كنت قد كتبت اكثر من مقال حذرت فيه من مغبة الترويج لقضية الأقاليم والفدرالية والتقسيم في عراق ما بعد الإحتلال واعتبرت ان الرضوخ لهذا الهدف يعد من أشنع وأقذر مواقع الخيانة . العراق الذي كان مهد سبع امبراطوريات حكمت في تاريخه العريق لا يمكن لمواطن عنده ذرة من نبل ووفاء ان يقبل او يعمل على تقسيمه الى دويلات طوائف وعرقيات ومدن او كانتونات !. إن الإدارة الأمريكية ونظام الملالي وولاية الفقيه في ايران والدولة الصهيونية في إسرائيل يتصارعون من أجل الهيمنة على العراق ولا يجمعهم شيئ يتفقون عليه الا قضية الترويج للمشروع الطائفي من أجل التقسيم وأن الأدارة الأمريكية لم تعهد بالسلطة للأحزاب الدينية والكوردية إلا بسبب جاهزية هذه الأحزاب لتبني مشروع احتلال بهذه الصيغة .هذه الحقيقة بدت جلية من خلال ما اثبتته الأحداث لثمان سنوات مضت على الإحتلال تكاد تشكل مجمل ما يتفق عليه المحللون والمتابعون لمجريات الأحداث في العراق وهي حقيقة جاءت بشكل موثق في تصريحات المحافظين الجدد الذين تبنوا مشروع قانون تحرير العراق ابتداء من برنارد لويس وريشارد بيرل و ورامسفيلد وبول وولفيتز ودوغلاس فيث وانتهاء بجون بايدن ,لقد تجرع نظام ولاية الفقيه حرب ثمان سنوات ضروس ودامية من أجل إقتطاع البصرة والتأسيس لدويلة العراق الاسلامية فيها وبدا ذلك جلياً حين تمكنت قواته من التقدم باتجاه البصرة في معارك نهر جاسم ومن ثم احتلال الفاو, ولم يتراجع الخميني ويتجرَّع في حينها السم بوقف الحرب في 8 آب عام 1988 الا بعد اندحاراته العسكرية في هذا القاطع الذي كان يطمع باقامة دويلته فيه .جاء احتلال العراق لينفذ لإيران ما لم تحققه لها حربا الخليج دون ان يراق لها دم جندي واحد فيه وعوَّضت عن خسائرها المادية جراء حربها الطويلة بما درَّت لها اسعار النفط المرتفعة من أموال والتي غطَّت أيضاً كل تكاليف توغلها ونفوذها من خلال دعم وتجهيز وتكليف أحزابها الطائفية المتحكمة في سلطة الاحتلال . أما إسرائيل والتي اسقط مشروع الاحتلال أكبر امكانية عسكرية وعلمية تهددها في المنطقة متمثلة بالعراق وجيشه وكفاءاته مما استدعى ان يقدم رئيس وزرائها في حينها الشكر والتقدير الى بوش الأبن لحسن ما فعله بالعراق لصالح إسرائيل !. يكاد يجمع المراقبون و وثائق ويكيليكز التي سرَّبت مؤخراً ان التوغل الصهيوني في العراق بعد الاحتلال لم يقتصر على شمال العراق فحسب بل تجاوزه ليشمل هذا التواجد العراق بأكمله من خلال أجهزة المخابرات والتدريب وعناصر التنفيذ في مسلسل الاغتيالات والقتل والتدمير المستمر ناهيك عن انشطتها التجارية الواسعة. من هذا المنطلق كرَّس بريمر حاكم العراق المدني في قانون إدارة الدولة ومن بعدها في دستور الاحتلال الخبيث مصطلحات التشظية كالاتحادية والفدرالية والأقاليم وتسبب هذا في كل الصراعات السياسية التي أسست لها نظرية الفوضى الخلاقة خلال سنوات الاحتلال المنصرمة واللاحقة التي أججت لدمار مهلك وصراع دامٍ وملتهب , من أجل فرض مشروع التقسيم وإذعان المتضررين وإغراء الحالمين والطامعين بالمناصب والمصالح بحيث يبدو هذا المشروع هو الحل الذي لا سبيل غيره للخلاص كما روَّج له الكثير من المحللين والمعنيين بمستقبل العراق كالسفير كالبريث واندرسون وستانسفيلد وهولز وسبرنكبورج في كتبهم وتحليلاتهم المنشورة منذ وقت مبكر بعد الاحتلال .