أضواء على وضع الأسس القانونية لمشروع العفو العام
بقلم المحامي ضياء السعدي
(نقيب المحامين السابق)
بقلم المحامي ضياء السعدي
(نقيب المحامين السابق)
إن البحث في مشروع قانون العفو العام المرتهن حاليا أمام مجلس النواب بالعديد من الخلافات القانونية والسياسية ومديات شموله للجرائم الإرهابية والسياسية والعادية يقتضي ابتداء التأكيد على أهمية وضع الأسس القانونية، والأهداف والمبادئ، التي تضبط أحكامه، وتحاكي الحقيقة والعدالة والمبادئ الإنسانية، وتتفق مع مصالح الشعب العليا بعيدا عن تأثيرات الأحزاب والكتل البرلمانية الضاغطة في بناء الموقف من العفو العام وقانونه وبما يؤمن رؤية موحدة لأسسه وحيثياته المقصودة، لتشكل مخرجا في الإسراع بانجازه والمصادقة عليه. وهذا ما يتطلب الوقوف على بعض المؤشرات والظواهر، ومراعاتها وتحري الحلول والمعالجات عند تحديد أهداف القانون، ونطاق سريانه والتي يمكن ايرادها على الوجه التالي:
اولا: ازدياد عدد المصادرة حقوقهم وحرياتهم نتيجة الاعتقالات خارج نطاق القانون، وعلى وجه التحديد، الموقوفين بدون مذكرات قضائية أصولية، أو بسبب الوشايات والإخباريات والتقارير السرية، وتوجيه الاتهامات وفق المادة (4) من قانون مكافحة الإرهاب، ما أدى إلى ظاهرة اكتظاظ السجون ومراكز الاعتقال، وعدم استيعاب المتوفر منها .
ثانيا: التفريق بين مرتكبي الجرائم الإرهابية، ومقاومي الاحتلال العسكري الأمريكي، الذين سيقوا إلى المحاكم من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة بتهمة المقاومة الوطنية، والتعرض للقوات العسكرية المحتلة .
ثالثا: ضرورة الاستجابة لنداء المنظمات الحقوقية والإنسانية، الوطنية والدولية، لوقف الاعتقال خارج نطاق القانون، الذي أدى إلى تفاقم التذمر والاستنكار الشعبي، وتصاعد المطالبات المحلية والدولية، بوضع حد لمعاناة المسجونين والمحتجزين.
رابعا: الاستفادة من الآثار التي ترتبت على قانون العفو رقم (19) الصادر سنة 2008 من حيث الصياغة القانونية لنصوصه، والمشمولين بأحكامه وآليات تطبيقه، وضمان وقف التدخلات الخارجية بشؤون اللجان القضائية المكلفة بتنفيذه، والذي أدى إلى شمول البعض من المحكومين أو الموقوفين دون الآخر، سواء كان بسبب غموض النصوص القانونية، أو التدخل في اوامر التنفيذ.
ولكي لا يتحول قانون العفو إلى أداة قمع وهضم للحقوق المشروعة، يكون من المهم للغاية التفريق بين مقاومة الاحتلال وبين الجرائم الإرهابية عند تحديد المشمولين بقانون العفو العام، أي النظر إلى طبيعة الجريمة المقترفة دون الاعتماد على تصنيف الجرائم، من حيث العقوبات الجزائية، ويترتب على ذلك تحديد الجرائم الإرهابية، ووصفها بصورة دقيقة، بما يكفل تفريقها وعزلها عن الجرائم الأخرى، وإذا كانت القوانين والأنظمة والأوامر الصادرة عن سلطة الاحتلال الاتلاف المؤقتة تتعارض مع هذا التوجه بقانون العفو من خلال التفريق بين المقاومة والجرائم الارهابية فأن الأمر يتطلب الغاء هذه القوانين التي تحول دون ذلك، لان التوسع في العفو على ضوء المعيار المتقدم، وعدم اقتصاره على بعض الفئات من المحكومين والموقوفين، من شأنه عمليا تعزيز الدعوة نحو مصالحة حقيقية، وهي من المهام الملحة على طريق الوحدة الوطنية، والوقوف بوجه المخاطر المحدقة بالعراق.
