كفر قاسم، القرية الفلسطينية، قتل في 29 تشرين الأول/اكتوبر 1956، 48 من الرجال والنساء والاطفال العائدين من الحقول الى بيوتهم بعد قضاء يوم عملهم. كانت جريمتهم، أن حظر التجول كان قد فرض على قريتهم قبل ساعة، ولم يسمعوا بالخبر. كان القتلة من حرس الكيان الصهيوني، غير ان أيا منهم لم يعاقب. فأصبحت مجزرة كفر قاسم واحدة من سلسلة مجازر الاحتلال الصهيوني المستمرة، ضد العرب، حتى اليوم. في كنيسة النجاة، في منطقة الكرادة ببغداد، وفي اسبوع ذكرى مجزرة كفر قاسم، في يوم 31 تشرين الاول/اكتوبر، قتل 46 شخصا وجرح 60، أجتمع معظمهم من الرجال والنساء والاطفال لاداء الصلاة. كانت جريمتهم انهم تشبثوا بالبقاء في منطقتهم، في مدينتهم بغداد، في بلدهم العراق، ولم يخضعوا لابتزاز التهجير القسري لتحويل المنطقة، بكاملها، ملكا صرفا لطائفة معينة دون غيرها، ضمن مخطط تقسيم بغداد والعراق الى كانتونات طائفية، أما عن طريق عروض شراء البيوت باسعار مغرية، أحيانا، كما يحدث في منطقة الكرادة، أو ترويعهم وارهابهم، الى حد القتل، اذا لم يستجيبوا لضغوط البيع. فالكل يعرف بأن منطقة الكرادة، في بغداد، هي منطقة محصنة بقوات الأمن الميليشية، والكل يعلم بأن الموجودين، في الكنيسة، من أهل العراق الاصيلين، لذلك استبيحت دماؤهم واجبروا على الهجرة، كما هو حال ملايين المهجرين والنازحين والشهداء منذ عام الغزو. والكل يعلم، كما في كفر قاسم، أن القتلة معروفون. والكل يعلم بان ايا منهم لن يعاقب في ظل حكومة الاحتلال الطائفية، وان أيدي القتلة ستغسل بالتضبيب الاعلامي لتضاف مجزرة كنيسة النجاة الى سلسلة مذابح الغزاة ومستخدميهم، المسكوت عنها. ولكي لا ننسى الاسباب الحقيقية وراء مجزرة الكنيسة وتفجيرات الاماكن العامة والمساجد، ولكي لا نصدق كل ما يقدم الينا من تبريرات جاهزة واتهامات بائتة، ولكي تبقى صورة القتلة الحقيقيين واضحة في اذهاننا، من المفيد ان نستحضر وقائع تاريخنا الذي طغى عليه الاحتلال. يقول د. عدنان بكرية في مقال له عن ذكرى كفر قاسم: 'لقد ذهل 'بن غوريون' عندما اكتشف في أوائل الخمسينات أنه لم يتم تهجير الشعب الفلسطيني بالكامل وبأن هناك قرى فلسطينية كاملة لم تدمر بل صمدت وما زالت صامدة وعندما زار منطقة الجليل سأل مرافقيه: هل نحن في سورية أم في إسرائيل؟ من هناك انطلقت الفكرة، تهجير ما تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل وكان لا بد له من إيجاد الفرصة المواتية لتنفيذ هذا المخطط ولو كلفه الأمر ارتكاب المجازر أو افتعال حالة حرب مع دولة عربية مجاورة واستغلال حالة الحرب للإقدام على تهجير ما تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني هنا في الداخل'.وفي بغداد، على ايقاع جيش يرتشف الدم، 'تدين' الولايات المتحدة مساء مدينتنا الدامي. وبمنأى عن الشهداء العراقيين، تقف بريطانيا لـ'تدين' يوم تجمع الغربان لنهش الأحياء. وخلف أسوار من كونكريت واسلحة مضادة لغضب الشعب، تقف عصابات وميليشيات الغزاة ومافيات الثراء الفاحش لـ'تدين' كل ايام الاسبوع الدامية. هل هناك يوم من أيام الاسبوع لم يتم غسله بدماء النساء والأطفال منذ عام2003 وحتى الآن؟ هل من جامع او كنيسة او مدرسة او مستشفى لم تحصدها آلة الموت؟ هل بقيت امرأة عراقية لم تلبس السواد؟ هل توقفت عشتار، سيدة الآلهة، عن الصراخ كما تصرخ المرأة عند الولادة، عن النواح بصوتها الجميل نادبة: 'واحسرتاه! لقد عادت الايام الاولى الى طين'. أي كارثة، أي انتقام، أي حقد جلبه الغزاة، قالعو الاشجار والحياة. أي موت أرسوا في البلاد! بغداد، المرفأ، الحضن الفسيح، الدافىء، انكمشت تحت وطأة الزوابع وتسلط الظلام. بنوا الاسوار فيها وحولها. خنقوها مقسمين اياها الى 50 منطقة. لكل منطقة نقطة دخول ونقطة خروج وقوات ميليشيات تتحكم بالداخل والخارج. أقاموا 1400 نقطة تفتيش لتمزيق اوصالها لاحمايتها. بغداد المساجد والكنائس والمعابد أعادوها الى طين وجعلوا لكل يوم مجزرة. ما عاد أحد يتذكر كيف خلق الانسان الاعياد ليحتفل بالانسان. كنا نتذكر الايام بالاعياد. عيد العمال، عيد الفلاحين، عيد الشجرة، عيد المرأة، عيد الميلاد، عيد رأس السنة، عيد السلام. صارت الايام ترتدي الحداد وتحسب باعداد القتلى. صار من العار ان يمر يوم بلا عزاء. وكأنهم أقسموا ان يتحول كل يوم الى مجلس عزاء يجلله السواد. النساء يرتدين السواد. الاطفال يحملهم على اكتافهم رجال يرتدون السواد، يتنقلون من مدينة الى اخرى بحثا عن ثواب مجالس النحيب. هل سيكبر الاطفال ليحملوا اطفالا يرتدون السواد؟ صرنا لايغادرنا الموتى. باتت الحياة وزر خطيئة علينا ان نحملها كالاحجار الثقيلة على مدى كل الاعوام، حتى بتنا نتساءل هل نحن موجودون في المكان الخطأ في الزمن الخطأ؟ هل أصبنا، جميعا، بمرض الخرف، حيث يعاني المصاب من محنة مزدوجة: ينسى الحاضر بينما يتذكر الماضي البعيد بقوة ووضوح؟ في كلا الحالتين يعيش المصاب بالخرف في ظلمة فقدان التواصل مع نفسه، ومع الناس والعالم المحيط به، منكرا وجودهم مهما كانوا قريبين منه.الا ان خرف حكام الاحتلال، خلافا لما هو متداول، معروفة اسبابه. انه حالة انتقائية يتغدى فيها المصاب على السلطة والنفوذ والمال الحرام. وعلاج هذا الوباء المستشري، الذي بات، يمس حياة كل عائلة عراقية، معروف ايضا. انها المقاومة. فاما ان نقيم في مجالس العزاء منكسي الرؤوس ننوح ونندب مصابنا، ابد الدهر، وندفن ايامنا واعيادنا وحياتنا بأيدينا، او ان نقف، سوية، صارخين غضبا ونحن نمد ايدينا لنقاوم. نقاوم المستعمر ووكلاءه، نقاوم من يحاول ايهامنا باننا نحمل خطيئة ألف عام، نقاوم (كما يقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم مخاطبا كفر قاسم)لا لأننا ننشد الموت ولكن لأننا نقدس الحياة.
انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل