من
جمهورية الخوف الفاشلة
إلى
جمهورية الفوضى الفاشلة؟
جمهورية الخوف الفاشلة
إلى
جمهورية الفوضى الفاشلة؟
عادل حبه
تعكس التصريحات والتصرفات التي يمارسها أقطاب " حكومة الشراكة " مدى الخطر الذي يشكله نهج المحاصصة الطائفية والتقوقع القومي على العراق ووحدته ومصير شعبه، وعلى تأسيس دولة يكتب لها النجاح والديمومة وليس الفشل. إن هؤلاء الشركاء، الذين أقسموا أمام الشعب على حماية البلاد ووحدتها، وبعد أن امتلأت جيوبهم بأموال الشعب وتصدروا المناصب، لا يترددون عن النكث بالقسم، وهي جريمة يعاقب عليها القانون وتحرّمها الأديان. إن حكومة المحاصصة في العراق أو ما يدعونها بحكومة "الشراكة الوطنية"، ما هي إلاّ شراكة في الفوضى والعبث واستمرار معاناة الشعب. وإنها شراكة أيضاً في إرساء دولة فاشلة ضمن المعايير الدولية.
إن المعايير الدولية للدولة الفاشلة تنطوي فيما تنطوي على عدد من المؤشرات، تنطبق جميعها على دولة البعث التي انهارت في نيسان عام 2003 وتخلص من شرها العراقيون رغم إرثها الثقيل الذي مازال يعشعش في أدمغة بعض ساستنا. وتنطبق مؤشرات غير قليلة منها على واقع بناء الدولة الجديدة بعد انهيار الاستبداد، مما يعد تمهيداً لبناء دولة فاشلة أخرى. إن هذه المؤشرات تيدأ من العوامل الديموغرافية السلبية المتمثلة في سوء توزيع السكان والنزاعات القائمة بينهم. ويعقبها مؤشر آخر هو وجود ظاهرة اللاجئين والمهجرين والمشاكل الناشئة عنها، ويليها بناء نظام سياسي لصالح مكون واحد من المجتمع وليس لخدمة كل المكونات. وفي مؤشرات الدولة الفاشلة تلاحظ هجرة العقول من أوطانهم والاغتراب داخل مجتمعاتهم. ويحكي المؤشر التالي عن غياب سياسة اقتصادية وحالة ركود في التنمية الاقتصادية وعدم المساواة بين السكان في الوظائف والتعليم والمداخيل، إضافة إلى مظاهر التراجع الاقتصادي واختلال الميزان التجاري وانخفاض معدلات الاستثمار. ومن المؤشرات الأخرى أيضاً يشار إلى فقدان شرعية الدولة والفساد وضعف ثقة الشعب بمؤسسات الدولة والتدهور العام في قطاع الخدمات. ويلي ذلك انتهاك القوانين وحقوق الانسان وتشتت الأمن – دولة داخل دولة -، وتشكيل ميليشيات خارج إطار المؤسسات الامنية الرسمية، وتغلغل عناصر خارجة عن القانون داخل الأخيرة، وتنامي الانشقاقات داخل النخب الحاكمة. كما نشير إلى مؤشر آخر هو التدخل المباشر للمؤسسة الدينية ورجال الدين في عمل مؤسسات الدولة وفي النخب السياسية، وتوظيف الدين لمصالح سياسية فئوية لا علاقة لها بالإيمان الديني وحرية التدين، علاوة على عدم الفصل بين الدولة والدين. وهذا يؤدي إلى ستراجع هيبة رجال الدين ومؤسساتهم، وإلى الأضرار التي يتعرض لها الإيمان الديني، لانخراط رجال الدين في الصراعات السياسية والتوجه الجامح لتوليهم مناصب مدنية وحتى أمنية مما يبعدهم عن أداء وظائفهم الوجدانية والروحية. إن كل هذه العوامل تمهد الطريق لمؤشر خطير آخر هو تدخل دول أخرى في الشؤون الداخلية سواء بدعمها لميليشيات مسلحة لبعض الأحزاب، وارتهان هذه الأحزاب لأجندات إقليمية وخارجية، أو من خلال الاستعانة بقوات دولية أو بقوات حفظ السلام لفرض الاستقرار في البلاد. هذه المؤشرات هي التي أدت في بلادنا إلى عدم بناء دولة مستقرة ونظام يتماشى مع حركة التطور الجارية في العالم، وخاصة التطورات التي تحصل إلى الآن في ميدان بناء الدولة العصرية الديمقراطية الحديثة التي توفر الأرضية للبناء والتنمية المضطردة والحرية والأمان لمواطنيها.
