قصة قصيرة
أنتـ . . حر
حسين عبد الخضر
يقرفص متكورا في زاوية الزنزانة . عيناه شاخصتان نحو الباب ، وأذناه تلتقطان كل صوت قادم ، وقلبه ماكنة لا تكف عن الإرتجاف . خلت روحه من أية إرادة ، ونفسه من أية أمنية . الشيء الوحيد الذي يشغل تفكيره هو أن لا يعذب ، هذه الرغبة ، وإرتعاشة الجسد هي كل ما تبقى من الإنسان فيه . . هي كيانه كله .
وقف أمام الضابط مرتعدا . لاحظ اختلاف اللغة ولون البشرة ، لكنه يدرك أن للضباط دورا وحيدا هنا . سوف يطلب منه سرد حكايته مرة أخرى ، للمرة الألف . . الألفين ، يردد بشكل آلي انه رجل مسكين ، كان يعبر الشارع ساعة الحادث ، لم يعد يذكر إلى أين ، ثم جاءت الهمرات والقوا القبض عليه قريبا من موقع الحادث . يظل يردد : موقع الحادث ، موقع الحادث ، موقع الحادث . حتى يتشبع رأسه بإيقاع العبارة ، دون أن يتذكر ما هو الحادث . هناك شيء حصل في الشارع أو في مكان ما من العالم ، ذلك ما تقرره بقية من المنطق العفوي في رأسه ، لأنه يخزن صورة ، تزداد ضبابية ، عن الحياة في الخارج ، أو ما يفترض أن تكون عليه الحياة في الخارج ، وغالبا ما كانت تمر صورة لها في رأسه ، وهو يحلم . سوف يتلقى الصفعات ذاتها ، ويكررون عليه الأسئلة ذاتها . عمرك ، عملك ، حالتك الاجتماعية ، كم طفلا لديك ، أي دين تعتنق والى أية جهة تنتمي ؟ يمكنهم أن يجدوا المعلومات الصحيحة في التحقيق الأول ، وربما الثاني ، لأنه بعدها اخذ ينسى . لا شيء في ذاكرته الآن من ذاك الماضي . نسي اسمه ، عمله ، زوجته ، أطفاله ، بل ما عادت تهمه كل تلك الكلمات المبهمة . لقد تحول إلى جسد يتألم وروح تخاف ، لا ، ليس هذا هو ما تحول إليه بالضبط . عندما تنظر إليه ، سوف ترى هيكل إنسان ، يرتعد ، عيناه دائمتا التوسل ، يريد أن يبكي ، لكنه لا يعرف كيف ، فيرتفع صدره وينخفض ببشاعة ، ويتجمع تحت جفنيه سائل حارق .
يذكر أنهم تلقفوه كما تتلقف كلاب مدربة فريستها ، ضربوه قبل أن يقيدوه ويضعوا رأسه في الكيس الأسود ، وضربوه بعدها أيضا ، ضربوه وهم يصعدون به إلى الهمر ، وفيها ، وبعد أن انزلوه منها ، ثم اجبروه على الوقوف طويلا ، عروه ، وكهربوا جسده . . كهربوا كل جسده ، حتى اخذ يشعر بسريان التيار في دماغه وشرايينه ، يفتت الصور ، الذكريات ، ثم المفاهيم ، حتى يصل إلى خبراته المكتسبة من الطفولة ، فيشوهها . شعر بأنه يتحول إلى كتلة من القذارة ، في داخله مستعمرات كبيرة للجراثيم التي تنهش خلاياه ، وتفرز الصديد . اجبروه على اغتصاب آخرين ، واجبروا آخرين على اغتصابه ، وضعوه عاريا في قاعدة التل البشري العاري ، مرات ، وعلى قمة التل مرات أخرى . يذكر أن أشياء في داخله كانت تتحطم وتتلاشى ، يذكر ألم انهيارها . . يذكر ارتجاف خلاياه عندما أدخلوا الكائن الشرير إلى زنزانته ، فأخذ يزأر عليه وينبح .
