جنود هوليود المجهولون
فهد عامر الأحمدي
بعد تفجيرات نيويورك 2001 اعتدى مراهق أمريكي على عامل محطة مسلم.. وأثناء محاكمته قال محامي الشاب:
سيدي القاضي: أرجو أن تعذر موكلي فهو منذ تفجيرات نيويورك يعيش في حالة رعب وذعر شديدين.
فيرد عليه القاضي بحزم : وهذه أيضا حال ثمانية ملايين مسلم يعيشون في هذا البلد.
.. هذا المقطع الحواري الجميل كان جزءا من مسلسل لم أعد أتذكر اسمه، ولكنه علق بذهني بسبب ذكائه وبراعته وحرفيته الكبيرة.. فجزء كبير من مشاهدتي للأفلام والمسلسلات الأجنبية يعود لتمتعها بسيناريو احترافي متقن يصعب العثور عليه في برامجنا العربية.. وأنا لا أتحدث فقط عن جمال الصياغة والحبكة الأدبية، بل (وابتكار) أقوال حكيمة وحوارات عظيمة ومواقف أخلاقية راقية.. كالمقطع السابق..
فكتابة السيناريو أصبحت هناك تخصصا مستقلا يدرس في الجامعات ويفصل (تفصيلا) على الممثلين بعد استشارة خبراء يعملون في ذات المجال.. وكتاب السيناريو في هوليود بالذات ينالون أجورا عالية تصل لعشرين مليون دولار وتخصص لهم جوائز في منافسات الأوسكار.. وهم ينضوون تحت نقابة قوية حين دعتهم للاضراب عامي 1988 و2008 أصيبت هوليود بالشلل التام وتجاوزت خسائرها 500 مليون دولار في كلا العامين..
وأنا شخصيا أعتقد أن كُتاب السيناريو هناك لا يقومون فقط بدور الجندي المجهول (في صناعة السينما والتلفزيون) بل ويصنعون التوجه الأدبي والأخلاقي للشعب الأمريكي.. فالشعب الأمريكي لا يملك تاريخا طويلا أو تراثا عميقا، وبالتالي دخلت كثير من الاقتباسات التلفزيونية والسينمائية ضمن مخزونه الأدبي والتراثي وغدت بالنسبة لهم كالأقوال المأثورة بالنسبة لنا !!
... انظر مثلا لهذا المقطع الذي ورد في مسلسل ساينفيلد:
جورج: لم يعد العملاء يرغبون بشراء خدماتي رغم رخصها..
فيرد ساينفيلد بجملة تحولت اليوم لمثل شعبي: الناس لا يستعملون الطريق الخالية لسبب وجيه !
... وفي مسلسل جراي انتومي يواسي الطبيب عائلة المريضة بهذه النصيحة الجميلة:
لن تكون والدتكم ميته إن اكتشفتم طريقة لتذكرها دائما...
... وفي فيلم لا أتذكر اسمه يقول رجل العصابة لشقيقه (وقد تأتي الحكمة من أفواه المجرمين):
كن كما أنت، وتصرف كما تحب، فمن يخالفك لا يهمك أمره، ومن يهمك أمره يحبك كما أنت...
أما إن سألتني عن مسلسلي المفضل فهو الدراما الطبية هاوس(House) الذي يجمع بين حرفية السيناريو وبراعة الممثل الرئيسي هوج لوري الذي يقوم بدور الطبيب المعوق وغير العادي الدكتور هاوس...
فعندما تطوعت إحدى الممرضات للحديث مع والد أحد المتوفين (وكان يهوديا متدينا) وإقناعه بالتبرع بأعضاء ابنه قال لها الدكتور هاوس:
لن يوافق على التبرع فهو حاخام..
فقالت: سأقنعه بالمنطق..
فيرد بحدة: لا يمكنك إقناع رجل متدين بالمنطق.. وإلا كيف أصبح متديناً منذ البداية!!
... وفي حلقه أخرى يحاول زميله الدكتور فورمن تحذيره من مصير الصياد في رواية الحوت موبي ديك (وهي رواية كلاسيكية شهيرة) فيرد عليه هاوس:
لن يحدث هذا مالم أركب سفينة خشبية وأطارد حوتا مجنونا..
فيعتذر فورمن ويقول: أنت تدرك أن هذا مجرد تشبيه؟
فيقول هاوس جملة تستحق التذكر:
وأنت تدرك أن الهدف من التشبيه إخافة الناس وإقناعهم بأن ما سيحدث أسوأ مما قد يحدث فعلا !
... وبيني وبينكم حتى زوجتي أم حسام (المتخصصة في مناظير الأطفال) سمعت من الدكتور هاوس نصيحة عملية مفيدة.. ففي إحدى الحلقات يعجز فريقه الطبي المكون من أطباء أصغر سنا عن معرفة سبب الالتهاب الدائم في أمعاء أحد المرضى فيصرخ بهم قائلا:
مشكلتكم أنكم مازلتم تفكرون كأطباء في حين يجب أن تفكروا كسباكين لاكتشاف علة هذا المسكين !!
... ولاحظوا في النهاية أن من قال هذه الحوارات ليس الدكتور هاوس، ولا ساينفيلد، ولا رجل العصابات، بل كُتاب سيناريو محترفون لا نعرف أسماءهم ولا نشعر بوجودهم ولا نرى مثيلا لهم في عالمنا العربي!!
..... وكي لا أظلم عالمنا العربي..
ابتكرت نادية الجندي في فيلم الباطنية جملة شاعت بين الناس لدرجة استعملها الرئيس السادات في أحد خطاباته:
"سلملي ع الباذنجان"...