا نقول أنها كان يمكن أن تقترب أكثر من شاطئ الواقعية وبر المنطق ، والغريب أن الملك لا يتصرّف بعقلانية ولا ينطق بالحكمة إلا عندما يجن بعدما أصابه من جحود ابنتيه ما أصابه ، فها هو يخاطب ( أيرل اوف غلوستر ـ Earl of Gloucester ) الذي سملت عينيه من قبل كورنوول ( زوج ريغن ) لإخلاصه للملك ، فيقول:
(( أصغر الرذائل من خلال الثياب المهلهلة يتبدّى ، أما أردية الحكام وعباءات الفراء فتخفي كل شيء ، صفّح الخطيئة بالذهب تتكسر عليها رمح العدالة الصلبة ، فلا تؤذي ، ولكن سلّح الخطيئة بالخرق تخرقها قشة القزم ))(9) .
وكعادة شكسبير ، إذ نجد في مسرحياته كل مجنون وبهلول هو لسان الحكمة في المسرحية ولم يخرج عن ذلك في هذه المسرحية(10)، ولكن ما يجعل الأمر هنا مفارقة ، هو أن المجانين اكثر حكمة من العقلاء في تصرفاتهم وأقوالهم (البهلول ، الملك المجنون ، توما المسكين ) ولعله أراد ذلك لتتسق مع سياق المسرحية وما تنتهي أليه من فواجع (11)، لذلك فقد كان ( بهلول ـ Fool ) هو لسان الحكمة في هذه المأساة كلها(12)، ورغم انه يختفي فجأة بعد (المحاكمة) الخيالية التي يجريها الملك المجنون بحضور البهلول و ( ادغار ـ Edgar ) المتنّكر بأسمال شحاذ ( توما المسكين ) لابنتيه الجاحدتين (المشهد السادس/الفصل الثالث) إلا أن حضوره يبقى طاغيا على أجواء المسرحية(13).
ولعل ذلك ليس كل ما يمكن أن يقال ، فالمشكلة التي تدور عليها رحى المسرحية (غير منطقية ) أساسا ، وهي طموح وأطماع ابنتا الملك (غونريل و ريغن ) في العرش وطردهما لأبيهما دون رحمة رغم انه قد تنازل مسبقا (كما مر بنا) عن كافة سلطاته الفعلية في المملكة ، لذلك لم يكن عقبة في طريق طموحهما قط ، وإذا كان هناك ثمة تنافس ، فينبغي أن يكون بين الأختين وزوجيهما ، غير أننا نجد أن الأحداث تشذ كثيرا عن المنطق بتهافت الأختين على الابن غير الشرعي لغلوسـتر وهــو ( ادموند ـ Edmund ) والذي يصغر أخوه الشرعي (غير الشقيق طبعا) ( ادغار ) بسنة واحدة(14)، والذي يقوم بالإيقاع بينه وبين والده غلوستر بوشاية كاذبة ( بغية تبوأ مكانه ) ثم الوشاية بأبيه نفسه (غلوستر) أمام ( دوق كورنوول ) كي يرث لقبه ومركزه وأمواله وهذا ما حصل بالفعل عندما أصبح ( أيرل أوف غلوستر ) بدلا عن أبيه(15).
لذلك نجد أن تهافت الأختين عليه ليس له ما يبرره إذ أن جل طموحهما هو الوصول إلى عرش بريطانيا دون منازع وهذا ما كان يمكن تحقيقه عن طريق زوجيهما(16)، أما أن يحصل ما حصل من ارتكاب جريمة قتل ارتكبتها غونريل بحق شقيقتها ريغن عن طريق دس السم لها ومن ثم ندم غونريل على ما اقترفته وأنتحارها لهذا السبب ، فهذا ما يصعب قبوله ! فما الذي دعاها لفعل ذلك رغم وجود زوجها ؟ بل حتى بعد أن أقدمت على فعلتها النكراء هذه عن سابق إصرار وتخطيط ، ما الذي جعلها تنتحر ؟(17) ليس هذا فحسب ، إذ نجد أن غلوستر(18)الذي يكتشف الحقيقة كلها بعد أن سملت عينيه وبأنه قد ظلم أبنه ادغار(19)بوشاية من أبنه الآخر ادموند(20)يلتقي ادغار الذي يصّر على التنكّر رغم ظهور براءته ويصطحب أبيه إلى قمـة تلعـة* دوفــــر ( كما يوهمه ) بطلب من الأخير بغية الانتحار ؟ ادغار يقول مع نفسـه : ( لماذا أعبث هكذا بيأسه ؟ لكي أشفيه منه )(21)إذن ، يجد أن الحل الوحيد للشفاء من يأسه هو الانتحار ( الوهمي ) ولا يكون الشفاء بإخباره انه أبنه ادغار ؟ ! (22)
ثم أليس هناك شيء من المبالغة فيما يخص إصابة الملك بالجنون ( وهو القوي البأس المتجبّر الذي يسخط على هذه وينفي ذاك ويعمل إرادته في تقطيع أوصال البلاد لمجرّد محض رغبة ) ، أيضا من غير المنطقي استعادة ( عقله ) بل حتى وفاته في نهاية المسرحية ، اللهم إلا ( للضرورة الشكسبيرية ! ) ، أي جعل المسرحية جديرة بأسمها كمأساة(23).