انه مجرد الآن من ذاته ، فاقد لها ، مطوع لتنفيذ أي أمر يوجه له . أن يقعي مثل كلب وينبح . . أن يزحف على بطنه مثل سحلية بلا أطراف . . أن يتبرز ويأكل فضلاته . . أن يبكي ويضحك في الوقت نفسه ، أن ينتحر .
نظر الضابط في سجله ، ثم نظر إليه ، وجذب نفسا عميقا من سيجارته . رأى هيكلا بشريا يجحظ الخوف في عينيه وجسد يختض . كانت باقة التهم المتنوعة في الملف ، تشير إلى رجل آخر ، بل مجموعة من الرجال ، زمرة من المجرمين فقط ، يمكنها أن تقوم بكل الأعمال المذكورة في الملف . كان الضابط يتوقع أن يرى رجلا ضخما ، بشع الملامح ، وقح النظرات ، يقف أمامه شامخا برأسه ، محتقرا لمن حوله ، سفاح ، كأي سفاح في العالم . طلب من الجندي أن يفك وثاقه ، وتوجه اليه بالسؤال :
ــ اين ألقي القبض عليك ؟
انطلق يردد ما اعتاد ترديده عندما يسمع تلك الكلمات المستفزة بحيادها :
ــ كنت رجلا مسكينا ، اعبر الشارع ، ألقي القبض علي ، قريبا من موقع الحادث ، موقع الحادث ، موقع الحادث ، مو . . . .
توقف متخشبا ، عندما اخترق الأمر المتذمر روحه ، ما تبقى من روحه ، واندفع خيط من سائل اصفر تحت ثيابه .
ثبت الضابط نظره في العينين الجاحظتين ، وقال له : أنت حر .
تطافرت الدموع من عينيه ، وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة . أخذ يهز رأسه ، وكأنه يريد ان يقول شكرا ، لكن الفضل العظيم للضابط ، جعل الكلمة تتحجر في حنجرته . ودارت عيناه في الغرفة تعترفان بالمن لجميع الحاضرين .
أمر الضابط أحد الجنود باخذه . سار مع الجندي بروح هائمة . ربما كان يتذكر ، أو يفكر ، وربما كان سعيدا فقط . من الصعب ان نتمكن من معرفة ما يدور في رأسه عند تلك اللحظة ، وهو يسير بسكون مع الجندي ، أو تحديد ما إذا كان يفكر اصلا . . جللته حالة من السكون .
افتقد طويلا إلى ملمس كف رفيقة على كتفه ، والإصغاء إلى كلمات ودية . يتردد صدى كلمات الجندي كما لوانه نازل من الأعلى . لا عليك ، سوف تشفى قريبا . وتعود كما كنت ، وربما افضل . نحن آسفون . على مهل ، على مهل . اصعده الجندي في المقعد الخلفي للسيارة ، وانطلقت به . اجتازت البوابة الكبيرة للسجن . كان يتمنى رؤيتها أول ما جاءوا به إلى هنا . تفتحت في نفسه الأمنية من جديد . توقفت السيارة عند الباب ، وارتفعت العارضة ، فانطلقت من جديد ، وصعدت الشارع العام . اصبح السجن خلفة ، فشعر بالغربة من منظر السيارات الكثيرة المنطلقة في اتجاهين متعاكسين . لم يعد الجندي يتحدث معه . اصبح يتهامس مع الجندي الآخر الذي يقود السيارة . بينما التصقت عيناه في الشباك ، تنظران إلى الخارج ، وتلتقطان صور العالم الكبير بشغف طفل حديث الولادة .
