الأسرار الباطنية للقبلة
"ما كان لله ينمو، وما كان لغير الله يخبو".
--
إن من أسرار الوقوف بين يدي الله -عز وجل- بعد الوقت والمكان، سر القبلة.. لماذا أمر الله -عز وجل- الإنسان في الصلاة، أن يقف بين يديه مستقبلا القبلة؟.. والحال أنه أينما تولوا فثم وجه الله، ومع ذلك عند الصلاة يأمر الله -عز وجل- الإنسان، أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام؟.. هنالك دروس عديدة في مسألة القبلة.
الدرس الأول: توحد الهمّ: عندما يصلي الإنسان، يتخذ لنفسه اتجاها ثابتا: صباحا، ومساء.. فرضا، ومستحبا.. ليلا، ونهارا.. أي أن له جهة ثابتة في هذه الحياة الدنيا، عند الانشغال بالعبادة.. معنى ذلك: أنه كما يتوجه بوجهه الظاهري إلى جهة ثابتة في الحياة الدنيا، كذلك عليه أن يتوجه بقلبه أيضا إلى جهة ثابتة.. فالإنسان المبعثر في التفكير: يقبل يوما على الدنيا، ويقبل يوما على الآخرة.. ويقبل يوما على صنف من أصناف الدنيا، ويقبل يوما آخر على صنف آخر.. ويهتم بمسكنه في يوم من الأيام، ثم يهتم بأهله في يوم آخر، ويهتم بطعامه وبملبسه...الخ!..
إن هذا الإنسان، الذي يعيش حالات التوزع، لا يمكنه أن يتوجه إلى الله عز وجل.. فعليه أن ينصب قبلة في باطنه، كما أن الله -عز وجل- نصب قبلة في الخارج، ونصب قبلة للملائكة.. وكما هو معلوم بأن هنالك قبلة في العرش، موازية للكعبة المشرفة في الأرض، تحوم الملائكة حول تلك القبلة العرشية.. وهذا المعنى يتمثل في أن يجعل الإنسان في قلبه محورا، يدور دائما حول هذا المحور.. وهو ما أشار إليه الإمام الصادق -عليه السلام- بهذا الحديث المعروف: (القلب حرم الله، فلا تسكن حرم الله غير الله).. فإذن، إن الدرس الأول هو توحد الهم.
الدرس الثاني: على المصلي أن يتوجه إلى الله -عز وجل- بتفكيره وبقلبه: ولكن بما أنه لا تدركه الأبصار، والإنسان خلق من المادة؛ فإنه يتوجه إلى المادة، وتستهويه.. لذا فقد جعل الله -عز وجل- لعامة المصليين والمسلمين كعبة ورمزا، يتوجهون إليه في الصلاة.. ولكن الخواص من المصليين، يرتقون عن هذه القبلة الظاهرية؛ ليعيشوا التوجه مع صاحب الكعبة لا الكعبة.. إن المتوجهين للكعبة في موسم الحج أو العمرة، وقلوبهم تذهب يمينا وشمالا، ما فائدة هذه المواجهة الظاهرية للكعبة، والقلب يعيش حالة الإدبار عن الله عز وجل؟.. على الإنسان عندما يتوجه إلى الكعبة، أن يستدبر كل شيء ما سوى الكعبة؛ أي ينصرف عن الدنيا، ويستدبرها.. وكذلك في عالم القلب، عليه أن يستدبر بقلبه ما سوى الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام الصادق -عليه السلام- كما روي عنه في تفسير سر القبلة، وفلسفة التوجه إلى الكعبة: (إذا استقبلت القبلة: فآيس من الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه!.. واستفرغ قلبك من كل شاغل، يشغلك عن الله تعالى!.. وعاين بسرك عظمة الله عز وجل!.. واذكر وقوفك بين يديه، قال الله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}.. وقف على قدم الخوف والرجاء)!.. هذا هو الأدب الباطني، لاستقبال الكعبة والقبلة.
الدرس الثالث: أن الله -عز وجل- شكور، ويبارك في العمل الذي هو خالص لوجهه، ومثال على ذلك: العمل الذي قام به الخليل إبراهيم (ع) وساعده به ابنه إسماعيل (ع)، وكان دعاؤهما عند بناء ذلك البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ فتقبله الله بأحسن قبول!.. وأي قبول أعظم من أن يكون ذلك البناء المتواضع -الذي رفعت حجارته قبل آلاف السنين، في واد غير ذي زرع- مثابة للناس وأمنا، وادخره الله -تعالى- قبلة خاصة للمسلمين، وللنبي المصطفى (ص) خاتم الرسل إلى يوم القيامة!..
فكم على الأرض من قصور، وآثار، وحضارات: جاءت، وارتفعت، ثم بادت!.. ولكن بقي هذا البناء المتواضع، في ذلك الوادي، الذي لا زرع فيه، ولا ماء!.. أوَ ليس ذلك درس من دروس الشكر والخلود للعمل، إذا انتسب إلى الله عز وجل؟!... وكيف أن الله -عز وجل- جعله خالداً؛ لأن الذي بنى البيت إنما قصد به وجه الله الكريم.. "ما كان لله ينمو، وما كان لغير الله يخبو".