أيضا هناك ثمة تناقض يحصل ، فهذا أحد فرسان الملك يخبره ( مولاي ... الذي أرى هو أن جلالتكم لا تعاملون بما أعتدتموه من الود والتبجيل ، ثمة نقص كبير في اللطف باد في الخدم عموما ، كما في الدوق نفسه ، وكذلك في أبنتكم )(24)ويقصد الدوق البني وغونريل ، واذا كان ذلك صحيحا بالنسبة لأبنته الشريرة غونريل فلا يمكن أن ينطبق ذلك على زوجها النبيل الذي كانت أفعاله منذ البداية وحتى النهاية تنم عن نفس كريمة وأصل نبيل المحتد وما أستياء الملك منه وشجبه له إلا سوء فهم لحقيقة موقفه ( أيها العقوق ، يا شيطانا قلبه من رخام ، لأقبح من وحش البحر أنت حين تتبدّى في ولد إزاء أبيه ) قبل أن يتراجع عن اتهاماته (لعلك صادق ، يا سيدي ) بعد أن يسمع البني يجيبه بعفوية ( أرجوك صبرا ، يا سيدي / لا ذنب لي ، يا مولاي . لست أدري )(25)ولعل ذنبه الوحيد هو تركه زمام الأمور بيد زوجته ( لا أستطيع التحيّز لحبي العظيم لك ) :
البني : لا أعرف ما تنفذ أليه عيناك : كثيرا ما نحاول أن نكحّلالعين ، فنعميها .
غونريل : إذن ...
البني : لا بأس ، لا بأس . النتيجـة(26).
ولو كان يعلم حقيقة ما يجري ، لما ترك زمام الأمور بيدها وما تنازله عن سلطانه المطلق ( كملك مرشّح في النهاية وقبيل وفاة لير ) للملك وإعادة الاعتبار لادغار وكنت إلا أنصع دليل على حقيقة معدنه ونواياه النبيلة وصدقه .
أما كيف أستطاع غلوستر الضرير معرفة الملك من خلال صوته فهذا أمر طبيعي ولكن غير الطبيعي هو مرافقته لابنه المتخّفي ادغار أكثر من مرة دون أن يستطيع أن يكتشفه من صوته رغم أن الابن هو الأقرب أليه من الملك ، وحتى بالنسبة لوشاية ادموند الكاذبة بأخيه ادغار أمام أبيه غلوستر وتصديق الأخير بمثل هذه البساطة اعتمادا على ورقة مزعومة بأنها بخط يد ادغار ثم هرب ادغار من أبيه دون مواجهته(27)، وهكذا يصبح ملعونا من قبله ويكون مطلوب الرأس من قبل الكل .
