[b]
علماء الآثار فـي ذمة الخلود
بعدما كانوا يستكشفون القبور وينقبون في
الهياكل العظمية بكل متعة وهم يزيلون تراب آلاف السنين عن حضارات خلت؛ ها
هي أجسادهم الطاهرة تفترش التراب وتوضع في القبور كأثر يجب دفنه، فيما
ينتظرون جيلا موعودا يأتي ليكتشفهم مرة أخرى.
تبدأ قصة علماء الآثار العراقيون ومعاناتهم
منذ الخطى الأولى في مسيرتهم العلمية. فالرواتب المجحفة التي لا تتناسب مع
عطائهم الثر وصعوبة العيش، وقلة الإمكانات في حقول التنقيب من أدوات
ومختبرات يحتاجون إليها في تحليل مكتشفاتهم أو طرق التنقيب حتى أصبح العراق
البلد المتأخر جدا بهذه الإمكانات التي سبقتنا بها دول العالم بآلاف
السنين الضوئية. كل تلك الظروف ألقت بظلالها على علماء الآثار والمنقبين
العراقيين الذين يمتلكون عقولا فذة في اكتشاف الأثر ودراسته، لكن يد
المساعدة لهم قد شلت منذ عشرات السنين.
فعلى الرغم من خطورة عملهم في البراري
والصحاري وخطورة المواد التي يكتشفونها ويلمسونها بأيديهم السمراء والغازات
التي يستنشقونها بعد أن تظهر لهم في أثناء التنقيب.. كل هذا ولا يوجد باب
من أبواب صرف الخطورة لهم أو تعويضهم بمبلغ مالي عن هذه الإخطار. ناهيك عن
انعدام المؤتمرات العلمية التي قلما نراها في بلد الحضارة، وعدم مواكبة ما
وصل إليه العالم الحديث. فهل سمعت عن مؤتمر للسومريات أو للبابليات أو
للأكديات أو للآشوريات عقد في بغداد؟ وهل سمعت عن مؤتمر عالمي للآثار عقد
لدراسة آخر المكتشفات العلمية؟ كل هذه الأمور وأخرى يصعب فتح النقاش بها
أجبرت عالم الآثار العراقي لأن ينظر خارج الحدود ولفرصة تلوح بالأفق فلعلها
تفضي به الى بيئة تقدر ما يعمله أو يكتبه. والعجيب إننا سمعنا قبل أيام
بانعقاد مؤتمر عالمي كبير للآشوريات في امستردام!
العالم كله ينظر إلى حضارة العراق بكل تقديس،
ويتمنى كل منقب عالمي أن يمسك تراب العراق ويستكشف كنوز الماضي العظيم،
ويحلم المنقبون دوما بزيارة العراق البلد الذي وضع أسس المدنية والاكتشافات
الأولى من الكتابة والعجلة والمكاييل والموازين ودولاب الفخار وقواميس
الزراعة وطرق الصناعات وآليات التجارة وأسس الاقتصاد وأنشأ القوانين
الأولى، وكانت هنا أول قصيدة حب، وأول قيثارة تعزف لحن الحياة، وأول برلمان
يناقش أوضاع البلاد بكل ديمقراطية بلا تسلط واستبداد. كانت هنا الملحمة
الأولى، والقصة الأولى، والشاعرة الأولى، واللوحة التي بقت تصارع الزمن من
دون أن تحتاج إلى متحف يضمها لكي يشاهدها الناس بل إلى قلوب تعشقها وتفهم
معناها.
مع كل هذه الهواجس عاش الآثاري العراقي
مفتخرا مرة بعظمة أرضه وتاريخه وحضارته، وبؤسه بوضعية تلول أهملها الزمن
بلا جمال أو روح مرة ثانية. فنحن الآن في العام 2013 ولم ينقب سوى 1 % من
آثار هذا البلد المترامية الأطراف والتي تجاوزت العشرين ألف موقع.
كبر هذا العالم الآثاري ووضع نظارة ليرى جيدا
ما يحدث فقد تعبت عيناه.. آثاري يهوى الانبطاح على الأرض وكأنه يقبل
معشوقته، لكنه أراد أن تلامس الآثار جميع أعضاء جسمه وينقب كما يشتهي.
الآثاريون أصحاب الروح الطيبة ذهبوا إلى أثر
يضمهم من مرارة السنين وغربة الأيام، وودعناهم واحدا واحدا.. تذكرناهم
عندما مرت أخبار رحيلهم في شريط الأخبار التلفزيوني.. ربما لأنهم كانوا
يعشقون التراب فاستعجلوا الرحيل، أو أنهم يعشقون بواطن الأرض فاختاروها
ملاذات آمنة لهم.
