إنجاز قاموس للغة الأكدية المنقرضة بعد مضي 90 عاماً
لوح مكتوب عليه باللغة الأكدية في معهد الدرايات الشرقية بجامعة شيكاغو
27.06.2011
في عام 1921، باشر لغويون وباحثون في شؤون بلاد ما بين النهرين القديمة، بوضع قاموس للغة الأكادية المنقرضة. وقد أنجز المشروع أخيراً بعد مضي 90 عاماً، وملأ عشرة آلاف صفحة.
ويقول تقرير أعده مراسل إذاعة أوروبا الحرة / إذاعة الحرية Richard Solash ان حصيلة هذا المشروع لم تكن مجرد قائمة مفردات، بل كانت بمثابة نافذة على حياة ومجتمع في مهد الحضارات.
"كوعاء يحمل العقيق الأحمر أو اللازورد، إنها ممتلئة إما بالعقيق الأحمر أو اللازورد – ولكنني لست أدري إن كان الجنين في جوفها عقيقا أم لازوردا؟".
من هذه العبارات الرمزية، وضمن مخيلة قائلها، تحولت قدرة الأم على حمل الأطفال الذكور والإناث وما يسفر ذلك عن غموض بخصوص جنس الجنين، إلى وعاء للأحجار الكريمة – العقيق الأحمر للأنثى واللازورد الأزرق للذكر.
وفيما لا يمكن للغويين التأكد من النبرة أو نقاط التركيز، إلا أنهم يتوقعون بأن هذين السطرين المكتوبين بين عامي 1700 و1800 قبل الميلاد باللغة الأكادية المنقرضة، ربما كانا يبدوان للمستمع على نحو آخر.
وبدرجة تفوق كونها نبذة شعرية، أصبحت هذه الكلمات الآن جزءاً من القاموس الأكادي / الانكليزي لجامعة شيكاغو، ذلك المشروع الذي يصفه باحثون بأنه لمحة لا سابقة لها لبلاد ما بين النهرين القديمة، أي ما أطلق عليه يوماً "مهد الحضارات".
هذا المشروع الهائل حديث الإنجاز يحتفظ بنفس العنوان الذي وضعه له الباحثون في البداية (قاموس شيكاغو الآشوري)، برغم تأكيد جيل لاحق من الباحثين بأن الآشورية كانت إحدى لهجات اللغة الأكادية التي كان الناس يتحدثون بها قبل آلاف السنين فيما يعرف الآن بالعراق، شأنهم شأن سكان بعض المناطق السورية والإيرانية والتركية، كما إنها من اللغات المتصلة بالعربية والعبرية.
ويقع القاموس المكون من نحو عشرة آلاف صفحة في 21 مجلداً، واستغرق إنجازه قرابة تسعة عقود من الزمن، متخطياً بذلك أعمار بعض الباحثين الذين بلغ عددهم نحو مائة باحث كرسوا حياتهم العملية له. ويتوج المجلد الأخير الذي تم نشره منذ بضعة أسابيع، ما تصفه رئيسة التحرير Martha Roth بأنه يتجاوز بكثير مجرد كونه معجماً، فهو يتضمن نحو 28 ألف فقرة (كلمة)، تتيح الاطلاع على تاريخ وثقافة ومجتمع الشرق الأدنى القديم، ولم يكن مصمماً ليكون معجماً، إذ كان المشروع في مجمله يهدف إلى شرح عالم بلاد ما بين النهرين القديمة من خلال المفردات التي حافظنا عليها، إذ كان ذلك العالم من بين الأهم في التاريخ، لأنه وضع أسس حياة المدن المعاصرة، ومجتمعات الدولة، وأنظمة الكتابة، وسبل قياس الزمن، وعلم المحاسبة.
كانت الأكادية لغة شريعة حمورابي، ولغة أول من أسس إمبراطورية (سرجون العظيم)، ولغة الملوك الآشوريين الذين فتحوا القدس بحسب الإنجيل العبري.