إننا لو راجعنا هذه المؤشرات وطبقناها على ما أقامه البعث خلال سنوات حكمه في العراق وغير العراق، لوجدنا أن هذا الحكم قد تجاوز هذه المؤشرات السلبية بل وزاد عليها "بجدارة". كما إننا لو تابعنا التطورات الجارية في العراق منذ إنهيار الطغيان في التاسع من نيسان عام 2003 لوجدنا إن عدد من المؤشرات تنطبق كلياً على حالنا، والبعض الآخر هو في انتظار التطبيق فيما استمر الحال ما هو عليه. فالصفقات بين التيارات الطائفية والقومية المتطرفة تحمل أجندات طائفية وعرقية وحزبية وعشائرية متعددة المآرب، ولا يهمها بناء دولة عراقية لها أسباب النجاح، ولا توفر المقدمات لبناء عراق اتحادي ديمقراطي موحد. فهاجس غالبية هذه التيارات المتنفذة هي مصلحة نخب الطوائف وأحزابها ومن يدعمها من خارج الحدود. ولهذا السبب نلاحظ أن غالبية هذه التيارات المتنفذة تعزف على هواها، وتتنكر لكل مواثيقها واتفاقاتها، كما تتنكر لقوانين الدولة وتتجاهل مبدأ فصل السلطات، وتضرب عرض الحائط كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقع عليها العراق وحكومته ووافق عليها مجلس النواب وغالباً ما يتكرر هذا النكث.
ولكي لا نتهم بالكيدية ولا الغوغائية فما علينا إلاّ التوجه نحو آخر الوقائع العجيبة في دولتنا الحالية الآيلة إلى الفشل لو إستمر هذا المنهج. ولنأخذ آخر تصريحات رئيس أعلى هيئة تشريعية في البلاد، السيد أسامة النجيفي، الذي يقوم بزيارة " رسمية أو ربما غير رسمية" إلى الولايات المتحدة ، لينقل لنا بضاعة جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي والمتضمنة تفتيت العراق والتي أطلقها قبل سنوات. فمن المعلوم أن السناتور الأمريكي الديمقراطي جو بايدن (نائب الرئيس الحالي) هو الذي طرح مشروع قانون على مجلس الشيوخ الأمريكي تمت المصادقة عليه كقرار غير ملزم يوم 26 ايلول 2007 (بموافقة 75 عضواً، ورفض 23)، يقضي بتقسيم العراق الى ثلاثة كيانات حسب الانتماء الطائفي والعرقي!!! أي كيانات تربط بينها حكومة اتحادية محدودة الصلاحيات، تتولى حماية الحدود وتوزيع عائدات النفط. موهماً ان ذلك طريق مضمون لتعايش الكتل السياسية المتصارعة على مغانم الحكم ولحل مشكلة العنف في العراق، وبالتالي تسهيل سحب القوات الامريكية منه. ويأتي المسؤول الأول في السلطة التشريعية في بلادنا السيد أسامة النجيفي ليكرر بدعة جو بايدن حين هدد بانفصال السنة عن العراق. إن السيد النجيفي لم يقدم لنا خريطة طريق لهذا الانفصال، وخاصة ضمن هذا التداخل وحتى التزاوج بين العراقيين؟. فالتزاوج في بغداد وحدها بين الطائفتين يصل إلى 36% حسب إحصائيات سابقة، فكيف سيخرج من هذه الورطة السيد أسامة النجيفي؟. والغريب في هذه التصريحات أن النجيفي نفسه هو الذي أعلن مراراً في السابق إن أي انفصال لكردستان العراق عن الوطن سيؤدي إلى حرب أهلية يذهب ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب العراقي. إن السيد أسامة النجيفي ينكث بقسمه عند تنصيبه كرئيس لمجلس النواب وتعهده بالحفاظ على وحدة البلاد؟ ومما يثير الحيرة والذهول هو التزام الصمت الرسمي من قبل مجلس الوزراء ومجلس النواب والسلطة القضائية ورئاسة الجمهورية أزاء هذه التصريحات الخطيرة.
