المخابرات الإسرائيلية ما بعد الربيع العربي
عدنان ابو عامر
سلسلة الإخفاقات
البيئة الإستراتيجية
الحقول الأمنية
الاستخبارات المضادة
ربما لا يتسع المجال لذكر جملة الخسائر التي منيت بها إسرائيل بفعل الثورات العربية الأخيرة، لكن الانتكاسات الأهم والأخطر التي ليس بالإمكان تجاوزها أو القفز عنها تلك المتعلقة بالعمل الأمني الاستخباري، ويمكن تركيزها في نقطتين أساسيتين: الأولى مفاجأة مجتمع المخابرات الإسرائيلية باندلاع هذه الثورات وعدم توقعه لها، على الأقل بهذه السرعة والديمومة، والثانية خسارتها المدوية لأصدقاء وحلفاء أمنيين من الطراز الأول في محيطها العربي.
ولذلك، فور أن استيقظت إسرائيل من سكرتها وآن أوان فكرتها، بدأت بإعادة صياغة لمستقبل علاقاتها الأمنية في المنطقة، وأساليب عملها الاستخباري، وهو ما ينشغل به هذا التحليل في السطور التالية.
سلسلة الإخفاقات
بعد فترة وجيزة من تولي الجنرال "أفيف كوخافي" لمسؤولية جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" قدم تقريرا أمنيا إلى لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، قال فيه إن النظام المصري ما زال قويا، وإن المظاهرات التي تعم مصر في حينه سرعان ما سيتم استيعابها واحتواؤها، مستبعدا حصول تطورات دراماتيكية، بما فيها سقوط النظام وتنحي الرئيس.
هنا، توقف الإسرائيليون مطولا عند سر هذا الإخفاق المدوي للدوائر الأمنية في عدم قدرتها على تنبؤ نهايات أحداث تدور في ساحاتها الخلفية، مع العلم أنه لم يكن الأول من نوعه، فهناك سلسلة من الإخفاقات في عدم تقدير أحداث بعينها وقعت فيها المخابرات الإسرائيلية، ومن أهمها: المفاجأة بسقوط سور برلين، وانهيار النظام السوفياتي، وانحلاله لاحقا، وعدم التأكد من وقف إطلاق النار في حرب العراق وإيران سنة 1988، وتعرض إسرائيل لصواريخ عراقية سنة 1991، ومفاجأة الدوائر الأمنية بأحداث النفق في المسجد الأقصى في سبتمبر/أيلول 1996.
"
انعكست سلسلة الإخفاقات سلبا على واقع إسرائيل كدولة، وعلى علاقاتها الخارجية، وسياساتها مع دول العالم
"
ويمكن هنا الحديث عن ثلاث مشاكل تنشأ لدى المخابرات الإسرائيلية، وتؤدي لفشلها الاستخباري في تقدير مثل هذه المواقف التاريخية، ومنها الثورات العربية، وتتمثل في:
1- تدفق المادة الخام غير الدقيقة إلى القادة.
2- توزيع المادة الاستخبارية على محافل البحث وبعثرة معلوماتها، وعدم الخروج بتقدير جيد.
3- الترهل الإداري الذي يلعب دورا هاما في عملية الإخفاق الأمني.
وبالتالي، انعكست سلسلة الإخفاقات سلبا على واقع إسرائيل كدولة، وعلى علاقاتها الخارجية، وسياساتها مع دول العالم, ولهذا تقع المسؤولية الكبرى على عاتقها، مما يحتم عليها إعادة النظر في العديد من سياساتها الأمنية والاستخبارية.
البيئة الإستراتيجية
أظهرت الثورات العربية الأخيرة أمام صانع السياسة الأمنية الإسرائيلية ما يمكن وصفها بـ"الميول القائمة" في البيئة الإستراتيجية، التي يجب على الاستخبارات الإسرائيلية الاستعداد لها في العقد المقبل، وتشير إلى أن بعض الظواهر العالمية والحراكات الإقليمية ستواصل تشكيل صورة العالم في السنوات المقبلة، أما سماتها الأساسية فهي:
1- مواصلة ذوبان الحدود بين الدول بوصفها حاجزا أمام حركة المعلومات، السكان، التكنولوجيا ورأس المال على وجه البسيطة.
