ألسلام عليكم,,,
كيف ترعى ابنك الموهوب؟ (1ـ2)
إنّ علامات النجابة ومخايل العبقرية تظهر على صاحبها منذ الصغر، حتى لا يكاد يشك ذو فراسة وإيمان صادق في صيرورة صاحبها إلى ذرا العلا والتربع على قمة المجد في أيٍ من مناحي الحياة علماً أو تعليماً أو اختراعاً وابتكاراً.
وبداية نقول: ماذا تعني الموهبة ؟ وماذا يعني الذكاء؟
الموهبة تعني: العطية للشيء بلا مقابل.
بينما يعرّف ابن الجوزيّ الذكاء بأنه: سرعة الفهم عند سماع القول على الفور، فالذكي هو الذي وُهِبَ القدرة على الفهم السريع.
والطفل الموهوب هو الذي يبدي بشكل ظاهر قدرة واضحة في جانب ما من جوانب النشاط الإنساني.
الاكتشاف المبكر يصحح مسار الأبناء:
إنّ الآباء والمربين حين يتمكنون من اكتشاف مجالات الإبداع في أبنائهم يملكون القدرة على إيقاف اندفاع الأبناء نحو تعلم ما لا يناسبهم أو العمل فيما لا يعود عليهم بالنفع والخير،ولكن يصحِّحوا مسارهم ويدفعوهم على الطريق الصحيح.
وممن وقع له ذلك الإمام البخاري، فقد كان في أول أمره يحاول تعلم الفقه والتبحر فيه فقال له محمد بن الحسن: (اذهب واشتغل بعلم الحديث) عندما رآه مناسباً لقدراته وأليق به وأقرب إليه، وقد أطاعه البخاري ومن ثم صار على رأس المحدثين بل وإمامهم).
وروي أن يونس بن حبيب كان يتردد على الخليل بن أحمد الفراهيدي ليتعلم منه العَروض والشعر، فصعب ذلك عليه فقال له الخليل يوماً: من أي بحر قول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئاً فـدَعْهُ *** وجاوزه إلى ما تستطع
فلما عجز يونس بن حبيب عن الإجابة، طالبه الخليل بن أحمد بتنفيذ الشطر الثاني من بيت الشعر محل السؤال.
ولكن كيف نكتشف الطفل المتميز والموهوب؟
يتم إجراء اختبارات الذكاء والقوى العقلية في حالة الكشف المتعمد عن أصحاب التميز والموهبة، والتي تجرى عادة على طلاب المدارس، ولكنها بمفردها لا تقدم لنا أفراداً متميزين؛ إلا إذا أحيط الفائقين بالرعاية الكافية لتنمية هذا الذكاء وتهيئة المناخ المناسب للطفل الموهوب كي يبدع ويبتكر.
وتقع هذه المهمة بالدرجة الأولى على الوالدين ومربي الطفل، والذي قد يكون –في زماننا- مدرس الفصل، أو معلم حلقة التحفيظ في المسجد، وكل من يباشر تربية الأبناء.
ويستطيع الوالدان اكتشاف الطفل الموهوب مبكراً، من خلال ملاحظة أدائه في أوجه النشاط المختلفة، والتعرف على ميوله الخاصة، وتقويم سماته الشخصية والعقلية والتحصيل الدراسي، وجوانب النمو الفردي والاجتماعي.
وهناك بعض أساليب أخرى للكشف عن مواهب الأبناء ،يمكن للوالدين من خلالها أن يقرِّرا موهبة ابنهما وتميزه وهو لا يزال في مرحلة الحضانة، فهناك صفات يتميز بها معظم الأطفال الموهوبين عقلياً وهم في هذه المرحلة، تتضح لنا من خلال إجابة والدي الطفل عن بعض الأسئلة مثل:
- هل يفوق الطفل أقرانه في بدء الكلام والمهارات اللغوية؟
- هل يُظهر قدرة على الابتكار والتحايل أثناء مواجهة المشكلات؟
- هل يحب الكتب؟ وهل يطلب المساعدة على القراءة قبل سن السادسة؟
- هل هو مشغوف بأكثر من شيء واحد؟ وهل يسعى إلى المعرفة؟
- هل يُبدي اهتماماً بالزمن وساعات الحائط؟!
- هل يمكنه التركيز على موضوع ما لفترة أكبر من إخوانه؟
والحقيقة أنه لا يوجد في الواقع طفل موهوب تماماً في كل شيء؛ بسبب الفروق الفردية التي توجد بين الأطفال، كما أنّ قدرات الطفل الواحد لا تنمو نموا متساوياً.
ولكن هناك قواسم مشتركة، قلّ أن نجد طفلاً موهوباً إلا وله منها نصيب كبير،مثل:
حدة الذهن وقوة الحفظ:
فالطفل الموهوب يتعلم بسهولة وسرعة أكثر من غيره، فهو قوي الذاكرة،متفوق على أقرانه في التحصيل الدراسي، ويُروي عن علماء المسلمين في طفولتهم من قوة الحفظ أخباراً عجيبة، يروي لنا محمد بن حاتم(زميل الإمام البخاري رحمهما الله) ويقول:"كنت أختلف أنا والبخاري-وهو غلام- إلى الكتاب، فيسمع،ولا يكتب،حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له يكتب مثلنا، فلما بلغ ما كتبناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها منه، وقرأها عن ظهر قلب،حتى جعلنا نُحكِم كتبنا على حفظه".
- وهذه نبوءة قد تحققت، وفراسة قد صدقت في شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، من أحد المشايخ عندما قابله وهو طفل صغير وراى عجباً من قوة حفظه وسرعته، يروي هذا الخبر الحافظ ابن قدامة، يقول:بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال:"سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له:أحمد بن تيمية سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خيّاط:هذه طريق كتّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكتّاب. فلما مرّ قيل:ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ ،وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا! فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه،ثم قال:"اسمعه علي" فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتخبها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ،وهو يقول:"إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإنّ هذا لم يُرَ مثله"
ــ الجدّية والمثابرة والانشغال بمعالي الأمور:
فالطفل الموهوب يكون لديه القدرة على مواصلة العمل في نشاط ما، والتركيز عليه لفترة أطول من أقرانه،وهذه الصفات تنبيء عن شخص موهوب متميز.
ومن هؤلاء الذين كانوا يتمتعون بتلك الصفات: "الإمام النووي" الذي لم يطل به المقام في الحياة الدنيا، حيث مات وهو في الأربعين من عمره؛ ولكنه خلّف علماً غزيراً، ومصنفات لا يستغني عنها أي طالب علم حتى يومنا هذا،مثل: رياض الصالحين- والأربعين النوويّة- وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم،وغيرها كثير،كل ذلك كان نتاج دأبٍ مستمر، وعمل متواصل منذ بواكير الصبا في حياة هذا العالم الجليل.
يقول عنه الشيخ يسين بن يوسف المراكشي:"رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم ،وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال،قال:فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن توصية به،وقلت له: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به"فقال لي:أمنجّم أنت؟ فقلت:"لا، وإنما أنطقني الله بذلك"، فذكر ذلك لوالده،فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الإحتلام.(محمد إسماعيل:علو الهمة،ص:374).
الثقة بالنفس والاستعداد للقيادة:
فقد كانوا يتوسمون في الغلام همة عالية، وحباً للسيادة إن قال:"من يكون معي؟"
ويكرهون أن يقول:"مع من أكون".
ويروى عن عبد الله بن الزبير أنه كان يلعب مع الصبيان،وهو صبي، فمرّ رجل فصاح عليهم،ففروا،ومشى ابن الزبير القهقرى،وقال:"يا صبيان! اجعلوني أميركم،وشدوا بنا عليه"
ومرّ به عمر بن الخطاب وهو صبي يلعب مع الصبيان،ففروا ووقف، فقال له:مالك لم تفر مع أصحابك؟،قال:يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة،فأوسع لك!
حسن المنطق وقوة البيان:
ونعني بذلك تفوقه في المهارات اللغوية،بحيث يرى المحيطون به أن كلامه سابقٌ لسنِّه، فلربما أنطق الله سبحانه الغلامَ الحدثَ بما يعجز عنه فطاحل الأدباء، فيصير ذلك دليلاً لما أودع الله بين جنبيه من الحكمة،وما متعه به من الذكاء.
- نظر الحُطَيْئة إلى ابن عباس يتكلم في مجلس عمر رضي الله عنه،فقال:من هذا الذي نزل عن الناس في سنّه، وعلاهم في قوله؟ فقال ابن مسعود:لو بلغ أسناننا ما عشّره منا رجل- يعني :ما بلغ عشر قدره- .
- وأُدخل غلام على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له:"ما تحب أن أهب لك؟"قال:حُسن رأيك.
ولابن الجوزي رأيٌ جامع في النابغين:
يقول رحمه الله: "تأملت الذين يختارهم الحق عزّ وجلّ لولايته والقرب منه، فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنّه منهم،ممن رأيناه.
فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليماً من آفة في بدنه، ثم يكون كاملاً في باطنه،سخياً جواداً،عاقلاً، غير خِبٍ ولا خادع،ولا حقود ولا حسود،ولا فيه عيب من عيوب الباطن.
فذاك الذي يربيه من صغره، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان،كأنه في الصبا شيخ،ينبو عن الرذائل،ويفزع من النقائص،ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب،فهو حريص على العلم،منكمش على العمل،حافظ للزمان،مراعٍ للأوقات،ساعٍ في طلب الفضائل،خائف من النقائص.
ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه،لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر،ويمنعه من الخطأ إن همّ،ويستخدمه في الفضائل."(صيد الخاطر،ص:441)
عزيزي القارئ والمربي:
هذه الصفات التي ذكرناها،هي أبرز سمات الموهوبين المتفوقين على أقرانهم، لا يكاد يخطؤها أصحاب النجابة والموهبة، فإن وجدناها أو بعضها في أبنائنا، فهي نعمة كبرى من الله تعالى ،ولكن سيبقى علينا دورٌ كبير في تنميتها، وإفساح المجال أمام الموهوبين من أبنائنا لكي يحققوا ذلك، وهذا الدور هو ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
المراجع:
- صيد الخاطر:أبو الفرج ابن الجوزيّ.
- تربية الموهوب في رحاب الإسلام:محمد الناصر و خولة درويش.
- علو الهمة:د.محمد إسماعيل المقدم.
- أطفالنا الموهوبون:بول ويتي.
مـــــع التحية
صباح العراقي
كيف ترعى ابنك الموهوب؟ (1ـ2)
إنّ علامات النجابة ومخايل العبقرية تظهر على صاحبها منذ الصغر، حتى لا يكاد يشك ذو فراسة وإيمان صادق في صيرورة صاحبها إلى ذرا العلا والتربع على قمة المجد في أيٍ من مناحي الحياة علماً أو تعليماً أو اختراعاً وابتكاراً.
وبداية نقول: ماذا تعني الموهبة ؟ وماذا يعني الذكاء؟
الموهبة تعني: العطية للشيء بلا مقابل.
بينما يعرّف ابن الجوزيّ الذكاء بأنه: سرعة الفهم عند سماع القول على الفور، فالذكي هو الذي وُهِبَ القدرة على الفهم السريع.
والطفل الموهوب هو الذي يبدي بشكل ظاهر قدرة واضحة في جانب ما من جوانب النشاط الإنساني.
الاكتشاف المبكر يصحح مسار الأبناء:
إنّ الآباء والمربين حين يتمكنون من اكتشاف مجالات الإبداع في أبنائهم يملكون القدرة على إيقاف اندفاع الأبناء نحو تعلم ما لا يناسبهم أو العمل فيما لا يعود عليهم بالنفع والخير،ولكن يصحِّحوا مسارهم ويدفعوهم على الطريق الصحيح.
وممن وقع له ذلك الإمام البخاري، فقد كان في أول أمره يحاول تعلم الفقه والتبحر فيه فقال له محمد بن الحسن: (اذهب واشتغل بعلم الحديث) عندما رآه مناسباً لقدراته وأليق به وأقرب إليه، وقد أطاعه البخاري ومن ثم صار على رأس المحدثين بل وإمامهم).
وروي أن يونس بن حبيب كان يتردد على الخليل بن أحمد الفراهيدي ليتعلم منه العَروض والشعر، فصعب ذلك عليه فقال له الخليل يوماً: من أي بحر قول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئاً فـدَعْهُ *** وجاوزه إلى ما تستطع
فلما عجز يونس بن حبيب عن الإجابة، طالبه الخليل بن أحمد بتنفيذ الشطر الثاني من بيت الشعر محل السؤال.
