لماذا لا يكرهون "العائلات السياسية"؟
كتبت مرح البقاعي في رحيل إدوارد كيندي
رحل السناتور الأميركي إدوارد كيندي، "أسد مجلس الشيوخ"، بعد أن شغل كرسيه لمدة 47 عاما متّصلة.
رحل المدافع الصلب عن الحقوق المدنية، الإصلاحي العنيد، والمشرّع لقوانين حماية حقوق الأقليات والمهاجرين والفقراء والمعاقين، والرعاية الصحية للأطفال، وكذلك الإصلاح التعليمي.
غاب الرجل الرابع في أسرة كيندي العريقة، سياسياً واجتماعياً في آن، إثر معاناة، لم تدم طويلا، من مرض عضال في الرأس، لكنه قضى محاطاً بأفراد عائلته وكتبه، بينما كان رحيل أخويه: رئيس الولايات المتحدة الأسبق جون كيندي، والسيناتور روبرت كيندي، رحيلاً تراجيدياً في عمليتي اغتيال سياسي منفصلتين، أما الأخ الأكبر فكان قد لقي حتفه أثناء قيادته لطائرته العسكرية في الحرب العالمية الثانية.
خرجت أميركا اليوم بكثافة لوداع هذا "الأسد" من الأسرة المتمرسة والمتوغلة في أروقة السياسة الأميركية. الجميع، من اختلف معه أو اتفق، أرخى القبعة إجلالا لرحيل رجل الدولة العتيد، وأحد أبرز أعمدة السياسة الأميركية، والذي اشتغل بدأب على صياغة وتشريع العديد من القوانين التي تحسب له في تاريخه السياسي المديد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لا ينكر الأميركيون على "العائلات السياسية" حقها في المشاركة المتواصلة بالحكم، لا بل يفتخرون بعائلة من أمثال عائلة كيندي كون أفرادها ساهموا وما زالوا يساهمون في الحياة السياسية الأميركية؟!
لماذا لا ينكر الأميركيون على عائلة كيندي، كما لم ينكروا على عائلة بوش من قبل، حقَّ تعاقب أفرادها في الحكم و تسيير شؤون الدولة؟ لماذا لا يعزل الأميركيون هذه العائلات، ويتوجسون منها ريبةً، ويرون أفرادها مجرد مغتصبين للسلطة، محتكرين للعمل السياسي، نفعيين وانتهازيين؟ لماذا حظي اليوم السيناتور كيندي بهذا الوداع الشعبي والرسمي الذي لا يليق إلا بالعظماء الذين تركوا في التاريخ بصمة، وفي مسيرة بلدهم وحياة شعبهم علامة؟
قد تكون الإجابة مقتضبة جدا وبديهية عن هذه الأسئلة مجتمعة، وقد تتلخص بكون هؤلاء " الكينديين" قد دخلوا عالم السياسي من بابه العريض، المنزّه عن المصالح الشخصية أو المطامع الأسرية، ولم "ينطّوا" إليه من الشباك الخلفي. وأنهم أرادوا من مناصبهم تقديم الخدمات للشعب الذي جاء بهم إلى السلطة، أرادوا تطوير القوانين وتسريع التنمية وتمكين الحريات وتوفير فرص العمل ورفع مستوى الرفاه وتمكين أسس الديمقراطية والحقوق الإنسانية المدنية التي قامت عليها أميركا.
هؤلاء الشقر، ذوو العيون الزرق من السلالات الأيرلندية، كانوا الأقرب إلى الدفاع عن حقوق أصحاب البشرة الداكنة والسوداء من الأقل حظا. أرادوا المزيد من الحقوق والحريات وتكافؤ الفرص والمشاركة السياسة للسود والمهاجرين والفقراء والأقليات. وقد شهد التاريخ المعاصر الأميركي وصول أول رئيس أميركي أسود إلى سدة الحكم هذا العام، وكان لدعم السيناتور الراحل دور كبير في رجاحة ميزان الحزب الديمقراطي لجهة ترشيح باراك أوباما على هيلاري كلينتون.