2- تناقص الشرعية لاستخدام القوة العسكرية.
3- مواصلة الاقتصاد، كما الثورة التكنولوجية وعصر المعلومات أداء دور المحرك في تقدم العمل الأمني.
4- تعاظم عوامل القوة المحلية في الدول ذات السلطة الضعيفة، وأمثلتها: السلطة الفلسطينية، لبنان، العراق، مصر، السودان، أفغانستان، وتشكل هذه المناطق مرتعا للجهات المعادية.
"
أظهرت الثورات العربية الأخيرة أمام صانع السياسة الأمنية الإسرائيلية ما يمكن وصفها بـ"الميول القائمة" في البيئة الإستراتيجية، التي يجب على الاستخبارات الإسرائيلية الاستعداد لها في العقد المقبل
"
5- الصعوبة في تحقيق الردع الإسرائيلي في هذه المناطق عبر استخدام القوة الشاملة، ما يستدعي، بالتالي، عمليات جراحية ضد الجهات المعادية، وهي عمليات تتطلب بداهة فعلا استخباريا محكما.
كما أبرزت الثورات العربية أمام من يصوغ التوجهات الأمنية في إسرائيل، مواصلة منظومة القوى الدولية ميلها للانتقال من عالم أحادي يملي فيه الغرب جدول الأعمال العالمي، إلى عالم متعدد الأقطاب، تتواجد فيه قوى عالمية قوية أخرى، مثل الصين وروسيا، الطامحتين لاستعادة دور اللاعب القائد والاتحاد الأوروبي، وهو ما تجلى في أوضح صوره أثناء أحداث الثورة السورية.
ورغم استمرار هذه الثورات والانتفاضات العربية وبقائها ردحا من الوقت على جدول صانع القرار الدولي والإقليمي، سيواصل النزاع العربي الإسرائيلي ترؤس جدول الأعمال الأمني والسياسي لإسرائيل كنزاع قومي ديني وحضاري، وفي قلب هذا النزاع سيبقى الصراع مع الفلسطينيين.
وهناك بؤرة نزاع ثانية بين إسرائيل وسوريا وحزب الله، ومن الجائز في السنوات المقبلة حدوث مد وجزر في العملية السياسية، وهنا يجب الأخذ بالحسبان نشوء دولة فلسطينية "مسالمة"، أو معادية/غير مستقرة، وربما اتفاقيات أو حروب مع دول عربية أخرى، قد يشملها طوفان الثورات.
صحيح أن الأنظمة العربية اليوم تسلم بوجود إسرائيل، ولكن قد يتعزز الخط الأيديولوجي الرافض لحقها في الوجود، والتسليم بها في أوساط قسم من سكان وصناع القرار في العالم العربي.
ولذلك توصي مراكز البحث الأمنية بالتركيز على ما تسميه ظاهرة "انعدام اليقين"، مطالبة الأخذ بعين الاعتبار تعزز التيارات الإسلامية، باعتبارها القوى الأكثر ربحا وكسبا من سقوط الأنظمة الحليفة لإسرائيل.
الحقول الأمنية
يمكن تلخيص أهم المخاطر الأمنية على إسرائيل في العقد المقبل في مرحلة ما بعد استقرار الأوضاع في دول الربيع العربي على النحو التالي:
1- السلاح غير التقليدي بأنواعه المختلفة وإمكانية وصول سلاح نووي لأيدي دول أو جهات متطرفة.
2- الصواريخ على الجبهة الداخلية، خصوصا من المنظومة الشمالية، إيران والمنظومة الفلسطينية.