بالأمس فقدنا دوني جورج، أحد كبار علماء
الآثار، الذي عانى من سرقة المتحف العراقي وقبل الأيدي لحمايته من دون
جدوى. رحل حزينا غريبا في بلد بعيد وعينه لم تفارق العراق لحظه واحدة.
وبعد حين فقدنا فوزي رشيد ذلك الكنز المعرفي
الكبير الذي شاءت روحه أن تموت في العراق بعدما أتعبته محطات السفر
الكثيرة. ذلك العالم الذي ترجم شرائع العراق القديم، وكتب عن ملوكه؛ رحل
بهدوء حتى لا يؤذي أحدا.. رحل ولا نعلم أن برحيله سقطت أهم دعامات علم
الآثار في العراق.
وبعده فقدنا عالم آثار آخر انه عبد الإله
قارئ المسماريات واللغات القديمة الأستاذ الكبير ومترجم الألواح. ذهب هو
الآخر سريعا مودعا قسم الآثار الذي كان رئيسا له لسنين.
وفي غفوة الزمن الصعب رحل عنا بدون أن نشبع
منه وكأنه رحل في غير موعده.. انه بهنام أبو الصوف عالم الآثار الفذ صاحب
القول الشهير الذي سمعت منه "الآثاري الذي لا تتلطخ يداه بالتراب ليس
آثاريا" صاحب قلم ثر وموسوعة آثارية كبيرة. كان ينتقد بشدة التنقيبات التي
تتم الآن في العراق وهو يقول "إنها أشبه ما تكون بالتخريب وليس التنقيب"
لقلة الإمكانات وانعدام الأجهزة والمختبرات ولأنها أتت بدون دراسة كافية
لها، كما تركت تلك المواقع من دون حماية بعد انتهاء موسم التنقيب وكأننا
فتحناها للصوص. كان حريصا على الآثار يعشقها.. يتألم قلبه عندما يسمع
بسرقتها أو تخريبها.
وقبل يومين فقدنا عالم آثار آخر انه برهان
شاكر ذلك الآثاري الكبير الذي كان مدير عام التحريات (التنقيبات سابقا)
صاحب القلب الطيب والروح الكبيرة واليد التي تعودت على المعول.. سارت
الآثار بدمه مبدأ وقضية وقدم كل ما لديه لخدمة آثار وحضارة العراق.
ولا ننسى أيضا شيخ السومريات فاضل عبد الواحد
الذي هو الآن طريح الفراش خارج العراق بين الحياة والموت، فهو الذي غاص
بالسومريين وكتب عن أدبهم وأساطيرهم.. سومر أسطورة وملحمة تشهد بذلك،
والطوفان يتذكره، وحتى عشتار ومأساة تموز أصبحت مأساته. لا يوجد من يطرق
الباب عليه، في حين ينتظر أن ينعى اسمه في قنوات العراق الفضائية. من
هولاء؟ ومن أي كوكب أتوا؟ ما عملهم؟ ماذا يريدون؟ أي حضارة تتكلم عنهم؟ لا
اعلم هل هم عراقيون؟ وإذا كانوا عراقيين فلماذا نذكرهم بعد رحيلهم ونكرمهم
بعد زوالهم؟ لماذا لا تنصب تماثيل لذكراهم؟ لماذا لا نهتم بمنقبي وعلماء
الآثار الآن حتى لا يرحلوا عنا من دون أن نحس بهم.. حتى لا تسيل دموعنا
وجعا لهم. سلام عليهم يوم ولدوا ويوم عاشوا في مخاض الحرمان وتعب السنين
وآهات السلطة وتهميش الحكومات، ويوم مسكت أيديهم معاول الزمن واستظهرت
حضارة الرافدين وأسرارها، ويوم مسكت أصابعهم أقلام المجد ليسطروا بأحرف من
ذهب ما حققه القدماء، ويوم رحلوا عنا بلا مقدمات، وودعونا بلا استئذان أو
سلام، ويوم وضعت أجسادهم تحت التراب.
* منقب آثار عراقي / دائرة آثار ذي قار
http://www.alaalem.com/index.php?news=%DA%E1%E3%C7%C1+%C7%E1%C2%CB%C7%D1+%DD%DC%ED+%D0%E3%C9+%C7%E1%CE%E1%E6%CF&aa=news&id22=4438
[/b][/b]
[b]
عامر عبد الرزاق الزبيدي
عامر عبد الرزاق الزبيدي
علماء الآثار فـي ذمة الخلود
بعدما كانوا يستكشفون القبور وينقبون في
الهياكل العظمية بكل متعة وهم يزيلون تراب آلاف السنين عن حضارات خلت؛ ها
هي أجسادهم الطاهرة تفترش التراب وتوضع في القبور كأثر يجب دفنه، فيما
ينتظرون جيلا موعودا يأتي ليكتشفهم مرة أخرى.
تبدأ قصة علماء الآثار العراقيون ومعاناتهم
منذ الخطى الأولى في مسيرتهم العلمية. فالرواتب المجحفة التي لا تتناسب مع
عطائهم الثر وصعوبة العيش، وقلة الإمكانات في حقول التنقيب من أدوات
ومختبرات يحتاجون إليها في تحليل مكتشفاتهم أو طرق التنقيب حتى أصبح العراق
البلد المتأخر جدا بهذه الإمكانات التي سبقتنا بها دول العالم بآلاف
السنين الضوئية. كل تلك الظروف ألقت بظلالها على علماء الآثار والمنقبين
العراقيين الذين يمتلكون عقولا فذة في اكتشاف الأثر ودراسته، لكن يد
المساعدة لهم قد شلت منذ عشرات السنين.
فعلى الرغم من خطورة عملهم في البراري
والصحاري وخطورة المواد التي يكتشفونها ويلمسونها بأيديهم السمراء والغازات
التي يستنشقونها بعد أن تظهر لهم في أثناء التنقيب.. كل هذا ولا يوجد باب
من أبواب صرف الخطورة لهم أو تعويضهم بمبلغ مالي عن هذه الإخطار. ناهيك عن
انعدام المؤتمرات العلمية التي قلما نراها في بلد الحضارة، وعدم مواكبة ما
وصل إليه العالم الحديث. فهل سمعت عن مؤتمر للسومريات أو للبابليات أو
للأكديات أو للآشوريات عقد في بغداد؟ وهل سمعت عن مؤتمر عالمي للآثار عقد
لدراسة آخر المكتشفات العلمية؟ كل هذه الأمور وأخرى يصعب فتح النقاش بها
أجبرت عالم الآثار العراقي لأن ينظر خارج الحدود ولفرصة تلوح بالأفق فلعلها
تفضي به الى بيئة تقدر ما يعمله أو يكتبه. والعجيب إننا سمعنا قبل أيام
بانعقاد مؤتمر عالمي كبير للآشوريات في امستردام!
العالم كله ينظر إلى حضارة العراق بكل تقديس،
ويتمنى كل منقب عالمي أن يمسك تراب العراق ويستكشف كنوز الماضي العظيم،
ويحلم المنقبون دوما بزيارة العراق البلد الذي وضع أسس المدنية والاكتشافات
الأولى من الكتابة والعجلة والمكاييل والموازين ودولاب الفخار وقواميس
الزراعة وطرق الصناعات وآليات التجارة وأسس الاقتصاد وأنشأ القوانين
الأولى، وكانت هنا أول قصيدة حب، وأول قيثارة تعزف لحن الحياة، وأول برلمان
يناقش أوضاع البلاد بكل ديمقراطية بلا تسلط واستبداد. كانت هنا الملحمة
الأولى، والقصة الأولى، والشاعرة الأولى، واللوحة التي بقت تصارع الزمن من
دون أن تحتاج إلى متحف يضمها لكي يشاهدها الناس بل إلى قلوب تعشقها وتفهم
معناها.
مع كل هذه الهواجس عاش الآثاري العراقي
مفتخرا مرة بعظمة أرضه وتاريخه وحضارته، وبؤسه بوضعية تلول أهملها الزمن
بلا جمال أو روح مرة ثانية. فنحن الآن في العام 2013 ولم ينقب سوى 1 % من
آثار هذا البلد المترامية الأطراف والتي تجاوزت العشرين ألف موقع.
كبر هذا العالم الآثاري ووضع نظارة ليرى جيدا
ما يحدث فقد تعبت عيناه.. آثاري يهوى الانبطاح على الأرض وكأنه يقبل
معشوقته، لكنه أراد أن تلامس الآثار جميع أعضاء جسمه وينقب كما يشتهي.
الآثاريون أصحاب الروح الطيبة ذهبوا إلى أثر
يضمهم من مرارة السنين وغربة الأيام، وودعناهم واحدا واحدا.. تذكرناهم
عندما مرت أخبار رحيلهم في شريط الأخبار التلفزيوني.. ربما لأنهم كانوا
يعشقون التراب فاستعجلوا الرحيل، أو أنهم يعشقون بواطن الأرض فاختاروها
ملاذات آمنة لهم.
بالأمس فقدنا دوني جورج، أحد كبار علماء
الآثار، الذي عانى من سرقة المتحف العراقي وقبل الأيدي لحمايته من دون
جدوى. رحل حزينا غريبا في بلد بعيد وعينه لم تفارق العراق لحظه واحدة.
وبعد حين فقدنا فوزي رشيد ذلك الكنز المعرفي
الكبير الذي شاءت روحه أن تموت في العراق بعدما أتعبته محطات السفر
الكثيرة. ذلك العالم الذي ترجم شرائع العراق القديم، وكتب عن ملوكه؛ رحل
بهدوء حتى لا يؤذي أحدا.. رحل ولا نعلم أن برحيله سقطت أهم دعامات علم
الآثار في العراق.
وبعده فقدنا عالم آثار آخر انه عبد الإله
قارئ المسماريات واللغات القديمة الأستاذ الكبير ومترجم الألواح. ذهب هو
الآخر سريعا مودعا قسم الآثار الذي كان رئيسا له لسنين.
وفي غفوة الزمن الصعب رحل عنا بدون أن نشبع
منه وكأنه رحل في غير موعده.. انه بهنام أبو الصوف عالم الآثار الفذ صاحب
القول الشهير الذي سمعت منه "الآثاري الذي لا تتلطخ يداه بالتراب ليس
آثاريا" صاحب قلم ثر وموسوعة آثارية كبيرة. كان ينتقد بشدة التنقيبات التي
تتم الآن في العراق وهو يقول "إنها أشبه ما تكون بالتخريب وليس التنقيب"
لقلة الإمكانات وانعدام الأجهزة والمختبرات ولأنها أتت بدون دراسة كافية
لها، كما تركت تلك المواقع من دون حماية بعد انتهاء موسم التنقيب وكأننا
فتحناها للصوص. كان حريصا على الآثار يعشقها.. يتألم قلبه عندما يسمع
بسرقتها أو تخريبها.
وقبل يومين فقدنا عالم آثار آخر انه برهان
شاكر ذلك الآثاري الكبير الذي كان مدير عام التحريات (التنقيبات سابقا)
صاحب القلب الطيب والروح الكبيرة واليد التي تعودت على المعول.. سارت
الآثار بدمه مبدأ وقضية وقدم كل ما لديه لخدمة آثار وحضارة العراق.
ولا ننسى أيضا شيخ السومريات فاضل عبد الواحد
الذي هو الآن طريح الفراش خارج العراق بين الحياة والموت، فهو الذي غاص
بالسومريين وكتب عن أدبهم وأساطيرهم.. سومر أسطورة وملحمة تشهد بذلك،
والطوفان يتذكره، وحتى عشتار ومأساة تموز أصبحت مأساته. لا يوجد من يطرق
الباب عليه، في حين ينتظر أن ينعى اسمه في قنوات العراق الفضائية. من
هولاء؟ ومن أي كوكب أتوا؟ ما عملهم؟ ماذا يريدون؟ أي حضارة تتكلم عنهم؟ لا
اعلم هل هم عراقيون؟ وإذا كانوا عراقيين فلماذا نذكرهم بعد رحيلهم ونكرمهم
بعد زوالهم؟ لماذا لا تنصب تماثيل لذكراهم؟ لماذا لا نهتم بمنقبي وعلماء
الآثار الآن حتى لا يرحلوا عنا من دون أن نحس بهم.. حتى لا تسيل دموعنا
وجعا لهم. سلام عليهم يوم ولدوا ويوم عاشوا في مخاض الحرمان وتعب السنين
وآهات السلطة وتهميش الحكومات، ويوم مسكت أيديهم معاول الزمن واستظهرت
حضارة الرافدين وأسرارها، ويوم مسكت أصابعهم أقلام المجد ليسطروا بأحرف من
ذهب ما حققه القدماء، ويوم رحلوا عنا بلا مقدمات، وودعونا بلا استئذان أو
سلام، ويوم وضعت أجسادهم تحت التراب.
* منقب آثار عراقي / دائرة آثار ذي قار
http://www.alaalem.com/index.php?news=%DA%E1%E3%C7%C1+%C7%E1%C2%CB%C7%D1+%DD%DC%ED+%D0%E3%C9+%C7%E1%CE%E1%E6%CF&aa=news&id22=4438
[/b][/b]