الاساس الاخر الذي ينبغي ان يستند عليه قانون العفو هو تقليص الاستثناءات وحصرها، بحيث لا يشمل العفو مرتكبي الجرائم الإرهابية ممن تلطخت أيديهم بدماء العراقيين الأبرياء، وكذلك مرتكبي الجرائم العادية المتعلقة بالاعتداء على المال العام، والفساد الإداري والمالي، والجرائم المخلة بواجبات الوظيفة كالرشوة والاختلاس وخيانة الأمانة، وجرائم الخطف والتزوير.
تتنازع مشروع قانون العفو فكرتان، الأولى تحديد الجرائم المشمولة بالعفو، والثانية إصدار قانون عفو عام شامل دون النظر إلى طبيعة الجرائم المقترفة، مما يؤدي إلى إسقاط العقوبات الجزائية عن مجرمين خطرين اضروا بحقوق الشعب وأمواله واقتصاده، وبما يعبر عن اعتداء وتجاوز خطير على القيم الإسلامية والأخلاقية والإنسانية، وهذا ما يشكل صفحا وتساهلا لا مبرر له!
إن هذا النوع من الجرائم طبع المشهد العام لدوائر ومؤسسات الدولة في حلقاتها العليا من الموظفين الكبار، كالوزراء ووكلائهم والمستشارين والمدراء العامين، وألحقت سلوكياتهم الشائنة أضرارا فادحة بالمصالح العامة وبالمرافق الأساسية للدولة، مما يستوجب الإصرار والاستمرار في تنفيذ برامج التطهير والإصلاح، ومكافحة الفساد، بكل وجوهه وأشكاله، والعقوبات الجزائية من مفردات الردع القانوني العقابي لكل هذه الانحرافات، التي تتعلق بالذمة والشرف والاستقامة، كما أنها تلبي مطالب الشعب، الذي لا يزال في ثورة غضب عارمة ضد سراق أمواله وما انفك يدعو إلى ضمان إعادتها بكل الطرق القانونية الممكنة.
وبهذا الصدد لابد من التأكيد على ادخال جرائم التزوير في نطاق مستثنيات قانون العفو العام، لان هذه الجرائم المقترفة ساعدت المزورين للوثائق والشهادات والألقاب العلمية على تقلد المناصب الحكومية العليا والرفيعة في السلم الوظيفي للدولة، وبأسلوب ممنهج ومدعم من قبل جماعات منظمة لملء الفراغ الحاصل في الوظيفة العامة، عقب احتلال العراق، وبالتالي لا فرق بين مزور وآخر، أو بين كبير وصغير، لان الآثار القانونية واحدة في الحالتين، ولان المزور مارس سلطات حكومية إدارية أو تشريعية أو عسكرية أو أمنية، دون أن تتوفر فيه شروطها القانونية، أي أن الجريمة تتجاوز حدود التزوير والتسلق على الوظيفة العامة إلى غايات ومرام عديدة تتعلق في بناء الدولة ومؤسساتها، والقدرة على أداء اختصاصاتها، أو استخدامها لغايات ابعد من جريمة التزوير.
ولابد من الاحاطة الشاملة بالإعداد الهائلة من المحكومين والموقوفين ضحايا الاتهامات الكيدية، أو المخبر السري، التي لا تتوفر في إخباره الشروط القانونية اللازمة للتعويل عليه في توجيه الاتهامات، والتي لا تخلو من دوافع التعسف والثأر، والتي الهت القضاء و ضللته تحت تأثيرات النزاع السياسي والطائفي والانتقام الشخصي وكذلك الحال بالنسبة للمعتقلين أو الموقوفين أو المحجوزين الذين مضى على مصادرة حرياتهم مدة طويلة، دون توجيه تهمة أو عرض على القضاء أو اتخاذ الاجراءات التحقيقية أو الإحالة على المحاكم، وهذا ما يقتضي من مشروع قانون العفو لغرض تطبيقه على المصادرة حرياتهم بالوصف المتقدم، تقليص المدد التي لم يتم عرض المتهمين خلالها على قاضي التحقيق أو الاحالة على المحاكم بأقل من المدد المحددة في قانون العفو الصادر سنة 2008.
