قراءة في مسرحية ( بيت برناردا البا ) للوركا
من يقرأ عنوان هذا العمل المسرحي للشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا يتبادر إلى ذهنه إن برناردا البا هذه امرأة طيبة أو محبة للخير، فقد اعتدنا أن من يكون اسمه (أو اسمها) عنوانا للعمل ( أي البطل) دوما محبا للخير ومحاربا لعنصر الشر في هذا العمل (1) . غير أن هذا العمل المهم للوركا قد حمل عنوانه (بطل سلبي) (وهي برناردا البا)، هذا العمل الذي عدّه النقاد ضمن ثلاث مسرحيات مصنفّة من اجمل مسرحيات لوركا ، بالاضافة إلى ( ييرما) و (عرس الدم) وتعرف أيضا بـ(الزفاف الدامي)، حتى سميت بـ(الثلاثية الأندلسية) لشاعر غرناطة وربما ضم البعض إلى هذه الأندلسيات مسرحية (ماريانا بينييدا) (2) أو كما أراد لها المترجم احمد سويد عند ترجمتها فأطلق عليها عنوان (وداعا يا غرناطة) (3).
المسرحية هذه ( بيت برناردا البا ) يصح أن يطلق عليها مسرحية ( الكبت النسوي !) ، البيت الذي ما أن يحل قرب نوافذه وفي حظيرته رجل حتى تجده ينقّض على أركانه ، هذا البيت المتين في (الظاهر) !
تبدأ المسرحية بعرض مطلعي (Expositior) عن طريق حوار بين شخصيتين ثانويتين (الخادمتان) يكون مقدمة لظروف الحالة الراهنة (Exposition) حتى نعلم أن المسرحية قد بدأت بوفاة زوج (برناردا البا) وان القداّس على روحه في الكنيسة قد بدا مهيبا لازدحامها بالحضور من جميع القرى المجاورة ، وبعد أن تنتهي مراسيم العزاء تعلن (برناردا البا ـ 60 سنة) لأسرتها :
(( إن الحداد لدينا ثمان سنوات ينبغي ألا يدخل خلالها من أبواب هذا المنزل ولا من نوافذه حتى هواء الطريق نفسه !!))(ص 32 ـ 33) كما جرت عليه العادة في هذا البيت الذي يضم أمها المجنونة (ماريا خوسيفا ـ 80 سنة) التي تريد الهرب للزواج ((من فتى جميل يأتي من ساحل البحر ، ما دام الرجال في هذا البلد المشؤوم يهربون من النساء)) ( ص 63 ) ، كذلك يضم الخادمة (لابونثيا ـ 60 سنة) وخادمة أخرى ( 50 سنة) وخمس بنات لبرناردا البا وهن ( انجوستياس ـ 39 سنة / ماجدالينا ـ 30 سنة / أميليا ـ 27 سنة / مارتيريو ـ 24 سنة / اديلا ـ 20 سنة ) 0
منذ البداية نصطدم بسوء خلق برناردا وتزمتها مع الغير ، حتى مع بناتها والذي هو ضروري (كما تعتقد) لما تتمتع به من مركز اجتماعي لذا فهي تنظر إلى الغير بنظرة تعالي وعنجهية واحتقار وبخاصة الفقراء منهم ، فها هي تقول لخادمتها امام المعزّين :
(( اذهبي ، فليس هذا مكانك ، إن هؤلاء الفقراء مثل الحيوانات ، وهم يبدون كما لو أن الله خلقهم من طينة أخرى )) (ص 24 ـ 25 ) هذا المقياس السطحي الساذج والذي يقدّر ويزن الغير بمقدار ما يمتلكون من المال فحسب يصطدم ولا ينطبق حتى على بيتها وبناتها ، فهذه الخادمة لابونثيا تقول للخادمة الأخرى في بداية المسرحية بأن لديها:
((خمس بنات دميمات وفقيرات !)) (ص 19) حتى أن اميليا تخاطب أختها مارتيريو بان أختهما الكبرى انجوستياس (من أب آخر) ورثت كل ما يملك بعد وفاته وحتى والدهما (وما هو باب لانجوستياس) قد أوصى بالنصيب الأوفر لها دونا عن الأخريات ! ، حيث تقول :