3- الجيوش النظامية في المنطقة التي تملك أسلحة متطورة، لا سيما بعد انتخاب رؤساء لا يخفون عداوتهم لإسرائيل، وتحديدا مصر.
4- أخطار شبه عسكرية وعصابية، من قبل منظمات مسلحة غير نظامية، قد تشكل لإسرائيل معضلة أمنية عسكرية ليس لها حل، وتحديدا في سيناء والجولان، فضلا عن قطاع غزة وجنوب لبنان.
وهناك إمكانية لما يسمى باللغة الاستخبارية الدارجة بـ"تقاطع المخاطر"، في ضوء أن عددا من المخاطر القائمة في البيئة الإستراتيجية يمكن أن تتعاظم مثل:
1- سقوط أنظمة عربية، بالترافق مع خطر امتلاك سلاح نووي، على شكل الخوف القائم حاليا إزاء إمكانية سقوط النظام السوري، والتركيز الإسرائيلي على مآل السلاح الكيماوي.
2- استعداد جهات متطرفة لتنفيذ عمليات ترهيب هائلة، بالترافق مع تسرب سلاح غير تقليدي.
3- تبلور دولة فلسطينية معادية بالترافق مع انتفاضة في أوساط عرب 48، لمحاكاة إخوانهم في الدول العربية.
"
يمكن تلمس الآثار العملانية لهذه الأخطار على نظرية الأمن الإسرائيلية، بصورة تجعل رجال المخابرات الإسرائيلية مقلين في النوم هذه الأيام بصورة ملحوظة وأكثر من المعتاد
"
ويمكن تلمس الآثار العملانية لهذه الأخطار على نظرية الأمن الإسرائيلية، بصورة تجعل رجال المخابرات الإسرائيلية مقلين في النوم هذه الأيام بصورة ملحوظة وأكثر من المعتاد، وهو ما أشار إليه رؤساء أجهزة "الموساد والشاباك وأمان"، خاصة أن بعض هذه الآثار على الاستخبارات الإسرائيلية تفرض عليها القيام بالإجراءات التالية:
أ- شن حرب سرية في جبهة واسعة في ضوء طابع الأعداء، وغياب المشروعية السياسية لاستخدام النار، فالعمل السري يسمح بتقليص مخاطر التصعيد، رغم أن ذلك ليس مضمونا.
ب- تنفيذ عمليات أمنية جراحية معقدة في مناطق بعيدة عن حدود إسرائيل.
ج- تنفيذ عمليات إحباط واسعة ضد الأعمال السرية، والمهام الإستراتيجية على الصعيد الداخلي.
د- تطوير قدرات هجومية ودفاعية في "الشبكة العنكبوتية"، كموضع قتال جديد في عصر المعلومات.
هـ- توفير معلومات دقيقة، وبكمية عالية، لتجسيد القدرات الأمنية للمخابرات الإسرائيلية.
و- توفير معلومات لتحقيق مصالح أمنية سياسية، لردع الأعداء عن الحرب، وإحباط مشاريعهم، بالكشف عن نواياهم، أو توفير معلومات استخبارية ضد أعداء يعملون تحت ستار من السرية والخداع للأسرة الدولية.
ز- المساعدة في الحرب على العقول، بكشف المعلومات التي تؤثر على شرائح مختلفة، بهدف المساعدة في تحقيق أهداف أمنية، قاصدة بذلك الخداع والحرب النفسية.
الاستخبارات المضادة
كشفت بعض التجارب الأمنية والعمليات الاستخبارية الإسرائيلية في سابق السنوات عن إخفاقات كبيرة لا مجال لإنكارها، ولم يكن السبب فيها إبداعا فلسطينيا أو عربيا فقط، بقدر ما عملت خلالها الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية بتواز دون تنسيق تام بينها، يعزو البعض سببه إلى العلاقات الشخصية غير الودية بين رؤساء أجهزة الأمن الاستخبارية.