عندما كاد مشروع المقاومة الوطنية أن يسقط بمشروع الاحتلال وينهيه أواخر عام 2006 , انطلق مشروع الصحوات الخبيث في أقوى قلاع المقاومة فعلا وصمودا في محافظة الأنبار للتصدي للمقاومة في حاضنتها بذريعة تصفية تنظيم القاعدة ! وكانت زيارة بوش المباشرة الى المحافظة قاصدا ديوان مؤسس صحوتها ( ابو ريشه) ليلتحق فيما بعد به اركان حكومته المنصبة في بغداد زيارة مدروسة ومخطط لها ان تكون بمثابة تنصيب رسمي لأمير الأنبار وإشهارا رسميا وايذانا معلنا لمشروع التقسيم اللاحق وقد تم بعدها تعميم مشروع الصحوات في جميع معاقل المقاومة الوطنية تمهيداً لأقليم الوسط الذي اختاروا له عن قصد مصطلح المثلث السني المقاوم خبثاً , لكنَّ صمود المقاومة وتحملها بمرارة وقساوة وضراوة نتائج هذا المشروع الخبيث( الذي طوق فعلها لفترة وجيزة) ونجاحها في تجاوزه أسقط فرضية واقع التقسيم وبرهن بوضوح ان المقاومة مشروع التصميم للتحرير فيما تساقط وتهاوى مشروع الصحوات بشكل متسارع بحيث لم يعد لقادتها من مصير غير الموت أو الهزيمة في النهاية وانهارت وسائل الاحتلال العسكرية المتعاقبة المتمثلة باقامة الحواجز والفواصل والجدران الإسمنتية وسيطرات المنافذ في أحياء العاصمة بغداد وفشلت في تعميق فرضية التقسيم ولم تحظى شواخص الجدران بقبول جماهيري واجتماعي واحتسبت سجونا جماعية دون ان تحقق هدفا منشودا سرعان ما تمَّ ايقاف تنفيذها بل إزالتها .حين تتعثر امكانيات وابداعات عقليات قادة الاحتلال العسكرية بعزم المقاومين وفعل المناهضين وتقحم اميركا نفسها بحروب وصراعات عسكرية متعددة تكلفها معنويا وماديا خسائر جسيمة بسبب مقاومة الشعوب لتحدياتها , تضطر لتقليص تواجدها العسكري كما حدث في العراق وتعلن جدولة انسحاب نوعي لقطعاتها لاتجد من سبيل لإبقاء مشاريعها إلا من خلال التركيز على الصفحة السياسية المدعومة بقواعدها العسكرية وبالقوى العميلة التي تبنت عمليتها السياسية الخرقاء . لذا أصبح لا بد للأدارة الأمريكية من التأكيد على ضمان طائفية المشروع وتفعيل عناصر الفوضى والارهاب فيه كي يعهد لهولاء المنتفعين دور تنفيذ مراحل التقسيم بخطوات سياسية خبيثة ومدروسة قبل تنفيذ موعد إنسحابها , وهكذا تزامن موضوع الانتخابات الأخيرة والصراع على تشكيل الحكومة ومن ثم إضفاء دور المصالحة والتوافق لتشكيلها للقيادات الكوردية المتحكمة مع سيناريو التقسيم وتصريحات البرازني (مبتكر مبادرة تحقيق المصالحة والشراكة الوطنية !) في اجتماع موسع لحزبه بالاعلان عن مرحلة تقرير مصير الشعب الكوردي المستقبلية وحقه في تشكيل دولتة الانفصالية , مما يشكل حالة ازدواجية واضحة في الربط بين حالتي الشراكة التي حققها وحتمية تقرير المصير بالإنفصال . وفي الوقت الذي تشهر فيه سلطة الكورد مشروع تقرير المصير , تنشط دعوات التأسيس للأقاليم لتمتد الى محافظات السنِّة حتى لا تبدو الفكرة حكرا على الاحزاب الدينية الشيعية التي فشلت في تأجيج أقليم البصرة والجنوب ولا غرابة ان يتبنى الحزب الإسلامي والصحوات وشيوخ وأكاديمين حالمين وطامعين من الذين رفضهم الشعب في الإنتخابات الأخيرة ترويج التثقيف لإقليم الأنبار او إقليم الوسط في محافظات يسودها المكوِّن السني لقد خسر الحزب الاسلامي قواعده وناخبيه في جميع المحافظات التي كانت له فيها سطوة وقواعد بسبب أدائه السيئ في توفير الخدمات وتبعيته بالفكر والتطبيق لإرادة المحتل وأخيرا وضوح نواياه التقسيمية سعياً وراء تفرده بالسلطة والحزب وقيادته مخطئة ان كانت تحلم بذلك . كما عرَّت نتائج الإنتخابات تشكيلات الصحوات وفشلها الذريع في تحقيق ما كانت تصبو اليه في مناطق تشكيلها من نتائج فيما انحسرت في الجنوب مقاعد المجلس الأعلى ومنظمة بدر والفضيلة بسبب تطلعات قياداتها للتأسيس لإقليم الجنوب بالرغم من محاولة التنصل من المناداة به قبل الإنتخابات مما يعكس ردة الفعل القوية لدى الشعب العراقي من شماله الى جنوبه ضد التقسيم ودعاته .