وتأتي قدرة القاموس على إجراء مسح لذلك العالم القديم من خلال الإشارات المرجعية الوفيرة المصاحبة لكل كلمة من مفرداته. فالإشارة الرمزية إلى الحمل مدرجة ضمن كلمة (اللازورد)، (بالأكادية "أوغنو"). وشأنها شأن كل إشارة مرجعية لكل من مفردات القاموس، كان قد تم اكتشافها ضمن واحدة من ملايين اللوحات الفخارية المحفوظة منذ قرون من الزمن.
كل سطر من الكتابة المسمارية المنحوتة في اللوحات الفخارية يحمل قصة، إذ تشير لمحات الحياة التي يتضمنها المشروع إلى رسائل شخصية تتعلق بالحب والخوف والنقمة، وسجلات رسمية، ووثائق تجارية، ووصفات لإعداد المأكولات، ونصوص دينية، ووصفات طبية.
الباحثان مارثا روث وروبرت بيغز يتفحصان قرابة مليوني بطاقة لوضع القاموس الاكادي بجامعة شيكاغو
وكان الباحث في جامعة شيكاغو Robert Biggs الذي كرس نحو 50 عاماً من حياته لهذا المجهود، أمضى قسماً كبيرا منها في متابعة الإشارات إلى أكباد الخرفان، التي تتأكد أهميتها في معتقدات بلاد ما بين النهرين من خلال آلاف الإشارات إليها في القاموس.
كان المنجمون البابليون يعتقدون بأن الآلهة كانت تكتب على الأكباد – أي أن العلامات التي تراها على الأكباد تمثل رسائل من الآلهة. فكانوا يقومون بالكثير من التنبؤ للأحداث، خصوصاً للملك ولقيادته العسكرية. وحتى حين كانت تتوفر لديهم وسائل أخرى للتنبؤ – سواء في أحلام أحدهم، أو في رؤيا لأحدهم، أو من النجوم – كان تفحص أكباد الخرفان يعتبر الوسيلة الموثوق بها للتأكد من صحة التنبؤات.
يبلغ سعر النسخة المجلدة من القاموس قرابة 2000 دولار، رغم إمكانية الاطلاع عليه مجانا على الانترنت على الرابط التالي:
http://oi.uchicago.edu/research/pubs/catalog/cad/
وفي الوقت الذي يعتبر فيه المشروع مخصصاً للمختصين في الشأن الآشوري، إلا أنه يمثل أيضا معلما مهما لآخرين، فالعديد من أبناء الأقلية المسيحية في العراق الذين يبلغ عددهم نحو نصف المليون يمكنهم تتبع أصولهم إلى القدماء من المتحدثين بالآشورية، واللغة الحديثة القريبة منها المعروفة باسم (الآشورية الآرامية الحديثة) هي لغة الآلاف من العراقيين اليوم.
ويؤكد يوسف توما، رئيس تحرير مجلة (الفكر المسيحي) الذي يتخذ من بغداد مقرا له في حديث لإذاعة العراق الحر بأن العديد من المسيحيين العراقيين سوف يسعدهم جدا السماع بالقاموس الجديد
وفي الولايات المتحدة تقول السيدة Roth ، مسئولة التحرير بمشروع القاموس إن مزيجاً واسعاً من المشاعر يعتريها وهي ترى إن القاموس احتل الآن مكانه المحجوز له منذ أمد طويل على أحد رفوف مكتبها، وتضيف:
“أشعر بالامتنان البالغ لكون هذا المشروع ظل مدعوما طيلة هذه السنين من قبل جامعة شيكاغو والعديد من الباحثين حول العالم، وبالامتنان والفخر لكوني كنت التي وصلت به إلى إنجازه. كما أشعر بشيء من الأسى لكون بعض زملائي قد فارقوا الحياة قبل إكماله، وبشيء من الحزن لكون مشروعا من هذا الحجم قد انتهى وليس هناك مشروعا في عالم الأبحاث يضاهيه في حجمه وسعته".
http://www.iraqhurr.org/content/article/24247996.html
لوح مكتوب عليه باللغة الأكدية في معهد الدرايات الشرقية بجامعة شيكاغو
27.06.2011
في عام 1921، باشر لغويون وباحثون في شؤون بلاد ما بين النهرين القديمة، بوضع قاموس للغة الأكادية المنقرضة. وقد أنجز المشروع أخيراً بعد مضي 90 عاماً، وملأ عشرة آلاف صفحة.
