قلــــوب من ذهــــب...
بقلم : الدكتور مصطفى ماهر عطري
نشأة قيام الحضارات لا تثير الدهشة ,ولكن ظاهرة انهيارها وانحلالها هو الأمر الذي يبدو غريباً ويلفت الانتباه !...
ومن طبيعة الإنسان المعاصر إن يذكر الماضي ويستأنس به ,ويتطلع إلى المستقبل ليتفاءل ويحلم بحياة أفضل ،ويحاول أن يربط بين ما حدث وما سوف يحدث ،يروي سيرة السلف ويصف الحاضر والخلف وينبأ بما هو آت قياسا على ما فات ؟!..
هذا الموضوع بالذات كان دائماً يثير اهتمامي ويحيرني ,وخاصة لمعرفة سبب انهيار الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس ,بحثت في أمهات الكتب التاريخية لفهم الحقيقة ,فازددت عطشا وألماً في آن واحد ,وعندما حاولت فهم تفسير قول الفيلسوف الألماني الكبير
" ازوالد شنجلر" عن أسباب انهيار الحضارات قبل أكثر من ستين سنة بقليل ,معززا رأيه بنظرية بالتاريخ تقول : أن التاريخ ليس خطاً مستقيماً إلى التقدم ,ولكنه دورات متعاقبة من النمو والانحلال ,وإن كل حضارة هي أشبه بالإنسان... يولدُ وينمو وينضج ثم يشيخ ويذبل ويموت ,ثم تبدأ دورة حضارية أخرى في مكان أخر من العالم ,وهكذا...
إلا أنني تأكدت فيما بعد ,أن جميع الحضارات التي لم تَقم على أساسٍ من الأخلاقِ والفضيلةِ ,مهما كانت قوتها الاقتصادية أو العسكرية أو العلمية كانت نهايتها الانحسار والضياع والنسيان.
إن انتشار القيم المادية ,واختفاء الحياة الروحية على كل صعيد ,وانحلال الأخلاق الكريمة ,وكثرة الاضطرابات الاجتماعية والفضائح المالية الكبرى في أمريكا خاصة ًوفي الغرب عُموماً ,والآثار المدمرة للبيئة في كل بقاع الأرض ،هو النموذج الحضاري الحالي للقرن الحادي والعشرين ,والذي يسير بنا إلى الهاوية شئنا أم أبينا ,وخاصة بعد ظهور طبقات اجتماعية فاسدة معبودها الأول والأخير "إله المال" ونظافتها الأولى هي غسيل الأموال ,وهي سائرةٌ ولاشك إلى الهلاك عاجلا ًأم أجلالاً .
أما نحن أحفاد العرب الحاليين , ورثةُ حضارة كبرى سادت ثم بادت ,هل نطمح يوماً للعب دورٍ عالميٍّ في النهوض الإنساني الجديد ,في إضاءة علوم الطب والأدب والفضاء ,أم أننا لم نستيقظ بعد من غفوتنا ومازلنا ننعم بسباب عميق؟!.. ولم نتعلم بعد من الدروس التاريخية السابقة واللاحقة ,وأحببنا الملذات الحسية على سائر المتع الإنسانية والفكرية والاجتماعية ,بل أصبحنا عبيدا للدولار ,وهي ظاهرة تزداد طغياناً كل يوم؟!...