(( انجوستياس لديها ألان كل مال أبيها ، وهي الغنية الوحيدة بيننا ، وقد كان موت أبينا وتوزيع تركته التي ظفرت منها انجوستياس بنصيب الأسد هو الذي جعل الأنظار تتهافت أليها )) (ص 54 ) ، ولكن نجد أن ألام برناردا قد ساهمت بعنوسة بناتها بسبب تشددها في كل من يتقدم لهن حتى أنها حرمت ابنتها مارتيريو ((الضعيفة والسريعة الانزلاق في الحب)) (ص 102) من الزواج ممن كان يرغب بها (على شحّتهم) ( انريكي اوماناس ) لان أباه كان عاملا أجيرا (ص 103) حتى أنها بكل تعالي وعجرفة تسوّغ تكبرّها واحتقارها للغير بالقول لخادمتها لابونثيا :
(( إذا كنت أتكبّر فلأن لدي من الحسب ما أتكبر من اجله ، أما أنت مثلا فلا تستطيعين لأنك تعرفين جيدا ما هو أصلك ! )) (ص 103) ولكن هذا الجاه والحسب لا يعتد بحقيقة الأشياء وكنهها وكل ما يهم هو الحفاظ على المظاهر ، ففي الوقت الذي تسمع بفضيحة الجارة أبنة (لبرادا) العازبة عندما تنجب ولدا مجهول الأب لتصرخ وهي تطل على الجماهير :
(( أقتلوا الفاجرة.. أقتلوها ! )) (ص 115) نجدها تداري نفس الفضيحة والتي اقترفتها ابنتها الصغرى أديلا والتي انتحرت في الحظيرة (4) (في نهاية المسرحية) لتوصي أهل بيتها بالقول:
(( أنزلوها.. إنها ماتت عذراء ... احملوها إلى غرفتها والبسوها ثياب العذارى ... ولا يقولّن أحد منكم شيئا.. أبنتي ماتت عذراء ، وابلغوا النبأ حتى تدق أجراس الكنيسة في الفجر معلنة أن فتاة بكرا قد اختارها الله إلى جواره ... إنها هي ... أبنة برناردا البا الصغرى ... قد ماتت عذراء..عذراء ... عذراء ! أسمعتن ؟))(ص 154 ـ 155).
يبدو أن الركود الاجتماعي والتحفّظ المبالغ به في هذه البلدة وفي هذا البيت بالذات قد ترك آثارا سلبية خطيرة وأمراض نفسية تجعل المرء فيه ينحرف عن كل ما هو سوي وطبيعي كرد فعل عنيف على هذا الكبت ، حتى نجد أن اديلا (البنت الصغرى) لا تتوّرع عن إقامة علاقة محرّمة مع أول رجل يقترب من بيتهن ومع من ؟ مع خطيب أختها الكبرى أنجوستياس ، وهكذا تدور أجواء المسرحية حول شاب (بيبي ال رومانو ـ 25 سنة) يطلب يد امرأة تكبره بـ(14 سنة) لا لجمالها ولا لشيء آخر سوى ثروتها ، وشيئا فشيئا تتكشّف الحقائق لنعرف أن اديلا قد أقامت معه علاقة غير مشروعة حيث كانت تلتقي به في الحظيرة أواخر الليل وان الفضيحة آتية حتى لو لم تنتحر ، إذ يريد لوركا تنبيهنا إلى ذلك عن طريق حركة تقوم بها اديلا عندما تصرخ أمها بأن يقتلوا الفاجرة أبنة(لبرادا) العازبة حيث تصرخ اديلا لاشعوريا ( وهي ممسكة ببطنها) :
(( لا.. لا.. لا تفعلوا .. ! )) (ص 115).
أما الأخت الأخرى ( مارتيريو ـ 24 سنة) فهي تعشق هذا الرجل أيضا لا لذاته بل لأنه رجل فحسب ، الرجل الوحيد الذي يخترق هذا العالم المغلق عليهن ، أي انه حب غريزي حسّي سطحي فحسب ، ولأنها لا تملك جرأة أختها الصغرى اديلا فأن رد فعلها يقتصر على التجسس على اديلا ومحاولة منعها من الاستمرار في هذه العلاقة بداعي التمسّك بالفضيلة والشرف والعفّة... الخ ولكنها تصرّح أخيرا لاديلا بان السبب الحقيقي هو حبها هي له (ص 146 ) حتى أنها تبعد اديلا بعنف عندما تحاول الأخيرة معانقتها ، قائلة :
(( لا تعانقيني ولا تحاولي إلانة قلبي عليك .. إن دمي لم يعد هو الدم الذي يجري في عروقك .. وقد كنت أود أن انظر إليك باعتبارك أختا ، ولكني لم اعد أرى فيك إلا مجرد امرأة ! )) ( ص 146 ) .