ويقول تقرير أعده مراسل إذاعة أوروبا الحرة / إذاعة الحرية Richard Solash ان حصيلة هذا المشروع لم تكن مجرد قائمة مفردات، بل كانت بمثابة نافذة على حياة ومجتمع في مهد الحضارات.
"كوعاء يحمل العقيق الأحمر أو اللازورد، إنها ممتلئة إما بالعقيق الأحمر أو اللازورد – ولكنني لست أدري إن كان الجنين في جوفها عقيقا أم لازوردا؟".
من هذه العبارات الرمزية، وضمن مخيلة قائلها، تحولت قدرة الأم على حمل الأطفال الذكور والإناث وما يسفر ذلك عن غموض بخصوص جنس الجنين، إلى وعاء للأحجار الكريمة – العقيق الأحمر للأنثى واللازورد الأزرق للذكر.
وفيما لا يمكن للغويين التأكد من النبرة أو نقاط التركيز، إلا أنهم يتوقعون بأن هذين السطرين المكتوبين بين عامي 1700 و1800 قبل الميلاد باللغة الأكادية المنقرضة، ربما كانا يبدوان للمستمع على نحو آخر.
وبدرجة تفوق كونها نبذة شعرية، أصبحت هذه الكلمات الآن جزءاً من القاموس الأكادي / الانكليزي لجامعة شيكاغو، ذلك المشروع الذي يصفه باحثون بأنه لمحة لا سابقة لها لبلاد ما بين النهرين القديمة، أي ما أطلق عليه يوماً "مهد الحضارات".
هذا المشروع الهائل حديث الإنجاز يحتفظ بنفس العنوان الذي وضعه له الباحثون في البداية (قاموس شيكاغو الآشوري)، برغم تأكيد جيل لاحق من الباحثين بأن الآشورية كانت إحدى لهجات اللغة الأكادية التي كان الناس يتحدثون بها قبل آلاف السنين فيما يعرف الآن بالعراق، شأنهم شأن سكان بعض المناطق السورية والإيرانية والتركية، كما إنها من اللغات المتصلة بالعربية والعبرية.
ويقع القاموس المكون من نحو عشرة آلاف صفحة في 21 مجلداً، واستغرق إنجازه قرابة تسعة عقود من الزمن، متخطياً بذلك أعمار بعض الباحثين الذين بلغ عددهم نحو مائة باحث كرسوا حياتهم العملية له. ويتوج المجلد الأخير الذي تم نشره منذ بضعة أسابيع، ما تصفه رئيسة التحرير Martha Roth بأنه يتجاوز بكثير مجرد كونه معجماً، فهو يتضمن نحو 28 ألف فقرة (كلمة)، تتيح الاطلاع على تاريخ وثقافة ومجتمع الشرق الأدنى القديم، ولم يكن مصمماً ليكون معجماً، إذ كان المشروع في مجمله يهدف إلى شرح عالم بلاد ما بين النهرين القديمة من خلال المفردات التي حافظنا عليها، إذ كان ذلك العالم من بين الأهم في التاريخ، لأنه وضع أسس حياة المدن المعاصرة، ومجتمعات الدولة، وأنظمة الكتابة، وسبل قياس الزمن، وعلم المحاسبة.
كانت الأكادية لغة شريعة حمورابي، ولغة أول من أسس إمبراطورية (سرجون العظيم)، ولغة الملوك الآشوريين الذين فتحوا القدس بحسب الإنجيل العبري.