نعم، آل كيندي عائلة سياسية بامتياز، إلا أن أفرادها تبوأوا مناصبهم بإرادة من الشعب ولم يفرضوا أنفسهم فرضاً على الرقاب. جاؤوا بهدف تطويع السياسية لتحقيق مصالح وطنية وأهداف قومية عليا، فكانوا مؤسسين ومنتجين، ولم يكونوا متطفلين أو نفعيين. أداروا شؤون الدولة ولم يجعلوا من كراسيهم مطية لعنجهية سلطوية ولاستبداد، عززوا من سلطة القانون ومساحة الحريات وحقوق الأفراد ولم يفصّلوا القوانين على مقاس كراسيهم وجيوبهم، أو يمنحوا الهبات في مقابل كسب ولاء الرعية الأعمى القائم على الخوف والتهميش والرهاب، لا على التقدير الشعبي المبني على الثقة المتبادلة والحوار الندّي والاحترام بين الطرفين.
نعم، الأميركيون لا ينفرون من العائلات السياسية، ولا يشكّل المصطلح لديهم عقدة نفسية أو يولّد الكوابيس التي تهدد ّمستقبلهم، لأن ولاء أفراده هذه العائلات للمصالح الأسرية الضيقة يتوقف عند حاجز العمل العام، حيث يصير ديدنهم المواطن بحاجاته وأمنه ورفاهيته.
رحل كيندي اليوم وووري الثرى في مقبرة أرلنغتون للشهداء، قريباً من العاصمة الأميركية واشنطن، إلى جانب أخويه جون وروبرت. وحين هبط الليل، وكان يهبط إلى مستقره الأخير، ارتفعت شعلة الشهيد في المقبرة مرافَقة بطلقات الوداع الأخير، وبالغزير من الدموع.
هكذا ودع الأميركيون الفارس الأخير من فرسان الكاميلوت ـ اللقب الذي أطلقته جاكلين كيندي على عائلة زوجها جون كيندي ـ باحترام وتقدير بليغين، اجتمع عليه من اختلف معه سياسيا أو حالفه، من محافظين أو ليبراليين، ومن جموع المواطنين العاديين من الذين نذر حياته السياسية لخدمة قضاياهم، فردوا الحب بحبّ.
كتبت مرح البقاعي في رحيل إدوارد كيندي
رحل السناتور الأميركي إدوارد كيندي، "أسد مجلس الشيوخ"، بعد أن شغل كرسيه لمدة 47 عاما متّصلة.
رحل المدافع الصلب عن الحقوق المدنية، الإصلاحي العنيد، والمشرّع لقوانين حماية حقوق الأقليات والمهاجرين والفقراء والمعاقين، والرعاية الصحية للأطفال، وكذلك الإصلاح التعليمي.
غاب الرجل الرابع في أسرة كيندي العريقة، سياسياً واجتماعياً في آن، إثر معاناة، لم تدم طويلا، من مرض عضال في الرأس، لكنه قضى محاطاً بأفراد عائلته وكتبه، بينما كان رحيل أخويه: رئيس الولايات المتحدة الأسبق جون كيندي، والسيناتور روبرت كيندي، رحيلاً تراجيدياً في عمليتي اغتيال سياسي منفصلتين، أما الأخ الأكبر فكان قد لقي حتفه أثناء قيادته لطائرته العسكرية في الحرب العالمية الثانية.
خرجت أميركا اليوم بكثافة لوداع هذا "الأسد" من الأسرة المتمرسة والمتوغلة في أروقة السياسة الأميركية. الجميع، من اختلف معه أو اتفق، أرخى القبعة إجلالا لرحيل رجل الدولة العتيد، وأحد أبرز أعمدة السياسة الأميركية، والذي اشتغل بدأب على صياغة وتشريع العديد من القوانين التي تحسب له في تاريخه السياسي المديد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لا ينكر الأميركيون على "العائلات السياسية" حقها في المشاركة المتواصلة بالحكم، لا بل يفتخرون بعائلة من أمثال عائلة كيندي كون أفرادها ساهموا وما زالوا يساهمون في الحياة السياسية الأميركية؟!