توقفت السسيارة في باب مبنى عال ، ابيض الجدران ، فانكمشت روحه من جديد ، كفأر منزو في جحر . انزلوه ، ولم تفلح ممانعته الضعيفة في منعهم من اقتياده إلى المبنى . كان الجنديان يقودانه وسطهما . وهو يرتعد من منظر الناس في الممرات . ناس كثيرون ، من اجناس مختطلة ، يرتدون ملابس متنوعة الأشكال ، ويطلقون عبارات مختلفة ، بعضهم يسير على قدميه ، وآخرون يتوكأون على عكازات ، وبينهم من يتمدد على سرير مستسلما لإرادة غيره . الرائحة النفاذة تطعن ذاكرته ، ترسم في مخيلته غمامة بيضاء ، ووجوه متحلقة تنظر من الأعلى ، وابتسامات مبتهجة ، لكنها لم تفلح في استرجاع الذكرى .
دخلا به إلى غرفة صغيرة ، يجلس فيها ضابط يرتدي مريلة بيضاء ، ويضع على عينيه نظارة زجاجية . تكلما معه ، فأمرهم بوضعه على السرير . سحباه غير مباليين بالفزع في عينية ، وخيط السائل الاصفر المندفع من تحت ثيابه . مدداه على السرير ، فنهض الضابط ، وكف هو عن الحركة . انه مستعد ان ينبح مثل كلب ، ان يتبرز ويأكل برازه شرط ان لا يضربه أحد . دنى منه الضابط . فتح السحاب ، ووضع على صدره قطعة معدنية راح ينقّلها من مكان إلى آخر . طلب منهما ان يقلباه على ظهره فقلباه . صار ينظر في بياض السرير . وضع الضابط القطعة المعدنية على ظهره ، ونقّلها ايضا . جرده من لباسه ، ضرب على ركبتيه بمطرقة صغيرة . فتح جفناه ، ونظر فيهما ، فتح فاه ونظر إلى امعائه ، جس اماكن مختلفة من جسمه ، وكان صامتا . لم يفلح في ايجاد العلاقة بين الأمر الذي تلقاه من الضابط هناك ، وما يفعله هذا الضابط . كان يتصور ، بما تبقى لديه من منطق عفوي ، ان يعطوه سكينا او حبلا لينفذ الأمر ، لكنهم جاءوا به إلى هنا ليعذبوه برفق ، عذاب يدعو الى الشفقة .
أمرهما الضابط ان يصعدا به إلى الأعلى ، فسحباه عبر الممرات ، ثم ادخلاه في زنزانة متحركة ، صعدت بهم إلى مكان آخر . خرجوا ، فالتقطت عيناه صورة المكان الجديد ، ممر طويل يضوع بالرائحة النفاذة ، تقف على جانبيه زنازين كثيرة . سحباه ، وادخلاه إلى زنزانة كبيرة فارغة . اضطربت اعضاؤه وهي تستقبله ببياضها الوحشي ، فحمله الجنديان إلى السرير ، وهما يأمرانه بالهدوء : هون عليك ، ستكون بخير . لا تخف ، لا تخف .
وضعاه على السرير ، وخرجا ليقفا عند الباب ، فأحس بترف الفراش الذي يحمل عظامه بلين . وسبحت نظراته في الفراغ الابيض . ذرات متوهجة من البياض تصطدم في رأسه ، يتردد معها ألامر الرفيق : انتحر . . انتحر . تحولت الكلمة إلى كتلة من الرصاص أثقلت رأسه الغاطس في الوسادة . نهض وأدار عينيه في المكان . بحث في الزوايا عن شيء ما ، حبل أو سكين ، لكن الغرفة كانت خالية من الوسائل . تحسس الجدران ، فوجدها ملساء واكثر نعومة من جدران زنزانته الأولى . امسك بحديد اللوكر الصغير إلى جانب الفراش ، فتسربت إلى يده برودة مترفة ، ولاح امام عينيه غلاف رقيق ، تكاد العين تهمله ، فتحة فالتمع امام عينيه موسى صغير حاد على شكل سمكة مفتوحة البطن .