والكلام عن الحضارة العربية الإسلامية الضائعة كثير ,والكتب في نواحيها تثقل رفوف المكتبات ,وقد كان سبب سيادتها ونجاحها الكبير ,نجده في قول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال : " الدين معاملة " والمراد بالمعاملة هنا بأوسع معانيها ,معاملة الإنسان لأخيه الإنسان ,ومعاملته لنفسه وأهله أصدقائه وأخوته في الإنسانية على كل ما يصدر عنه من قول وفعل ,وكذلك نجده بقول الرسول الكريم على السلام حينما قال :" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . وعندما نقرأ قول الشاعر أحمد شوقي :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نفهم من جديد أيضاٌ , بأن أساس الحياة وقيام الحضارات هو الأخلاق ثم الأخلاق . ولقد كان جميع أطباء العرب القدماء يمارسون الطب ويتحلون بالأدب ,وكان لقب الطبيب فيهم " الحكيم" قولاً وفعلاً , وكانوا أسياد العالم في الطب والعلم التطبيقي والمعارف الشاملة ,
أما اليوم فإنني لا أبالغ إذا قلت أننا فقدنا موقع القيادي في هذا المجال , وأصبح الطبيب العربي اليوم يواجه مأزقاً حرجاً أثناء ممارسته المهنية , التي حظيت بالتقدير والاحترام ,وخصوصاً بعد الثورة العلمية والتقنية الهائلة ,والتي خلطت الأوراق ,وباعدت بين الحلال والحرام؟!...
فالطب الحديث توغل في اكتشاف وسائل التشخيص والعلاج التقني المادي ,حتى باتت أكثر تعقيداً , بينما تضاءل الجانب الإنساني في الطب ,ولم يعد هدف الأطباء أن يهتموا بالمرضى قدر اهتمامهم بالمرض نفسه ,فتحول اسم الحكيم العربي إلى طبيب ,ليزاول مهنة يقلد فيها أطباء الغرب الآخرين ,دون أن يكون له دوراً قيادياً في الأبحاث العلمية والتطبيقية الحالية على المستوى العالمي.
ومهما تطور الطب الحالي ,فلا زالت أعلام الطبابة العربية السابقة براقة في مدارس الطب العالمية , وعلى رأس هؤلاء الشيخ الرئيس (ابن سينا) ,أبو بكر الرازي ,ابن النفيس ,وصولا إلى أبي الوليد بن رشد الفيلسوف الحكيم الأندلسي المعروف ,
لقد كان لهؤلاء العلماء العرب المسلمين جولات وصولات في مختلف فروع العلم والمعرفة ,وساهمت انجازاتهم العلمية في تقدم العلم في الغرب ,عندما كانت أوربا ترزح في بحر الظلمات؟!...والحديث عن أصحاب القلوب النورانية الأخلاقية من الرسل والأنبياء في الماضي ,إلى أصحاب القلوب الذهبية من الفلاسفة في القرون السابقة واللاحقة , يكاد يبدو من المسائل التي يثيرها الخيال , وتمليها على المفكرين الأماني والأحلام , كيف لا ونحن نعيش عصر المادية المتوحشة ,التي تأكل الأخضر واليابس ,في كل نواحي الحياة الاجتماعية والعملية ومجالاتها المختلفة!...
لقد أصبح الحديث عن الفضائل الأخلاق
ومن علماء القلوب الذهبية في الغرب , الحكيم والفيلسوف الفرنسي ألبرت شفيتزر ,الذي ولد عام 1875 , وخلال الحرب العالمية الثانية وضع مستشفاه الخاص الواقع في مدينة سترازبورغ ,لعلاج المصابين مجاناً ,وذاعت شهرته بعد ذلك في جميع أنحاء الأرض ,ويقول شفيتزر :
إن الاتصاف بصفة الأخلاق وخاصة في الطب ,يعني البدء في التفكير بإخلاص ,والتفكير هو الحجة بين الإرادة والمعرفة في ذاتنا ,وهذه الإرادة لا تعرف إلا حقيقة واحدة وهي إرادة الحياة ,التي تمكن في الكائنات الحية .والعقل الأخلاقي الإنساني يحثنا دائماً على إنماءِ وحفظِ كل إرادةٍ حيةٍ مثلما ننمّي ونحفظ هذه الإرادة في ذاتنا .