ولا يقتصر الأمر عند تصرفات رئيس مجلس النواب. فلدينا مؤشر حديث ومثير آخر لا يقل عن سابقه هو آخر تصرفات التيار الصدري من الأحداث الخطيرة الجارية في البلاد. فهذا التيار، وهذا من حقه، لا يعترف بالاتفاقية الموقعة بين العراق والولايات المتحدة التي وضعت نهاية لصيغة الاحتلال في العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، وأقرها المجتمع الدولي ممثلاً في هيئة الأمم المتحدة. ولكن كيف نفسر رفضه هذا في حين أنه يشارك في حكومة وقعت وقبلت رسمياً بهذه الاتفاقية وتتعهد يتنفيذها، وله نواب ونائب للرئيس في مجلس النواب أقر هذه الاتفاقية، وهو يعني أن يحترم هذا التيار قرار مجلس النواب ولا يتوجه نحو خوض نزاع مسلح ضد ما يقي من الوجود الأمريكي في العراق. وهنا المفارقة، فرغم مشاركة التيار الصدري في الحكم، إلاّ أنه يبيح لنفسه ضرب كل القوانين والدستور العراقي عرض الحائط، ويتفنن في تشكيل ميليشيات مسلحة غير قانونية ومخالفة للدستور العراقي تمارس نشاطات عسكرية غير مخول بها من قبل مجلس النواب ولا أية سلطة من السلطات الثلاث. وكان آخرها ما أذيع من بلاغات عسكرية أصدرها التيار الصدري تحت عنوان "لواء اليوم الموعود". فقد بشر بلاغ "اليوم الموعود" العراقيين يوم الأثنين الماضي بـ "تنفيذ 10 عمليات قصف للقواعد الأمريكية في عدد من المحافظات ...حيث أمطر البواسل في 21 حزيران قاعدة الاحتلال الأمريكي في البلديات في بغداد بعشرة قنابل هاون من عيار 81 ملم، مؤكداً تفجير آلية للمحتل الأمريكي في محافظة السماوة....". بالطبع هذا البلاغ العسكري موجّه بالأساس ضد العراقيين وتهديد لهم، على شاكلة بيانات الدولة الإسلامية التي تتهدد الأمريكان ولكن توجه نارها ضد العراقيين. ولذا لم تجر الإشارة إلى الهجمات الموجهة ضد مرافق مدنية ولا إلى عمليات اغتيال في مدينة الثورة التي يدعي التيار الصدري إنها حصناً له، ولا على مواقع مدنية وغير مدنية عراقية في محافظة القادسية وغيرها من المدن العراق. هذه العمليات التي لا تتعدى كونها رسائل تهديد للعراقيين بالدرجة الأولى وليس للولايات المتحدة، وكمقدمة للقيام بانقلاب ضد العملية السياسية الديمقراطية الجارية في العراق، وكجزء من محاولات تأسيس دولة فاشلة في العراق.
ولتأكيد هذا النهج المخالف للدستور العراقي، اطّلع العراقيون على تصريح آخر لأحد أقطاب التيار الصدري، عضو في مجلس النواب العراقي وعضو في اللجنة الأمنية !!! في المجلس، وهو حاكم الزاملي المتهم السابق في عمليات إجرامية، وهو تصريح أشد غرابة وتفصيلاً عن خطط التيار الصدري حين قال لقناة السومرية:" إن "جيش الإمام المهدي تحت التجميد ولا يعمل!!!، وقد تحول إلى مؤسسة ثقافية وهي الممهدون ومؤسسة أخرى باسم المناصرون وتم تجميدها مؤخراً". وأضاف الزاملي أنه "بعد تجميد جيش المهدي، وجدت جهة مختصة بالمقاومة وهي لواء اليوم الموعود"، مبيناً أنها "مرتبطة بالسيد مقتدى الصدر وهي المعنية بمقاومة الاحتلال". وأكد القيادي في التيار الصدري أن "للتيار أجنحة عدة منها جناح المقاومة السياسية"، مشيراً إلى أن "عمل المقاومة محدد وواضح ولا وجود لرابط بينها وبين السياسية". مما يعني أن الدولة الصدرية هي دولة داخل دولة تستفيد من وجودها داخل مؤسسات الدولة العراقية لتمرير أجندة العنف مستفيدة من تجربة حزب الله في لبنان الذي يضع رجل في مؤسسات الدولة اللبنانية ورجله الأخرى في جيب "ولي الفقيه". ولكي نتوخى الدقة في نقل المعلومة يواجهنا تصريح مناقض لأحد أقطاب التيار الصدري، هو صلاح العبيدي الذي صرح في 28 نيسان الماضي قائلاً:" أن عدم انسحاب القوات الأميركية نهاية العام الجاري، يعطي الحق للتيار باستخدام السلاح ضده"، أي أنهم بانتظار خروج أو عدم خروج القوات الأمريكية كي يستل التيار الصدري سيوفه بوجه الأمريكان، وليس الآن كما تشير بلاغاتهم الحربية.