أنتـ . . حر
حسين عبد الخضر
يقرفص متكورا في زاوية الزنزانة . عيناه شاخصتان نحو الباب ، وأذناه تلتقطان كل صوت قادم ، وقلبه ماكنة لا تكف عن الإرتجاف . خلت روحه من أية إرادة ، ونفسه من أية أمنية . الشيء الوحيد الذي يشغل تفكيره هو أن لا يعذب ، هذه الرغبة ، وإرتعاشة الجسد هي كل ما تبقى من الإنسان فيه . . هي كيانه كله .
وقف أمام الضابط مرتعدا . لاحظ اختلاف اللغة ولون البشرة ، لكنه يدرك أن للضباط دورا وحيدا هنا . سوف يطلب منه سرد حكايته مرة أخرى ، للمرة الألف . . الألفين ، يردد بشكل آلي انه رجل مسكين ، كان يعبر الشارع ساعة الحادث ، لم يعد يذكر إلى أين ، ثم جاءت الهمرات والقوا القبض عليه قريبا من موقع الحادث . يظل يردد : موقع الحادث ، موقع الحادث ، موقع الحادث . حتى يتشبع رأسه بإيقاع العبارة ، دون أن يتذكر ما هو الحادث . هناك شيء حصل في الشارع أو في مكان ما من العالم ، ذلك ما تقرره بقية من المنطق العفوي في رأسه ، لأنه يخزن صورة ، تزداد ضبابية ، عن الحياة في الخارج ، أو ما يفترض أن تكون عليه الحياة في الخارج ، وغالبا ما كانت تمر صورة لها في رأسه ، وهو يحلم . سوف يتلقى الصفعات ذاتها ، ويكررون عليه الأسئلة ذاتها . عمرك ، عملك ، حالتك الاجتماعية ، كم طفلا لديك ، أي دين تعتنق والى أية جهة تنتمي ؟ يمكنهم أن يجدوا المعلومات الصحيحة في التحقيق الأول ، وربما الثاني ، لأنه بعدها اخذ ينسى . لا شيء في ذاكرته الآن من ذاك الماضي . نسي اسمه ، عمله ، زوجته ، أطفاله ، بل ما عادت تهمه كل تلك الكلمات المبهمة . لقد تحول إلى جسد يتألم وروح تخاف ، لا ، ليس هذا هو ما تحول إليه بالضبط . عندما تنظر إليه ، سوف ترى هيكل إنسان ، يرتعد ، عيناه دائمتا التوسل ، يريد أن يبكي ، لكنه لا يعرف كيف ، فيرتفع صدره وينخفض ببشاعة ، ويتجمع تحت جفنيه سائل حارق .
يذكر أنهم تلقفوه كما تتلقف كلاب مدربة فريستها ، ضربوه قبل أن يقيدوه ويضعوا رأسه في الكيس الأسود ، وضربوه بعدها أيضا ، ضربوه وهم يصعدون به إلى الهمر ، وفيها ، وبعد أن انزلوه منها ، ثم اجبروه على الوقوف طويلا ، عروه ، وكهربوا جسده . . كهربوا كل جسده ، حتى اخذ يشعر بسريان التيار في دماغه وشرايينه ، يفتت الصور ، الذكريات ، ثم المفاهيم ، حتى يصل إلى خبراته المكتسبة من الطفولة ، فيشوهها . شعر بأنه يتحول إلى كتلة من القذارة ، في داخله مستعمرات كبيرة للجراثيم التي تنهش خلاياه ، وتفرز الصديد . اجبروه على اغتصاب آخرين ، واجبروا آخرين على اغتصابه ، وضعوه عاريا في قاعدة التل البشري العاري ، مرات ، وعلى قمة التل مرات أخرى . يذكر أن أشياء في داخله كانت تتحطم وتتلاشى ، يذكر ألم انهيارها . . يذكر ارتجاف خلاياه عندما أدخلوا الكائن الشرير إلى زنزانته ، فأخذ يزأر عليه وينبح .