لماذا لا ينكر الأميركيون على عائلة كيندي، كما لم ينكروا على عائلة بوش من قبل، حقَّ تعاقب أفرادها في الحكم و تسيير شؤون الدولة؟ لماذا لا يعزل الأميركيون هذه العائلات، ويتوجسون منها ريبةً، ويرون أفرادها مجرد مغتصبين للسلطة، محتكرين للعمل السياسي، نفعيين وانتهازيين؟ لماذا حظي اليوم السيناتور كيندي بهذا الوداع الشعبي والرسمي الذي لا يليق إلا بالعظماء الذين تركوا في التاريخ بصمة، وفي مسيرة بلدهم وحياة شعبهم علامة؟
قد تكون الإجابة مقتضبة جدا وبديهية عن هذه الأسئلة مجتمعة، وقد تتلخص بكون هؤلاء " الكينديين" قد دخلوا عالم السياسي من بابه العريض، المنزّه عن المصالح الشخصية أو المطامع الأسرية، ولم "ينطّوا" إليه من الشباك الخلفي. وأنهم أرادوا من مناصبهم تقديم الخدمات للشعب الذي جاء بهم إلى السلطة، أرادوا تطوير القوانين وتسريع التنمية وتمكين الحريات وتوفير فرص العمل ورفع مستوى الرفاه وتمكين أسس الديمقراطية والحقوق الإنسانية المدنية التي قامت عليها أميركا.
هؤلاء الشقر، ذوو العيون الزرق من السلالات الأيرلندية، كانوا الأقرب إلى الدفاع عن حقوق أصحاب البشرة الداكنة والسوداء من الأقل حظا. أرادوا المزيد من الحقوق والحريات وتكافؤ الفرص والمشاركة السياسة للسود والمهاجرين والفقراء والأقليات. وقد شهد التاريخ المعاصر الأميركي وصول أول رئيس أميركي أسود إلى سدة الحكم هذا العام، وكان لدعم السيناتور الراحل دور كبير في رجاحة ميزان الحزب الديمقراطي لجهة ترشيح باراك أوباما على هيلاري كلينتون.
نعم، آل كيندي عائلة سياسية بامتياز، إلا أن أفرادها تبوأوا مناصبهم بإرادة من الشعب ولم يفرضوا أنفسهم فرضاً على الرقاب. جاؤوا بهدف تطويع السياسية لتحقيق مصالح وطنية وأهداف قومية عليا، فكانوا مؤسسين ومنتجين، ولم يكونوا متطفلين أو نفعيين. أداروا شؤون الدولة ولم يجعلوا من كراسيهم مطية لعنجهية سلطوية ولاستبداد، عززوا من سلطة القانون ومساحة الحريات وحقوق الأفراد ولم يفصّلوا القوانين على مقاس كراسيهم وجيوبهم، أو يمنحوا الهبات في مقابل كسب ولاء الرعية الأعمى القائم على الخوف والتهميش والرهاب، لا على التقدير الشعبي المبني على الثقة المتبادلة والحوار الندّي والاحترام بين الطرفين.
نعم، الأميركيون لا ينفرون من العائلات السياسية، ولا يشكّل المصطلح لديهم عقدة نفسية أو يولّد الكوابيس التي تهدد ّمستقبلهم، لأن ولاء أفراده هذه العائلات للمصالح الأسرية الضيقة يتوقف عند حاجز العمل العام، حيث يصير ديدنهم المواطن بحاجاته وأمنه ورفاهيته.
رحل كيندي اليوم وووري الثرى في مقبرة أرلنغتون للشهداء، قريباً من العاصمة الأميركية واشنطن، إلى جانب أخويه جون وروبرت. وحين هبط الليل، وكان يهبط إلى مستقره الأخير، ارتفعت شعلة الشهيد في المقبرة مرافَقة بطلقات الوداع الأخير، وبالغزير من الدموع.
هكذا ودع الأميركيون الفارس الأخير من فرسان الكاميلوت ـ اللقب الذي أطلقته جاكلين كيندي على عائلة زوجها جون كيندي ـ باحترام وتقدير بليغين، اجتمع عليه من اختلف معه سياسيا أو حالفه، من محافظين أو ليبراليين، ومن جموع المواطنين العاديين من الذين نذر حياته السياسية لخدمة قضاياهم، فردوا الحب بحبّ.