أما عن نزول الملك الفرنسي (زوج كورديليا) في دوفر ببريطانيا على رأس جيش فرنسي ثم ترك الجيش والعودة لفرنسا لأمر غامض لم يوضحّه شكسبير، غير أن جبرا إبراهيم جبرا يقول : ( السبب الحقيقي هو أن كورديليا أفلحت في إقناع زوجها بالتخلي عن محاولة أخذ جزء من المملكة عنوة وبالرجوع إلى بلده ليتسنّى لها بذلك أن تستخدم جيشه في الدفاع عن أبيها إذا أقتضت الحاجة وبذلك تدفع عن زوجها تهمة الغزو)(28)، ونحن برأينا لا نجد أن هذا هو السببالحقيقي ، فالسببين يؤديان إلى الغاية نفسها وهي السيطرة على بريطانيا عند تحقيق النصر ، ثم أن تهمة الغزو لا تنجلي بعودة الملك نفسه وبقاء القوات الفرنسية في البر البريطاني(29)، ونحن نعتقد أن هناك حدث هام وخطير في فرنسا أستدعى حضور الملك بنفسه فورا وترك زمام الأمور بيد زوجته الإنكليزية كورديليا ، ومما يعزز هذا الرأي ، هو أن ملك فرنسا يقف على قدم المساواة مع عديليه ( البني و كورنوول ) في التنافس على عرش بريطانيا لذلك فسبب عودته لفرنسا أهم وأخطر من سبب وجوده في دوفر ، وهذا ( الدوق كنت ـ Duke of Kent ) يسأل ( المرافق ـ Gentleman ) :
ـ ألا تعرف سببا لرجوع ملك فرنسا بهذه الفجأة إلى بلده ؟
ـ أمر ما في الدولة لم ينهه ، فكّر به بعد مجيئه إلى هنا ، فيه من بوادر الخشية والخطر على المملكة [كذا] ما جعل عودته الشخصية ضرورة حتمية(30).
وكعادة شكسبير ، فقد كان يوظّف مفردات المسرحية بما يلائم مكان وزمان المأساة (موضوعة المسرحية) ، فالعصر الذي تجري فيه المسرحية هو العصر الوثني لبريطانيا، لذلك نجد الكثير من التعابير والأسماء الوثنية تتردد على السنة شخوص المسرحية(31).
ومع ذلك ، فأن شكسبير لا يستطيع أن يتخلّص من عبارات عصره (الاليزابيثي) وأمثلته أو حتى القرون التي سبقته ، فها هو يستعين بأسم أحد شياطين حكايات القرون الوسطى وعصر النهضة المدعو (فليبر تيجيبت) في الصفحة 89 أو ذكره (بنفس الصفحة) تعويذة معاصرة من الفولكلور عن السعلاة والقديّس ويذولد ، أو في الصفحة 95 عندما يستخدم مقطع من أغنية معاصرة على لسان البهلول أو بنفس الصفحة يستخدم شكسبير أسطورة من أيامه كان يعتقد أن العفاريت تتخذ أشكالا مختلفة ، وفي الصفحة 124 يستعين بمعتقد لإحدى الفئات الهرطقية (المسيحية) القديمة أو في الصفحة 129 عندما يستخدم عبارة شهيرة في أيامه يضعها بالعامية في المسرحية كان يتكلمها الفلاحون في منطقة سومرست .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن جبرا إبراهيم جبرا يكتب في هامش الصفحة 35 ما يلي :
(للعبارة الأخيرة تأويلان : 1 ـ إني بروتستانتي ، 2 ـ إني لست من المستضعفين . ولعل للعبارة أيضا معنى جنسيا) .
أما العبارة فهي التي ينطقها الدوق كنت للملك لير وهو متنكّر في سياق حديثه عن نفسه : ( لا آكل السمك ) ، فالأحداث تقع في العهد الوثني لذلك ما كان يجب ذكر تأويل ( إني بروتستانتي ) والاكتفاء بالتأويلين الآخرين .
وعلى أية حال ، فالطبعة المترجمة التي نعتمد عليها لم تخل من بعض الأخطاء وإغفال بعض العبارات منها(32).
كذلك في (المشهد السابع/الفصل الثالث) نجد أن خادم كورنوول يثور على سيده وهو يراه يسمل عيني غلوستر ، فيبارزه :
الخادم : كف يدك يا سيدي ، لقد خدمتك منذ طفولتي ، ولكن ألم أخدمـكيوما خيرا من أن آمرك ألان بالكف عنه .
ريغن : ماذا تقول يا كلب !
الخادم : لو كانت لك لحية على ذقنك ذلك لجررتها في هذا الشجار .
ريغن : ماذا تعني ؟
كورنوول : خـادمـي ! ( يجرّد كلاهما سيفه ويتقاتلان )
الخادم : هلم إذن ، وجازف بالغضب .
ريغن : (( لأحد الواقفين )) أعطني سيفك . أقروي يتحدّى !
(تأخذ سيفا وتهوي عليه من الخلف )
الخادم : آه ، قتلتني ! سيدي(33)، لك عين باقية لترى قصاصا يحل به ـ آه !