ويقول هذا الحكيم: أن الأخلاق هي أولى ضروريات الحياة الفكرية و الإنسانية , لأن الخير هو كل ما يحمي الحياة ويشجعها , والشر هو كل ما يعارض هذه الحياة ويؤذيها!؟...ومن خلال كتابه " حياتي وفكري " يقول :
هناك تجربتان تلقيان ظلهما على حياتي :الأولى إدراكي أن العالِم الطبيب الحكيم هو لغزٌ معقدٌ ومليءٌ بالآلام والثانية ولادتي في عصر الانحطاط الروحي للإنسانية ,وكان تعرفي إلى مبدأ احترام الحياة الذي يؤدي إلى الإقرار بالأساس الأخلاقي للعالم ,وهي القاعدة التي ارتكز عليها وجودي ووجه حياتي ,ونتيجة لذلك صممت على أن أعمل لأجعل الناس أكثر عمقاً ومعرفة لأنفسهم ,
وهو يذكّر دائماً بأحاديث أستاذه ومعلمه الأكبر تولستوي الذي يقول : إن المادة هي مصدر الشرور في هذا العالم المليء بالظلم والآلام والخطايا ,وإن الوسيلة الوحيدة لإنقاذه وتغييره هي الإيمان والعمل بالمحبة والإحسان بين البشر ,لأن هذه المحبة هي قانون الله – تعطي لحياة الإنسان معنى سامياً ,تستطيع بواسطته القضاء على كل أنواع الحروب والمظالم التي تشكل التقدم الإنساني وترهقه أو تشقيه.
وفي سنة 1949 بعد الحرب العالمية الثانية , دعي شفيتزر إلى زيارة الولايات المتحدة الأميركية لإلقاء بعض المحاضرات في الذكرى المئوية للشاعر الألماني غوته , فاستقبل بحفاوة بالغة في جميع الأوساط الثقافية والعلمية فيها ,وخلال حفل التكريم الذي أقامته جامعة برنستون , رحب به صديقه العالم الكبير ألبرت أينشتاين قائلاٌ : في هذا العالم الحزين الذي نعيش فيه ,إليكم هذا الرجل العظيم ,كما وصفته مجلة " لايف " بأنه أعظم إنسان في ذلك العصر ,كما فاز بلقب رجل القرن العشرين ,وفي عام 1953 منح جائزة نوبل للسلام تقديراٌ لجهوده من أجل مستقبل أفضل للإنسان وللحياة والحضارة .
لقد كان العالم شفيتزر مثل أستاذه تولستوي ,وغيرهم كثير من أصحاب القلوب الذهبية ,يريدون إحداث ثورة في أعماق الإنسان بواسطة الحب والأخلاق ,لإنقاذ الحياة وتغيير العالم المادي , وانتشال الإنسان من الضياع الروحي المنبثق عن التقدم المادي الأعمى , الذي رفض قيادة المثل والقيم والأخلاقية ,كجوهر يحفظ الحياة ويحترمها ويشجعها . ولأنهم أمنوا بأن المنجزات الإنسانية العظيمة القيمة لا تتحقق إلا بالحماسة والتضحية بالنفس في سبيل إسعاد الآخرين .
وهذا الدافع إلى التقدم لا يمكن أن نجده إلا في الأخلاق والمحبة ,لأنه تحت تأثير المعتقدات الأخلاقية والرسالات السماوية . تتكون مختلف العلاقات في المجتمع البشري على نحوٍ يسمح للأفراد وللشعوب المختلفة ,بالنمو والتطور بطريقة مثالية.
فالحضارة هي حصيلة نظرية أخلاقية متفائلة في الكون والحياة ,ولابد لقيام أية حضارة مثالية في المستقبل من حدوث ردة فعل معاكسة في أعماق ضمير الإنسان , تعيده إلى حظيرة الأخلاق والفكر والمحبة . وعسى أن تصبح الأخلاق والمحبة موضوع اهتمام كل الكائنات البشرية المفكرة
فالإنسان الحضاري هو الذي يكرس حياته إلى المساعدة في مظاهر التقدم المادي والروحي معاً ,لما فيه خير الإنسانية ومع الأسف فإن الصراع المادي والكفاح من أجل الحياة , شغلنا عن التفكير في المثل العليا للحضارة المثالية " حضارة أصحاب قلـــوب من ذهــــب "
وصدق الله عز وجل حينما قال :
" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلـــــــــب" .