مفارقة أميركية
في كل مرة تجرى انتخابات في الولايات المتحدة، تمتلئ الساحات والشوارع بالأميركيين بين مؤيد لهذا المرشح أو ذاك، وأنا أشاهد ملايين الأميركيين الذين يعبرون عن حماسهم الشديد لفوز مرشحهم الديمقراطي أو الجمهوري، تذكرت معلومة طالما تحدث بها بعض العراقيين من الذين عملوا مع القوات الأميركية التي غزت العراق عام 2003، قبل أن تهزمها المقاومة العراقية أواخر عام 2011، فالغالبية العظمى من الجنود والمجندات في الجيش الأميركي لا يعرفون الموقع الجغرافي للعراق، وقد قطعوا آلاف الكيلومترات لغزو هذا البلد، وفي الأسابيع الأولى كانوا يقولون إنهم جاؤوا إلى العراق لإجراء انتخابات وتنصيب رئيس منتخب، وبعد أن تبدأ الديمقراطية في العراق سيرحلون ويأخذون معهم صورهم وبعض الأشياء العراقية، ليتفاخروا أمام أولادهم وأهلهم بدورهم في بناء هذا البلد، وتعليم الناس فيه على الديمقراطية.
المفارقة أن هؤلاء الجنود والمجندات من المتعلمين، وهم يشرحون الكثير من الأمور عن الحاسبات والإدارة والاقتصاد، لكنهم لا يعرفون سبب ذهابهم إلى بلد يبعد عنهم آلاف الكيلومترات مثل العراق وأفغانستان.
حاولت البحث في بعض جوانب الجهل لدى الأميركيين، وبالتحديد ما يتعلق بالدول التي تقرر الولايات الأميركية غزوها، فاكتشفت أن الأميركيين لا يدرسون أبناءهم مادة الجغرافيا، والهدف من ذلك، لكي يصبح الملايين من أبنائهم وبناتهم عبارة عن قطيع يساق حيث يريد صاحب القرار، لهذا خدم في العراق خلال سنوات الاحتلال أكثر من مليوني أميركي، ووصلوا إلى هذا البلد وهم يرتدون البلاهة، وخرج الكثير منهم جثثا هامدة، أو مجانين ومعوقين، في حين عاد سبعين في المئة منهم في أحوال نفسية شديدة السوء، بعد أن حول المقاومون في العراق أيامهم إلى كوابيس ورعب، فالقصف يطاردهم في كل مكان، والموت يتربص بهم في الطرقات والقرى والمدن.
فإذا حصد الشباب الأميركي كل هذا القتل والدمار، وسقط الاقتصاد الأميركي نتيجة لسياسات البيت الأبيض وغزواتها للدول، وازداد عدد الفقراء خلال السنوات الأخيرة ليتجاوز الخمسة وأربعين مليونا، وانتشرت ظاهرة المشردين في الولايات الأميركية، وتم تشييد العديد من المشافي لتقديم الرعاية للمجانين العائدين من العراق وأفغانستان، وقائمة الخيبات والدمار طويلة، رغم ذلك تجد الأميركيين يرقصون فرحا ابتهاجا بديمقراطية البيت الأبيض.
صحيح أن باراك أوباما قد قرأ في وقت مبكر حجم هزيمة أميركا في العراق، وحاول الترويج لنفسه، بالاعتراف بقوة المقاومة العراقية وإصرارها على طرد الأميركيين من بلدهم، وهو أمر أدركه الأميركيون بجلاء منذ بداية عام 2006، وأعلن في حملته الانتخابية الأولى أنه ضد الحرب، ولم يكن أمامه إلا الانصياع لإرادة العراق المقاوم والاستعجال بسحب من تبقى من جنوده على قيد الحياة، وأن الجميع في أميركا وسواها من العالم يقرون بنكبة أميركا الكبرى في العراق وأفغانستان، لكن ألم يكن الأجدر بالأميركيين أن يتدارسوا حجم الهلاك والدمار والخسائر التي جلبتها لهم هذه الديمقراطية، ويضعوا أمامهم جردا بالإيجابيات والسلبيات، وهم الذين دفعوا وما زالوا يدفعون الضرائب الباهظة للميزانية الأميركية، وفي كل حقبة يصنع قادة البيت الأبيض عدوا ليقنعوا الشعب الأميركي بأنه مهدد من عدو خارجي.
فقد صرفت الولايات المتحدة مبالغ طائلة جدا في ميدان سباق التسلح إبان الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، ولم تُستخدم تلك الأسلحة، وخرج السوفييت من اللعبة، في حين سارع البيت الأبيض لاختراع عدو جديد تحت مسمى مكافحة (الإرهاب)، ولأن الشعب الأميركي مخدر بالديمقراطية فقد صدق كل ما قاله البيت الأبيض وأيد الإدارة الأميركية في غزوها لأفغانستان والعراق.
لكن ألا يتأمل الأميركيون المشهد بكل جراحه وخسائره وخيباته، ويتساءلون عن المسار الذي يقودهم إليه زعماؤهم؟ ألا يتدارس العقلاء فيهم نتائج سبعة عقود من الحكم الديمقراطي منذ نهاية الحرب الثانية وحتى الآن، ويضعوا الأموال التي صرفتها الإدارات الأميركية في الحرب الفيتنامية والحروب الأخرى، وأخيرا في أفغانستان والعراق، وحجم المبالغ التي صُرفت إبان الحرب الباردة، والأموال التي تقدم سنويا إلى إسرائيل.
هذه الأموال الطائلة لو صرفت في ميادين البناء والتنمية الحقيقة، لما عاش أميركي واحد على القمامة، كما يعيش الملايين الآن، ولأصبحت أميركا النموذج الحقيقي في الديمقراطية والبناء.
الديمقراطية الحقيقية لا تحمل عصا الحروب والغزوات، وتحيل ملايين الناس إلى مشردين وفقراء وتخسر هيبتها في بلد مثل العراق، الذي هزم مقاوموه أكبر قوة في العالم.
وليد الزبيدي
كاتب عراقي
كاتب عراقي
http://www.alwaleedonline.com/NewsDetails.aspx?ID=28963