ولكن كيف نكتشف الطفل المتميز والموهوب؟
يتم إجراء اختبارات الذكاء والقوى العقلية في حالة الكشف المتعمد عن أصحاب التميز والموهبة، والتي تجرى عادة على طلاب المدارس، ولكنها بمفردها لا تقدم لنا أفراداً متميزين؛ إلا إذا أحيط الفائقين بالرعاية الكافية لتنمية هذا الذكاء وتهيئة المناخ المناسب للطفل الموهوب كي يبدع ويبتكر.
وتقع هذه المهمة بالدرجة الأولى على الوالدين ومربي الطفل، والذي قد يكون –في زماننا- مدرس الفصل، أو معلم حلقة التحفيظ في المسجد، وكل من يباشر تربية الأبناء.
ويستطيع الوالدان اكتشاف الطفل الموهوب مبكراً، من خلال ملاحظة أدائه في أوجه النشاط المختلفة، والتعرف على ميوله الخاصة، وتقويم سماته الشخصية والعقلية والتحصيل الدراسي، وجوانب النمو الفردي والاجتماعي.
وهناك بعض أساليب أخرى للكشف عن مواهب الأبناء ،يمكن للوالدين من خلالها أن يقرِّرا موهبة ابنهما وتميزه وهو لا يزال في مرحلة الحضانة، فهناك صفات يتميز بها معظم الأطفال الموهوبين عقلياً وهم في هذه المرحلة، تتضح لنا من خلال إجابة والدي الطفل عن بعض الأسئلة مثل:
- هل يفوق الطفل أقرانه في بدء الكلام والمهارات اللغوية؟
- هل يُظهر قدرة على الابتكار والتحايل أثناء مواجهة المشكلات؟
- هل يحب الكتب؟ وهل يطلب المساعدة على القراءة قبل سن السادسة؟
- هل هو مشغوف بأكثر من شيء واحد؟ وهل يسعى إلى المعرفة؟
- هل يُبدي اهتماماً بالزمن وساعات الحائط؟!
- هل يمكنه التركيز على موضوع ما لفترة أكبر من إخوانه؟
والحقيقة أنه لا يوجد في الواقع طفل موهوب تماماً في كل شيء؛ بسبب الفروق الفردية التي توجد بين الأطفال، كما أنّ قدرات الطفل الواحد لا تنمو نموا متساوياً.
ولكن هناك قواسم مشتركة، قلّ أن نجد طفلاً موهوباً إلا وله منها نصيب كبير،مثل:
حدة الذهن وقوة الحفظ:
فالطفل الموهوب يتعلم بسهولة وسرعة أكثر من غيره، فهو قوي الذاكرة،متفوق على أقرانه في التحصيل الدراسي، ويُروي عن علماء المسلمين في طفولتهم من قوة الحفظ أخباراً عجيبة، يروي لنا محمد بن حاتم(زميل الإمام البخاري رحمهما الله) ويقول:"كنت أختلف أنا والبخاري-وهو غلام- إلى الكتاب، فيسمع،ولا يكتب،حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له يكتب مثلنا، فلما بلغ ما كتبناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها منه، وقرأها عن ظهر قلب،حتى جعلنا نُحكِم كتبنا على حفظه".
- وهذه نبوءة قد تحققت، وفراسة قد صدقت في شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، من أحد المشايخ عندما قابله وهو طفل صغير وراى عجباً من قوة حفظه وسرعته، يروي هذا الخبر الحافظ ابن قدامة، يقول:بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال:"سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له:أحمد بن تيمية سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خيّاط:هذه طريق كتّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكتّاب. فلما مرّ قيل:ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ ،وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا! فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه،ثم قال:"اسمعه علي" فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتخبها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ،وهو يقول:"إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإنّ هذا لم يُرَ مثله"
ــ الجدّية والمثابرة والانشغال بمعالي الأمور:
فالطفل الموهوب يكون لديه القدرة على مواصلة العمل في نشاط ما، والتركيز عليه لفترة أطول من أقرانه،وهذه الصفات تنبيء عن شخص موهوب متميز.