ان اعمال مبدأ التوسع في العفو، وبعد حصر وتحديد طبيعة الجرائم المشمولة بمشروع قانون العفو العام، يتطلب الأخذ بالمدة الزمنية الطويلة السابقة لتاريخ صدوره بالشكل النهائي، والتي ارتكبت خلالها الجرائم المطلوب اعفاء مقترفيها من العقوبة الجزائية، وبالقدر الذي تسمح به القواعد القانونية العامة، وبما يضمن شمول الاعداد الكبيرة من المتهمين اللذين لا يزالون قيد التحقيق أو المحاكمة، وكذلك غير المقبوض عليهم سواء داخل العراق أو خارجه، وإلغاء إجراءات التعقيبات القضائية, وإعطاء الحق للمتضررين من الجرائم المطالبة بحقوقهم الشخصية والمدنية حيث لا يملك القانون إسقاط هذه الحقوق، إلا بإرادة المتضررين أو لمرور مدة التقادم المسقط لهذه الحقوق.
وفي الحقيقة ليس مقبولا الاعفاء من العقوبات الجزائية وبصورة مطلقة وان بدت المبررات والأعذار تفرض نفسها على بعض الجرائم دون الأخرى، فبالإمكان الأخذ بمبدأ الاعفاء الجزئي وإعادة احتساب العقوبات وترتيبها من خلال قانون العفو بتخفيض عقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد، والإعفاء من مدة العقوبة سواء كانت الحبس أو السجن بنسب معينة، مما تبقى من المحكومية أو كامل العقوبة والاستعاضة عن الاسقاط الكامل للعقوبات في بعض الجرائم الى الإعفاء الجزئي منها، وكما سارت عليه قوانين العفو عند معالجتها للعقوبات الصادرة في بعض الجرائم التي تتطلب تخفيض العقوبات تبعا للأسباب والوقائع التي تفرض نفسها والتي يرتئيها المشرع مقبولة من جانبه.
ومن المفيد جدا، لاستكمال العملية التشريعية، الانتباه إلى أن اللجان النيابية ذات العلاقة والاختصاص بمشروع قانون العفو العام أو مجلس النواب بكامل هيئته، وهم بصدد قراءة أو مناقشة القانون، إشراك المنظمات الحقوقية والمحاماتية والإنسانية لإبداء وجهات النظر والملاحظات التي تشكل إغناء وإثراء للجوانب المحيطة به ودفع صياغته نحو معالجات دقيقة ومؤثرة تبعا للارتباط والمعايشة اليومية لهذه المنظمات لكل ما يتعلق بالقانون والقضاء وقرارات المحاكم والحالة الإنسانية والحقوقية، وان دور هذه المنظمات يبقى قائما كجهات رقابية لقرارات اللجان القضائية المنفذة لقانون العفو العام، من خلال الوسائل المتاحة لها أو استخدام الاعلام لتأشير الانحرافات أو التعامل غير العادل والمخالف للقانون.
ان كفالة تحقيق الجانب الاجرائي والتنفيذي العاجل لمشروع قانون العفو العام بعد الانتهاء من اجراءات تصديقه الدستورية هي وضع التعليمات اللازمة لإجراءات اللجان القضائية المنفذة لإحكامه والمؤلفة من القضاة من ذوي الاختصاص والمشهود لهم بالكفاءة والأداء المهني وتوزيع هذه اللجان على خارطة جغرافية في اماكن تواجد محاكم الجنايات في بغداد والمحافظات أو على ضوء طبيعة الجرائم المشمولة بالعفو لتتمكن هذه اللجان من استيعاب اعداد المشمولين بالعفو والنظر في ملفاتهم بدقة وعلى ضوء المعطيات التي افرزتها تطبيقات قوانين العفو كدروس مستفادة والتي من شأنها ليس تحقيق الاسراع في الانجاز فحسب بل التعامل العادل القائم على المساواة بين جميع المشمولين به دون تفريق أو تمييز.
http://www.alwaleedonline.com/NewsDetails.aspx?ID=27972