وهذا يتطلب التركيز في قادم الأيام على ضرورة التنسيق بينها لأهمية وجوده وخطورة انعدامه، ولا سيما أن متابعة الحراك العربي ومآلاته المتوقعة تأتي ضمن صلاحيات واختصاصات جهازي "الموساد وأمان" بصورة خاصة، خاصة أن هناك إقرارا في بعض الأحيان بأن للأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية مبنى تنظيميا ضعيفا لا يلائم متطلبات مواجهة التحديات الأمنية الجديدة في إسرائيل، بحيث لا يوجد مركز للأجهزة، أو رأس مدبر لها.
"
كشفت بعض التجارب الأمنية والعمليات الاستخبارية الإسرائيلية في سابق السنوات عن إخفاقات كبيرة، لا مجال لإنكارها، ولم يكن السبب فيها إبداعا فلسطينيا أو عربيا فقط
"
وهو ما حدا بالمحافل الأمنية الإسرائيلية للدعوة إلى تشكيل المزيد من شبكات التجسس في الدول العربية، سواء من عاشت أحداث الثورات، أو المتوقع أن تشهدها مستقبلا، على أن يكون لهؤلاء العملاء والجواسيس جملة من الأهداف الخفية والمعلنة، ومنها:
1- جمع المعلومات الأمنية والاستخبارية عن دول بعينها، لا سيما المواقع العسكرية والمحطات الأمنية، التي تعتقد إسرائيل أنها تشكل خطرا عليها مستقبلا في أي مواجهة عسكرية.
2- تدريب الجواسيس على أحدث الأجهزة الإلكترونية، وتحديدهم للأماكن والمخابئ السرية والشقق البديلة التي تستخدمها الشخصيات المعادية في الدول العربية.
3- النيل من الرموز المقاومة في الدول العربية بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات.
4- إمداد أجهزة الأمن الإسرائيلية بالمعلومات الاقتصادية والمشروعات الاستثمارية، السياحية والزراعية، وحركة البورصة وتداول الأوراق المالية، والحصول على معلومات تخص رجال الأعمال.
5- القيام بعمليات تخريب اجتماعي وأخلاقي، بهدف التخريب، لا سيما على صعيد نشر كميات هائلة من المخدرات بمختلف أنواعها، ورعاية شبكات الدعارة، وتجارة الرقيق.
وهكذا، شكل التجسس لإسرائيل، ومازال وسيبقى، سياسة ثابتة تجاه جيرانها، لأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعتقد أن التجسس سيبقى عنوانا أساسيا لسياستها الخارجية، انطلاقا من محددات عدة لا يمكن أن تختفي بين يوم وآخر، أهمها رغبتها بأن تكون على متابعة مكثفة وحثيثة دائمة لما يدور حولها، لأنها تدرك جيدا أن المحيط العربي معاد لها، خاصة أنظمة الحكم الجديدة في مرحلة ما بعد الثورات.
كما أن التغييرات الحاصلة في التهديدات الإستراتيجية على صعيد الثورات العربية وتقدم التكنولوجيا وسهولة الحصول عليها من قبل أطراف معادية يجعل مهمة مواجهتها غير سهلة على جهاز استخباري إسرائيلي واحد، بل يتطلب العمل معا من قبل الأجهزة الاستخبارية، في ظل توقع زيادة قوة "القوى الإسلامية" في العالم والمنطقة، مقابل تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية.
ولهذا جاءت الحوادث العسكرية الأخيرة في سيناء، وانطلاقا منها، لتشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن المشاكل التي سيواجهها الجيش الإسرائيلي فيها ليست لوجستية فحسب، بل بصورة أساسية استخبارية أمنية في فهم الواقع المصري، ويبدو أن من المشاكل في الحروب القادمة لإسرائيل، مستوى التوقعات العالية من الجيش، بفضل التقارير الأمنية المغلوطة!
المصدر:الجزيرة
http://www.alwaleedonline.com/NewsDetails.aspx?ID=28015