ومن هؤلاء الذين كانوا يتمتعون بتلك الصفات: "الإمام النووي" الذي لم يطل به المقام في الحياة الدنيا، حيث مات وهو في الأربعين من عمره؛ ولكنه خلّف علماً غزيراً، ومصنفات لا يستغني عنها أي طالب علم حتى يومنا هذا،مثل: رياض الصالحين- والأربعين النوويّة- وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم،وغيرها كثير،كل ذلك كان نتاج دأبٍ مستمر، وعمل متواصل منذ بواكير الصبا في حياة هذا العالم الجليل.
يقول عنه الشيخ يسين بن يوسف المراكشي:"رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم ،وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال،قال:فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن توصية به،وقلت له: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به"فقال لي:أمنجّم أنت؟ فقلت:"لا، وإنما أنطقني الله بذلك"، فذكر ذلك لوالده،فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الإحتلام.(محمد إسماعيل:علو الهمة،ص:374).
الثقة بالنفس والاستعداد للقيادة:
فقد كانوا يتوسمون في الغلام همة عالية، وحباً للسيادة إن قال:"من يكون معي؟"
ويكرهون أن يقول:"مع من أكون".
ويروى عن عبد الله بن الزبير أنه كان يلعب مع الصبيان،وهو صبي، فمرّ رجل فصاح عليهم،ففروا،ومشى ابن الزبير القهقرى،وقال:"يا صبيان! اجعلوني أميركم،وشدوا بنا عليه"
ومرّ به عمر بن الخطاب وهو صبي يلعب مع الصبيان،ففروا ووقف، فقال له:مالك لم تفر مع أصحابك؟،قال:يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة،فأوسع لك!
حسن المنطق وقوة البيان:
ونعني بذلك تفوقه في المهارات اللغوية،بحيث يرى المحيطون به أن كلامه سابقٌ لسنِّه، فلربما أنطق الله سبحانه الغلامَ الحدثَ بما يعجز عنه فطاحل الأدباء، فيصير ذلك دليلاً لما أودع الله بين جنبيه من الحكمة،وما متعه به من الذكاء.
- نظر الحُطَيْئة إلى ابن عباس يتكلم في مجلس عمر رضي الله عنه،فقال:من هذا الذي نزل عن الناس في سنّه، وعلاهم في قوله؟ فقال ابن مسعود:لو بلغ أسناننا ما عشّره منا رجل- يعني :ما بلغ عشر قدره- .
- وأُدخل غلام على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له:"ما تحب أن أهب لك؟"قال:حُسن رأيك.
ولابن الجوزي رأيٌ جامع في النابغين:
يقول رحمه الله: "تأملت الذين يختارهم الحق عزّ وجلّ لولايته والقرب منه، فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنّه منهم،ممن رأيناه.
فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليماً من آفة في بدنه، ثم يكون كاملاً في باطنه،سخياً جواداً،عاقلاً، غير خِبٍ ولا خادع،ولا حقود ولا حسود،ولا فيه عيب من عيوب الباطن.
فذاك الذي يربيه من صغره، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان،كأنه في الصبا شيخ،ينبو عن الرذائل،ويفزع من النقائص،ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب،فهو حريص على العلم،منكمش على العمل،حافظ للزمان،مراعٍ للأوقات،ساعٍ في طلب الفضائل،خائف من النقائص.
ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه،لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر،ويمنعه من الخطأ إن همّ،ويستخدمه في الفضائل."(صيد الخاطر،ص:441)
عزيزي القارئ والمربي:
هذه الصفات التي ذكرناها،هي أبرز سمات الموهوبين المتفوقين على أقرانهم، لا يكاد يخطؤها أصحاب النجابة والموهبة، فإن وجدناها أو بعضها في أبنائنا، فهي نعمة كبرى من الله تعالى ،ولكن سيبقى علينا دورٌ كبير في تنميتها، وإفساح المجال أمام الموهوبين من أبنائنا لكي يحققوا ذلك، وهذا الدور هو ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
المراجع:
- صيد الخاطر:أبو الفرج ابن الجوزيّ.
- تربية الموهوب في رحاب الإسلام:محمد الناصر و خولة درويش.
- علو الهمة:د.محمد إسماعيل المقدم.
- أطفالنا الموهوبون:بول ويتي.
مـــــع التحية
صباح العراقي