انه مجرد الآن من ذاته ، فاقد لها ، مطوع لتنفيذ أي أمر يوجه له . أن يقعي مثل كلب وينبح . . أن يزحف على بطنه مثل سحلية بلا أطراف . . أن يتبرز ويأكل فضلاته . . أن يبكي ويضحك في الوقت نفسه ، أن ينتحر .
نظر الضابط في سجله ، ثم نظر إليه ، وجذب نفسا عميقا من سيجارته . رأى هيكلا بشريا يجحظ الخوف في عينيه وجسد يختض . كانت باقة التهم المتنوعة في الملف ، تشير إلى رجل آخر ، بل مجموعة من الرجال ، زمرة من المجرمين فقط ، يمكنها أن تقوم بكل الأعمال المذكورة في الملف . كان الضابط يتوقع أن يرى رجلا ضخما ، بشع الملامح ، وقح النظرات ، يقف أمامه شامخا برأسه ، محتقرا لمن حوله ، سفاح ، كأي سفاح في العالم . طلب من الجندي أن يفك وثاقه ، وتوجه اليه بالسؤال :
ــ اين ألقي القبض عليك ؟
انطلق يردد ما اعتاد ترديده عندما يسمع تلك الكلمات المستفزة بحيادها :
ــ كنت رجلا مسكينا ، اعبر الشارع ، ألقي القبض علي ، قريبا من موقع الحادث ، موقع الحادث ، موقع الحادث ، مو . . . .
توقف متخشبا ، عندما اخترق الأمر المتذمر روحه ، ما تبقى من روحه ، واندفع خيط من سائل اصفر تحت ثيابه .
ثبت الضابط نظره في العينين الجاحظتين ، وقال له : أنت حر .
تطافرت الدموع من عينيه ، وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة . أخذ يهز رأسه ، وكأنه يريد ان يقول شكرا ، لكن الفضل العظيم للضابط ، جعل الكلمة تتحجر في حنجرته . ودارت عيناه في الغرفة تعترفان بالمن لجميع الحاضرين .
أمر الضابط أحد الجنود باخذه . سار مع الجندي بروح هائمة . ربما كان يتذكر ، أو يفكر ، وربما كان سعيدا فقط . من الصعب ان نتمكن من معرفة ما يدور في رأسه عند تلك اللحظة ، وهو يسير بسكون مع الجندي ، أو تحديد ما إذا كان يفكر اصلا . . جللته حالة من السكون .
افتقد طويلا إلى ملمس كف رفيقة على كتفه ، والإصغاء إلى كلمات ودية . يتردد صدى كلمات الجندي كما لوانه نازل من الأعلى . لا عليك ، سوف تشفى قريبا . وتعود كما كنت ، وربما افضل . نحن آسفون . على مهل ، على مهل . اصعده الجندي في المقعد الخلفي للسيارة ، وانطلقت به . اجتازت البوابة الكبيرة للسجن . كان يتمنى رؤيتها أول ما جاءوا به إلى هنا . تفتحت في نفسه الأمنية من جديد . توقفت السيارة عند الباب ، وارتفعت العارضة ، فانطلقت من جديد ، وصعدت الشارع العام . اصبح السجن خلفة ، فشعر بالغربة من منظر السيارات الكثيرة المنطلقة في اتجاهين متعاكسين . لم يعد الجندي يتحدث معه . اصبح يتهامس مع الجندي الآخر الذي يقود السيارة . بينما التصقت عيناه في الشباك ، تنظران إلى الخارج ، وتلتقطان صور العالم الكبير بشغف طفل حديث الولادة .