هذا التمرد الطبيعي هو رد فعل على الكبت والحجر على الحرية (البريئة)، التحفّظ المبالغ به والذي يستهجن حتى التصرفات البريئة وينظر إليها بعين الريبة والشك بداعي الحفاظ على التقاليد والأخلاق ... الخ ، هذه ليست سوى مظاهر تتمسك بها برناردا البا وأمثالها حتى إنها تتصرّف كالنعامة التي تدفن رأسها متغاضية عن تلميحات خادمتها لابونثيا عندما تحاول أن تطلعها على ما يجري في الظلام حتى أنها تهاجم الخادمة بشدة وتعيرّها بأصلها وتعرّض (بخسّة) بأمها التي كانت تعمل ببيت بغاء (5) ، هذا الشرف والجاه والحسب محض مظاهر لا يجوز لأحد التجاوز عليها حتى (الحقيقة المجردّة) نفسها ونجد أنها تستمر بذلك حتى آخر المسرحية كما رأينا عندما تصّر على الإعلان إلى أن ابنتها ماتت (( عذراء .. عذراء.. عذراء )) هذا يلخّص أخلاقيات هذه المجتمعات المغلقة .
إن لوركا يريد آن يقول لنا إن النفاق في هذا المجتمع يعد من أساسيات أخلاقياته ، فالصراحة والحقيقة المجرّدة لذلك صنو للفساد والكذب والبهتان ما دام أنها تصطدم بالأساس الذي يقوم عليه مثل هذا المجتمع ، فلا شيء أكيد حتى لو رأيت اديلا تطارح عشيقها الغرام فوق تبن الحظيرة ، الذي هو (( سرير الفاجرات )) (ص 149) على حد تعبير برناردا ، اذن (( ليس هناك شيء في هذه الحياة يعلم علم اليقين )) (ص 109) كما يقول لوركا على لسان الخادمة لابونثيا وهي ترّد على برناردا والتي علمت بوجود مثل ذلك التصرّف ولكنها لا تريد الاعتراف بوقوعه (لعجرفتها وللأسباب المذكورة) ولذلك ، فقد كان الرجل عندهن (شيء غريب ومجهول) هو ادعى لهن لتجنّبه على التآلف معه (قبل مجيء بيبي ال رومانو) حيث تقول مارتيريو :
(( إن الرجال يستر بعضهم جرائم البعض )) (ص 46) ثم تقول : (( انه خير للمرأة ألا تنظر إلى رجل قط ، وإني لأذكر أنني منذ طفولتي لم أكن انظر إلى الرجال إلا في كراهية وخوف 000 ولهذا فأني احمد الله على أنه خلقني ضعيفة الجسم قبيحة الصورة حتى يصرفهم عنّي إلى الأبد )) (ص 47) (( ماذا يهم الرجال من القبح والدمامة في النساء ؟ إن كل ما يريدون هو ما يملكن من ارض وماشية 00 ثم كلبة أليفة تقدم لهم الطعام )) ( ص 4 8 ) هذا المجتمع المنافق الذي هن جزء منه ، إذ تقول اديلا :
(( كل الأشياء تغتفر للرجال )) واميليا ترد عليها : (( إن شر عقاب يصيب المرأة هو أنها تولد امرأة )) (ص87).
هذا الجحيم والذي تحمد انجوستياس الله على أنها ستخرج قريبا منه (ص 66) إن هو إلا مقبرة حيّة لتلك الفتيات حيث ذبلت أجسادهن بانتظار من لا يأتي ! فلماذا يأتي الرجال ولا توجد ثروة أو جمال أو غير ذلك مما يجذب الرجال ؟ حتى تعبّر ماجدالينا عن هذا التمرّد على الانتظار ، فتقول:
(( انه من الخير لي أن احمل إلى المطحن أكياس الغلال .. أو أن أقوم بأي عمل آخر على ألا يكون انتظاري جالسة في هذه القاعة المظلمة أياما وأياما .
برناردا: هذا الانتظار هو ما تفعله كل امرأة .
ماجدالينا: ألا لعن الله النساء جميعهن ! )) (ص 34) .
التكملة تحت لطفاً
عدل سابقا من قبل وليد محمد الشبيبي في السبت 28 مارس 2009, 6:16 pm عدل 1 مرات