والغريب أن هؤلاء الناس لا يتعضون من مصير ميليشيات دولة الخوف الفاشلة السابقة كفادئيي صدام والجيش الشعبي والمسميات الأخرى، التي لم تسعف النظام السابق بل ساهمت في عزله وسهولة الإطاحة به. وهرب جميع المنتمين لهذه الميليشيات عندما دقت ساعة المواجهة الحاسمة. إن كل التصريحات الخطيرة والتهديدات التي يطلقها المتطرفون في هذا التيار ضد العراقيين بالأساس لا تجد أي ردة فعل عند أي طرف من أطراف الحكومة ولا مجلس الوزراء ولا رئاسة الجمهورية ولا مجلس النواب المسؤولين المباشرين عن تطبيق الدستور وحماية أرواح العراقيين واحترام المواثيق الدولية.
ومما يثير القلق من احتمال انزلاق جمهوريتنا الجديدة نحو دائرة الفشل هو أن هذه الفوضى امتدت إلى سلطتنا القضائية غير المستقلة، لكونها أستمرت كما في السابق على خضوعها لإرادات أطراف متنوعة في السلطة التنفيذية. وانعكس ذلك بشكل صارخ أخيراً فيما أقدمت عليه محكمة استئناف الحلة في حزيران الماضي عنما برّأت ثلاثة أشخاص وهم ع م. س. ل.، وم. ه. ش.، وس. ع. ص.، ألقت القوات الأمريكية القبض عليهم وبحوزتهم عبوة ناسفة وجهاز تحكم عن بعد بالقرب من الطريق السريع رقم 1 واحد في قضاء الهاشمية، على بعد نحو 30 كم جنوب مدينة الحلة، وسلمتهم للسلطات العراقية في 14 اذار الماضي لمحاكمتهم. إن تدخل هذه الأطراف في القضاء وتسيسه وخرق استقلاليته هو مؤشر على انزلاق الدولة نحو دائرة الدول الفاشلة حسب المقاييس الدولية.
إن مؤشرات الفشل كثيرة تبدأ من زاخو وحتى الفاو، فالبلد غير منقسم بل موحد في هذه المؤشرات. ولا نريد أرهاق القارئ بعرض المزيد منها وإثارة التشاؤم لديه حول مستقبل البلاد. إن رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي لا يكف لحظة في لقاءآته مع البعثات الأجنبية عن الدعوة لجميع الدول وشركاتها كي يشاركوا في عملية إعمار العراق وتوظيف رساميلهم فيه. ولا ندري كيف سيتحقق ذلك في ظل هذا الخرق الخطير للدستور العراقي والاستقرار في العراق. وكيف ستتجرأ أية دولة أو أية شركة على المغامرة والقدوم إلى العراق والاستثمار فيه في ظل هذه الفوضى. إن تصرفات المتطرفين في عصبة "الشراكة الوطنية" تصب في عرقلة بناء البلد وتوفير الخدمات للشعب وأخراج العراق من دائرة الفوضى والخراب. وهذا النهج يعد إسهامة حقيقية في تأسيس دولة فاشلة. فأين هي حكومة الشراكة الوطنية وكتلة دولة القانون والناخب العراقي الذي انتخب كل هؤلاء من كل هذه المحاولات الخطيرة التي تواجه البلاد؟. عسى أنهم يتفادوا بناء هذا الكيان الفاشل.
30/6/2011
منقول