توقفت السسيارة في باب مبنى عال ، ابيض الجدران ، فانكمشت روحه من جديد ، كفأر منزو في جحر . انزلوه ، ولم تفلح ممانعته الضعيفة في منعهم من اقتياده إلى المبنى . كان الجنديان يقودانه وسطهما . وهو يرتعد من منظر الناس في الممرات . ناس كثيرون ، من اجناس مختطلة ، يرتدون ملابس متنوعة الأشكال ، ويطلقون عبارات مختلفة ، بعضهم يسير على قدميه ، وآخرون يتوكأون على عكازات ، وبينهم من يتمدد على سرير مستسلما لإرادة غيره . الرائحة النفاذة تطعن ذاكرته ، ترسم في مخيلته غمامة بيضاء ، ووجوه متحلقة تنظر من الأعلى ، وابتسامات مبتهجة ، لكنها لم تفلح في استرجاع الذكرى .
دخلا به إلى غرفة صغيرة ، يجلس فيها ضابط يرتدي مريلة بيضاء ، ويضع على عينيه نظارة زجاجية . تكلما معه ، فأمرهم بوضعه على السرير . سحباه غير مباليين بالفزع في عينية ، وخيط السائل الاصفر المندفع من تحت ثيابه . مدداه على السرير ، فنهض الضابط ، وكف هو عن الحركة . انه مستعد ان ينبح مثل كلب ، ان يتبرز ويأكل برازه شرط ان لا يضربه أحد . دنى منه الضابط . فتح السحاب ، ووضع على صدره قطعة معدنية راح ينقّلها من مكان إلى آخر . طلب منهما ان يقلباه على ظهره فقلباه . صار ينظر في بياض السرير . وضع الضابط القطعة المعدنية على ظهره ، ونقّلها ايضا . جرده من لباسه ، ضرب على ركبتيه بمطرقة صغيرة . فتح جفناه ، ونظر فيهما ، فتح فاه ونظر إلى امعائه ، جس اماكن مختلفة من جسمه ، وكان صامتا . لم يفلح في ايجاد العلاقة بين الأمر الذي تلقاه من الضابط هناك ، وما يفعله هذا الضابط . كان يتصور ، بما تبقى لديه من منطق عفوي ، ان يعطوه سكينا او حبلا لينفذ الأمر ، لكنهم جاءوا به إلى هنا ليعذبوه برفق ، عذاب يدعو الى الشفقة .
أمرهما الضابط ان يصعدا به إلى الأعلى ، فسحباه عبر الممرات ، ثم ادخلاه في زنزانة متحركة ، صعدت بهم إلى مكان آخر . خرجوا ، فالتقطت عيناه صورة المكان الجديد ، ممر طويل يضوع بالرائحة النفاذة ، تقف على جانبيه زنازين كثيرة . سحباه ، وادخلاه إلى زنزانة كبيرة فارغة . اضطربت اعضاؤه وهي تستقبله ببياضها الوحشي ، فحمله الجنديان إلى السرير ، وهما يأمرانه بالهدوء : هون عليك ، ستكون بخير . لا تخف ، لا تخف .
وضعاه على السرير ، وخرجا ليقفا عند الباب ، فأحس بترف الفراش الذي يحمل عظامه بلين . وسبحت نظراته في الفراغ الابيض . ذرات متوهجة من البياض تصطدم في رأسه ، يتردد معها ألامر الرفيق : انتحر . . انتحر . تحولت الكلمة إلى كتلة من الرصاص أثقلت رأسه الغاطس في الوسادة . نهض وأدار عينيه في المكان . بحث في الزوايا عن شيء ما ، حبل أو سكين ، لكن الغرفة كانت خالية من الوسائل . تحسس الجدران ، فوجدها ملساء واكثر نعومة من جدران زنزانته الأولى . امسك بحديد اللوكر الصغير إلى جانب الفراش ، فتسربت إلى يده برودة مترفة ، ولاح امام عينيه غلاف رقيق ، تكاد العين تهمله ، فتحة فالتمع امام عينيه موسى صغير حاد على شكل سمكة مفتوحة البطن .