وتأتي قدرة القاموس على إجراء مسح لذلك العالم القديم من خلال الإشارات المرجعية الوفيرة المصاحبة لكل كلمة من مفرداته. فالإشارة الرمزية إلى الحمل مدرجة ضمن كلمة (اللازورد)، (بالأكادية "أوغنو"). وشأنها شأن كل إشارة مرجعية لكل من مفردات القاموس، كان قد تم اكتشافها ضمن واحدة من ملايين اللوحات الفخارية المحفوظة منذ قرون من الزمن.
كل سطر من الكتابة المسمارية المنحوتة في اللوحات الفخارية يحمل قصة، إذ تشير لمحات الحياة التي يتضمنها المشروع إلى رسائل شخصية تتعلق بالحب والخوف والنقمة، وسجلات رسمية، ووثائق تجارية، ووصفات لإعداد المأكولات، ونصوص دينية، ووصفات طبية.
الباحثان مارثا روث وروبرت بيغز يتفحصان قرابة مليوني بطاقة لوضع القاموس الاكادي بجامعة شيكاغو
وكان الباحث في جامعة شيكاغو Robert Biggs الذي كرس نحو 50 عاماً من حياته لهذا المجهود، أمضى قسماً كبيرا منها في متابعة الإشارات إلى أكباد الخرفان، التي تتأكد أهميتها في معتقدات بلاد ما بين النهرين من خلال آلاف الإشارات إليها في القاموس.
كان المنجمون البابليون يعتقدون بأن الآلهة كانت تكتب على الأكباد – أي أن العلامات التي تراها على الأكباد تمثل رسائل من الآلهة. فكانوا يقومون بالكثير من التنبؤ للأحداث، خصوصاً للملك ولقيادته العسكرية. وحتى حين كانت تتوفر لديهم وسائل أخرى للتنبؤ – سواء في أحلام أحدهم، أو في رؤيا لأحدهم، أو من النجوم – كان تفحص أكباد الخرفان يعتبر الوسيلة الموثوق بها للتأكد من صحة التنبؤات.
يبلغ سعر النسخة المجلدة من القاموس قرابة 2000 دولار، رغم إمكانية الاطلاع عليه مجانا على الانترنت على الرابط التالي:
http://oi.uchicago.edu/research/pubs/catalog/cad/
وفي الوقت الذي يعتبر فيه المشروع مخصصاً للمختصين في الشأن الآشوري، إلا أنه يمثل أيضا معلما مهما لآخرين، فالعديد من أبناء الأقلية المسيحية في العراق الذين يبلغ عددهم نحو نصف المليون يمكنهم تتبع أصولهم إلى القدماء من المتحدثين بالآشورية، واللغة الحديثة القريبة منها المعروفة باسم (الآشورية الآرامية الحديثة) هي لغة الآلاف من العراقيين اليوم.
ويؤكد يوسف توما، رئيس تحرير مجلة (الفكر المسيحي) الذي يتخذ من بغداد مقرا له في حديث لإذاعة العراق الحر بأن العديد من المسيحيين العراقيين سوف يسعدهم جدا السماع بالقاموس الجديد
وفي الولايات المتحدة تقول السيدة Roth ، مسئولة التحرير بمشروع القاموس إن مزيجاً واسعاً من المشاعر يعتريها وهي ترى إن القاموس احتل الآن مكانه المحجوز له منذ أمد طويل على أحد رفوف مكتبها، وتضيف:
“أشعر بالامتنان البالغ لكون هذا المشروع ظل مدعوما طيلة هذه السنين من قبل جامعة شيكاغو والعديد من الباحثين حول العالم، وبالامتنان والفخر لكوني كنت التي وصلت به إلى إنجازه. كما أشعر بشيء من الأسى لكون بعض زملائي قد فارقوا الحياة قبل إكماله، وبشيء من الحزن لكون مشروعا من هذا الحجم قد انتهى وليس هناك مشروعا في عالم الأبحاث يضاهيه في حجمه وسعته".
http://www.iraqhurr.org/content/article/24247996.html