كورنوول : لئلا ترى المزيد فلأمنعها . أخرج أيها الغلام النجس ! ( يموت الخادم )(34)
(( أما كورنوول ، فهو يجرح في المبارزة وينزف حتى الموت ))
وإذا ما علمنا إن هذه الأحداث كلها تجري في قلعة غلوستر (الضحية) لوجب السؤال :
أما كان ذلك أدعى لخدم وحشم(35) غلوستر نفسه للدفاع عن سيدهم ، أمامه وفي قلعته ؟
ونحن نعلم أن العبد يدافع عن سيده أمام الغريب حتى لو كان ذلك الغريب الملك نفسه . وهذا بالفعل ما قام به خدم (مكدف) عندما أقتحمت قلعة مكدف الهارب (من أسكتلندا إلى أنكلترا) من قبل جنود الطاغية مكبث(36).
هناك الكثير من الحكم والأقوال المأثورة التي حفلت بها المسرحية ، كما عودّنا شكسبير ، فهذا البني يخاطب زوجته غونريل : ( لذوي الخسّة تبدو الحكمة والفضيلة خسة ولا تتذّوق القواذير إلا نفسها(37)) .
أما الملك لير ، فها هو ينطق بالحكم وهو في أوج جنونه :
لير : ماذا ، أمجنون أنت ؟ للمرء أن يرى كيف تسير هذه الدنيا من غير عينين . أنظر بأذنيك : أنظر إلى هذا القاضي وهو يعنّف ذلك اللّص التافه . أصغ إلي بأذنك : ليتبادلا المكان ، واحزر يا شاطر ، أيهما القاضي وأيهما اللص ؟ أرأيت كلب الفلاح ينبح على شحاذ ؟
غلوستر : (( المسمل العينين )) : نعم سيدي .
لير : والمخلوق يركض هربا من الكلب ؟ لك في ذلك أن ترى مثـــل السلطة العظيم : الكلب في الوظيفة مطاع . أيها الشرطي النــذل، أرفع يدك الدموية ! لم تجلد تلك البغي ؟ عـّر ظهرك أنت ، فأنـت ملتهب الشبق لتفعل معها ما أنت تجلدها من أجله . المرابي يشـنق الغشاّش ! ....
ما ثمة من مذنب أبدا ، أقول ، أبدا . ولأشهدن على ذلك(38).
في هذه المسرحية ، يلفت انتباهنا (كميّة) الشر الذي يكمن في شخوص تلك المسرحية ( كورنوول ، ريغن ، غونريل ، ادموند ، ازوالد) حتى فاق جميع مسرحيات شكسبير الأخرى ( بما فيها هاملت ، مكبث ، عطيل ، كريولانس ، روميو وجولييت) ، بل تكاد تشعر (وأنت تطالعها ) بأنه يصفعك بشدّة قبل أن يدمّر الجميع(39).
وفي النهاية ، لم يأمن لير على نفسه وعلى أبنته حتى في ملاذهما الأخير (السجن) ولم يستطع أن يحقق (أحلامه) معها ، لن يغنيّا معا كالعصفورين في قفص أبدا ، لا ولن يتسنّى لهما الصلاة وسرد الحكايات والضحك على الفراشات المعسجدة ... لن يحصل أي شيء من ذلك البتة ، ولير لم يفقد فقط تاجه وسلطته وعقله ، بل فقد شيء آخر (ربما لديه ألان أهم من كل شيء) هو البقاء وحدهما (كعصفورين في قفص) ، فها هو يدخل في النهاية حاملا كورديليا(40)بين يديه بلا حراك :
لير : كورديليا ، كورديليا ، تريثّي قليلا . ها ! ما الذي تقولين ؟ كـان صوتها دوما ناعما ، لطيفا ، منخفضا ، وما أجمل ذلك في المرأة !
...............................
...............................
وبهلولتي المسكينة شنقوها،لا ، لا حياة ! أينعم الكلب ، الحصان ، الجرذ بالحياة ، ولا يكون لك نفس واحد تتنفّسينه ؟ لن تجيئي ثانية ، أبدا ، أبدا ، أبدا ، أبدا أرجوك فك هذا الزر . شكرا سيدي .
أترى هذه ؟ أنظر إليها ، إلى شفتيها ، أنظر هناك ، هناك ! (41)
(يمــوت)*
الهوامش والمراجع تحت لطفاً
عدل سابقا من قبل وليد محمد الشبيبي في السبت 21 نوفمبر 2009, 4:23 pm عدل 1 مرات