الذين يكشفون اليوم عن اطماعهم وتشبثهم بمصالحهم والذين تنكشف مصادر دعمهم وتمويلهم وتجنيدهم من خلال التثقيف لمشروع اقليم الأنبار أو إقليم للسنة متشبثين بشتى الذرائع الواهمة والخبيثة كفقدان الاعمار والأمن وحجم التضحيات وعمق المعاناة , يراهنون على مستقبلهم السياسي وانحدارهم الإجتماعي والعائلي ويرتكبون في فعلهم هذا أكبر جريمة في تاريخ العراق . في رسالة خاطب بها المؤرخ العراقي الراحل أ. د عبد العزيز الدوري العراقيين يحذرهم فيها من ثقافة التقسيم يقول انها ظاهرة مستحدثة لا أساس لها في تاريخ العراق القديم والحديث سواءً كان فيها العراق قويا او حتى في حالات تعرضه للإحتلال حيث كان العراق ينهض بكله ويحتل بكله ويتحرر بكله , كما أطلق الفقيه الاستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان فتواه الواضحة والصريحة بتحريم تبني الفدرالية كنظام لإدارة العراق ولعل العالمين الجليلين هما أبرز عالمين في التاريخ والفقه في العراق المعاصر من الذين يسمع خطابهم ولمقولتهم حكمة وصولة , ياترى على أية قاعدة شرعية يستند الحزب الاسلامي بتبني الدعوة للفدرالية وتاسيس الأقاليم ؟, ووفق أي مشروعية تولى وبارك مشروع الصحوات الخطير!, وما زلت أذكر جيدا كيف احتد الدكتور عبد الكريم زيدان في امسية بداري بداية عام 2007 في وجوه قياديين من الحزب على حرمة قتل اي انسان تحت مظلة اي واجهة ان لم يكن القتل دفاعا عن النفس لفعل مشهود ومقصود وكيف تصدى لشرعية قيام الصحوات وتبرير فعلها بقوة وبنبرات رادعة وصارخة محذرا ومنبها وما زالت نصوص ما نطقه من عبارات لدي مكتوبة وموثقة بشهود في تلك الأمسية . للأنبار بشكل عام وللفلوجة الباسلة سجلها المقاوم والمناهض للإحتلال سطرته الاحداث باحرف المجد والفخار كان فيه لأبناء العشائر والمساجد فعلهم ووقفتهم الجهادية الرائعة واحتسبت الفلوجة واحدة من اشهر مدن المقاومة صمودا في تاريخ المقاومات ومازالت قبور شهداء الفلوجة والانبار تعبق برياحين الاستشهاد والإستبسال التي تعطر الانوف ؛فبأي سابقة وتحت أية ذريعة يذعن اليوم شذاذ الافاق ممن يتلقبون بالشيوخ والساسة والأكاديمين في محافظة الآنبار لخطاب الاحتلال التقسيمي في التثقيف لمشروع اقليم الانبار او مشروع تشظي الانبار او مشروع اقليم الوسط السني ؟. جغرافيا تشكل الأنبار اكبر محافظة في العراق مساحة وامتداداً وهي حزام العراق الذي تربط اواصر شماله بوسطه وجنوبه كما انها خاصرته عمقا وتشكل نصف امتداده عرضا في خط عاصمته بغداد ومع ان معظم امتدادتها بادية لكنها تشكل ايضاً خزين مياه الفرات فيه وخزين غاز نفطه وهي بالتالي صلة الرحم بين العراق وأهله وبوابة امته عليه , من يفكر بفصل الأنبار يطعن العراق بخاصرته ويهلك سكانه عطشاً وكمدا ويجتث صلته بجذوره وأهله إجتثاثا . ان لكل ذرة تراب من ارض العراق من شماله الى جنوبه حرمة وقدسية الوطن الواحد الذي لا يتجزء ولا يقبل القسمة , لا فرق بين حفنة تراب يلوثها محتل في اربيل عن تلك التي يلوثها في البصرة او الأنبار. وحدة العراق وتحريره موحداً من الأدناس واجب وطني مقدس يستوجب الصمود والتحدي لا الخنوع والتخلي او الاستسلام والتشظي .مشروع الفدرالية والأقاليم وفرظية التشظي والتقسيم مشروع احتلالي صهيوني هدفه التركيع والتخنيع وتبنيه عمل خياني وضيع؛ فمتى سيدرك الجميع ان التقسيم داء فظيع به يتشظى العراق ويضيع ؟ .
انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل