في تأريخ آداب الغرب تلعب كلمة الوهم أو الإختراع ( fiction ) دورا جوهريا. ولو عدنا الى المعجم لوجدنا أن معنى هذه الكلمة هو واضح للغاية: فكرة غير فعلية ، مظهر خادع ، وهم ، إختراع ، حالة أشياء مخترعة لأغراض شتى ( فنية مثلا )، زعم ، صياغة ، تلفيق. وأصل الكلمة من الفعل اللاتيني الذي يعني ( ينمذج ، يشكل،يتصور، يخترع ). وفي اليونان القديمة كانت الكلمة تعني الفعل الذي لايتفق مع الواقع. بالطبع توّسع اليوم معناها وصار يشمل التجريدات العلمية والوقائع الإمبيرية بل علوم الإقتصاد. وفي الأدب كان قد ألصق إسم( الأختراع ) بشتى أصناف اليوتوبيات والرؤى ( إنجيل يوحنا مثلا ) إلا أنه لقي بعدها إستخداما أوسع وأصبح تعريفا للأدب القائم على إختراع للمخيلة أو تشييد للعالم مختلف عن الآخر الذي جاء كمعطى للتجربة. من الواضح أن الإسم يعني نقضا للواقع المجرّب ( الإمبيري) الذي يعامل كالأقرب من الحقيقة. ومهما كثرت التعاريف يبقى العمل الأدبي نصّا يحوي واقعا مشيّدا عن قصد ، أي أنه واقع جديد يحوي وهما فنيا بالصورة المباشرة. أكيد أن عنصر الوهم هذا لايعني شيئا غير النمذجة الفردية المشروطة إجتماعيا لشكل ومعنى ما يسمى بالواقع الموضوعي. وحتى هذا التعريف لايرضي علماء الأدب. فقد وجدوه فضفاضا وغير دقيق في الصياغة. ومن المفهوم أن ( الوهم ) يعني شيئا خلقته مخيلة الكاتب، ولاينسحب عليه حكم المنطق أي كونه حقيقيا أم زائفا. إلا أن المشكلة الحقيقية لنتاج هذه المخيلة تنشأ عند تناولنا لإشكالية أخرى وهي ( وظيفة ) الأدب التعرفية. وهذه الإشكاليةهي ، بالأحرى ، كامل تأريخ الأستيتيكا. وكان اليونانيون قد عثروا على حل لمشكلة التعارض بين الواقع والوهم في الشعر ، يتمثل في تنصيبهم ربيّن له - أبوللو ربّ الجمال والرجولة والشعر والموسيقى ، وهرمز ربّ العلم والتجارة والسفر واللصوص.. وبهذه الصورة خلقت قرابة الدم للشاعر - الخالق بالمحتال والنبي. أما غورغياس فوجد أن الكلمات قادرة على أن تقنع السامع بكل شيء ، و حتى بالشيء الذي لا وجود له. فللكلمات قوة السحر ، وبعبارة أخرى قوة الوهم. وعن فن التراجيديا قال بأنه خداع ولكنه خداع يكون فيه الخادع أكثر نزاهة من المخدوع، وهذا أكثر حكمة من الاخر غير المخدوع. و ينتج هنا أن الشعر ليس إلا فنا خالقا للوهم.
خلال الكثير من القرون كان موقف آخر هو السائد. وقد صيغ كلاسيا في ( بويطيقا) أرسطوطاليس : الأدب ( وبصورة أدق الأدب ذو القيمة ) يؤدي وظائفا تعرفية كما لو أنه كائن بين التأريخ والفلسفة. فهو ، شأن التأريخ ، يقدّم شخوصا وأحداثا فردية ولكنه شأن الفلسفة يطرح تعميمات. والوسيطة لتحقيق هذا الغرض هي الإختراع الذي يتجاوز الحقيقة الفعلية إلا أن هذا الوهم مقيّد بشروط الضرورة و الإحتمال وحتى إذا تعلق الأمر بكتابة حكاية خرافية. وهذا معناه أن المعطيات التعرفية الواردة في العمل الأدبي هي ظاهريا حسب ، فردية بينما في الواقع هي عامة، والأشياء فيها تعميميات ملموسة يكون معها كل ماهو فردي مخترعا، وفي اأضعف الأحوال جزئيا. ويكتب أندريه جيد في روايته ( المزيفون ): لكم رغبت في أن تكون الرواية حقيقية وبعيدة عن الواقع في الوقت نفسه ، عامة وتفصيلية ، ووهمية بقدر ما تكون فيه بشرية...
وإ ذا كان الأدب يوّفر معرفة عامة فبأي شيء يختلف عن الفلسفة أو علم التشريع مثلا ؟. هناك منظرون يشيرون الى الفارق في أسلوب الطرح، ففي الأدب تطغى ميول معينة مثل التصويرية، وآخرون وجدوا أن الأدب يؤدي وظائفا للتعرف ما قبل علمية أو خارج علمية ، ولكن مع صعود كل علم جديد ( علم الإجتماع مثلا ) تفقد منطقة من مناطق الواقع اهميتها لدى الأدب. فلو أخذنا أدب مكسيم غوركي مثلا لوجدناه نوعا من ( الأنثروبولوجيا ) أو معرفة مركبّة عن الإنسان كشخصية و كائن إجتماعي .
وكانت الأنظمة القديمة والآراء الأستيتيكية قد أكدت على عمومية المعرفة التي يتضمنها الأدب ، ووفق ارسطوطاليس يكون الأدب قد إقترب من الفلسفة. و في الأزمان الحديثة قلبت الآية : حصل التاكيد ، تحت تاثير برغسون وكروتشه ، على تمكن الادب من تسليط الضوء على الفردانية و كامل عملية التعرف الحدسي. وبين هذين النقيضين يكون يمقدورنا أن نضع مفاهيم غيته وهيغل ومن جاء بعدهم ( أنغلز وعلماء الجمال الماركسيين )، والمقولة هنا كالاتي : ليس المقصود ما هو خاص و ما هو عام أيضا بل النموذجية أو التفصيلية هي مرتبة التعرف الأساسية في الأدب. أكيد ان لدى هؤلاء جميعا قد أزيحت جانبا إشكالية الوهم الأدبي.أما نظريات الأدب المعاصرة في الغرب فهي لاتستخدم البتة مصطلح ( الوهم الأدبي ) إذ تعامل على الغالب ، العالم المقدّم في العمل الأدبي كخلق لغوي منغلق في ذاته وكائن ذاتيا، و لايمكن مقارنته بالواقع خارج الأدبي .إلا أنه غالبما يعلن المنظرون أيضا بأن الخلق الأدبي هو طرح أو عمل من أعمال التعرف الحدسي للواقع الإمبيري. ولديهم يكون الشعر هو ، أولا ، منطقة مغلقة للعب ومنفصلة تماما وتملك قوانينها الخاصة التي تختلف عن ايّ واقع. و إذا كانت هناك صلة مع الواقع فهي ناشئة عبر مناطق رمزية. كما أن الواقع يتحول الى شعر، والشعر الى واقع. وما يثير مشاعر المتلقي هو أن الشعر أصبح كامل المعنى لواقعه حسب. بالطبع هناك تنظيرات أكثر راديكالية يعلن بعضها أن معاني وأهمية الجمل الشعرية لاتملك إحالة لها في حالات الأشياء الفعلية التي تملك هنا وجودا ما ، وهو بالأحرى غير فعلي وأن حالات الأشياء أي الشيئية ( وتشمل هنا البشر والمشاعر والأحداث إلخ ) لاتوجد إلا كعالم شيئي لتلك الجمل الشعرية. والعكس بالعكس : جمل الشعر تخلق شيئيتها الخاصة. ولايبتعد عن الصواب أولئك المنظرون حين يقولون إن عالم الأدب هو عالم ( غير حقيقي ) ، عالم ( مخترع ) ، غير واقعي ، وهذا الشيء يعرفه حتى الأطفال. ومثل هذا العالم لايطالب لنفسه بالحقيقة بمعناها الدقيق و لأنه لاتوجد في حالة الأدب مسمّيات مثل الواقع الموضوعي ولا الأحكام المنطقية.، فكل ما فيه هو أحوال إعاشة أو معاناة كائنة بين التقديم و الأحكام ، وهي محرومة من لحظات الإقناع. إنها( بلاغات كاذبة ) على حد تعبير ريتشاردز الذي وجد أن الجمل في الأدب ليس جملا بالمعنى المنطقي الصرف ، فالشعر، مثلا ، هو نوع من أنواع لغة الإنفعال التلقائي وعلى الضد من اللغة الإعلامية. أما السيميائيون فقد ميّزوا في العمل الأدبي ثلاثة أنواع من الجمل. الأول هو الجمل التقريرية التي تتكلم عن أشياء فعلية. والثاني يخص الجمل المخترعة المكرسة لأشياء غير كائنة. و الثالث هو الجمل االعامة( التأملات و التعليقات ). ويدور الخلاف حول الجمل المخترعة. فقبلها كان علم المنطق قد أعتبرها جملا زائفة الا أن تعديلا واضحا حصل بعدها وهوأن مثل هذا الحكم على تلك الجمل نستنتج منه أن كل جملة عن أشياء غير موجودة هي زائفة وحينها ينتفي الفارق بين هاتين الجملتين : ( تزوج شهريار من شهرزاد ) و( لم يتزوج شهريار من شهرزاد). إلا أنه عثر على مخرج من هذه ( الورطة المنطقية ): الجمل المخترعة ليست عموما جملا بالمعنى المنطقي ، أي الإسنادي، إذن ليست هي حقيقية ولا زائفة، فهي ذات إحالة الى أشياء غير كائنة. ومن المفهوم أن هذه التخريجات المنطقية تخص النثر السردي والشعرعلى السواء.
و يسهل ملاحظة الوهم حين يتلبس شخوصا ( أو أشياءا ) وهمية بدورها. و بمكنتنا ان نميّز بين الشخوص مرتبتين : هناك شخوص لها صفات ووظائف أساسية شبيهة بشخوص فعلية أي انها تماثلية. وهناك شخوص لها صفات ووظائف تميّزها عن الأخرى الفعلية. أكيد أن مثل هذا التقسيم هو تبسيط معيّن، إذ من الأنسب أيضا الأخذ بمراتب وسط بين هاتين المرتبتين مثل مرتبة الشخوص الوهمية التي نلقاها في الرواية التاريخية لكنها تملك أسماءا وعددا من الصفات الفعلية ( لعدد من أبطال مسرحيات راسين أصول رومانية ). بالطبع هناك تركيب للوهم بالفعلية أيضا: ( مات هتلر منتحرا بالسمّ ). ( مات هتلر مقتولا على يد أعوانه ). أما إذا خص الأمر الشخوص الفنتازية فهنا يكون كل شيء ممكنا ...
طالما أن هناك اشكالا للطرح خارج أدبية مثل السرديات التأريخية والتمحيصات الفلسفية أو الأخلاقية وغيرها ، إذن هل هناك حاجة كي يمتلك الأدب وظائفا تعرفية أيضا ؟. أكيد أنه ليس بالسؤال الساذج. إلا أن الإجابة عليه تحتاج الى أكثر من بحث ولابد من التطرق فيه الى إشكاليات المعرفة و التعرف بل كل ما له علاقة بالإنسان. الأكيد هو أن وظيفة الأدب التعرفية لاتنحصر في إطلاقه أحكاما حقيقية بل الإيحاء بها من خلال شتى أشكال الوهم مثل التمثيل الرمزي من خلال شخوص وأحداث ذات طبيعة فنتازية ( رواية( التحول ) لكافكا) أو التشبه بالواقع ومعاملة الأدب كنمذجة فنية للواقع الذي يلتقطه الوعي المباشر وفق تصنيف برغسون( معظم نتاجات ما يسمى بالأدب الواقعي ). ومن الواضح أن الحدود ليست بالصارمة بين كل التصنيفات الخاصة بتجسدات عنصر الوهم في العمل الأدبي بل يمكن المجازفة بالقول إنها ذات أساس نظري صرف. كذلك فكامل إشكالية الوهم الأدبي مرتبطة بإشكالية اخرى متمثلة بهذا السؤال : أيّ شيء يعنيه القول بأن هناك أعمالا أدبية تطمح في تمثيل العالم الفعلي؟. أكيد أن الجواب لايبتعد هنا عن حقيقة عدم وجود أيّ قاعدة واحدة تحدد كيف علينا أن نفهم موقف العمل الأدبي أزاء الواقع الموضوعي. بالطبع للمؤلف موقفه أزاء هذا الواقع إلا أن تمثيل عمله للواقع هو مسألة أخرى وهدف لا يحالفه النجاح على الدوام . كذلك لا تسعي جميع الأعمال الأدبية الى هذا التمثيل ، إذ يحصل أحيانا أن يكون مسعاها هو تمثيل واقع ما فوق طبيعي أو تجاوزي ، مثل ( الكوميديا الإلهية ) أو الدعوة الى الأخذ بنظم أخرى للواقع مثلما هو الحال في الرواية الوعظية واليوتوبيا ، أو تجسيد أحلام عن واقع نموذجي جماليا أو أخلاقيا كما هو الحال في أدب ( ضد اليوتوبيا ) أو كما قال راميو فالشاعر يريد أحيانا أن ( يخترع أزهارا جديدة ، نجوما جديدة ، أجسادا جديدة ، لغات جديدة ) أي أنه يريد أن يخلق واقعا مستقلا تماما وذا إكتفاء ذاتي. إلا أن هناك الواقع الصلد الذي يعيق تحقيق إرادة كهذه. وهو يتمثل بخامته أي اللغة التي تعترض الى حد معيّن خطوة الشاعر قبل غيره. فاللغة تعود الى ظواهر الواقع الموضوعي.
وأيّ كان الموقف من عنصر الوهم الأدبي يبقى هو الشرط الضروري لما يسمى بالتمثيل الرمزي ذي الطابع الفنتازي، ولسبب بسيط: إن كامل الفنتازيا يمكن وضعها داخل حدود الوهم الذي بفضله يمكن لعناصر العالم المقدّم ( بفتح الدال ) أن تكون أكثر وضوحا في صفاتها ووظائفها. ومن خلال الوهم أو الإختراع تنشا في الأدب المضامين التعرفية( وكذلك الأخرى الإفتراضية ). ولكن هل بالإمكان إضفاء صفة الحقيقية على بعض هذه المضامين ؟. إذا كانت الحقيقية تخدم الجمل الحقيقية وحدها فلابد من أن يكون الجواب بالنفي إذ ليس هناك ولو جملة ( حقيقية ) واحدة عن ( آنا كارنينا) أو (العجوز كارامازف ) كما لايمكن أن تكون. ولكن إذا أردنا توسيع مصطلح الحقيقية ولكي يعني ( الأمانة في التقديم) فحينها يمكننا القول بأن الحقيقية هي من صفات عدد من الأعمال الأدبية. و يملك الطابع السيميائي نفسه الخلاف حول هل من الممكن تسمية المحتوى التعرفي للأدب ( معرفة ) عن الواقع. إن معنى مصطلح ( المعرفة ) لا يملك أطرا صلبة فهو قد يختصر لكي يماثل النتائج الحقيقية للعلوم الرياضية - الطبيعية أو يوّسع لكي يشمل كل طرح يخص الواقع.
عدنان المبارك
خلال الكثير من القرون كان موقف آخر هو السائد. وقد صيغ كلاسيا في ( بويطيقا) أرسطوطاليس : الأدب ( وبصورة أدق الأدب ذو القيمة ) يؤدي وظائفا تعرفية كما لو أنه كائن بين التأريخ والفلسفة. فهو ، شأن التأريخ ، يقدّم شخوصا وأحداثا فردية ولكنه شأن الفلسفة يطرح تعميمات. والوسيطة لتحقيق هذا الغرض هي الإختراع الذي يتجاوز الحقيقة الفعلية إلا أن هذا الوهم مقيّد بشروط الضرورة و الإحتمال وحتى إذا تعلق الأمر بكتابة حكاية خرافية. وهذا معناه أن المعطيات التعرفية الواردة في العمل الأدبي هي ظاهريا حسب ، فردية بينما في الواقع هي عامة، والأشياء فيها تعميميات ملموسة يكون معها كل ماهو فردي مخترعا، وفي اأضعف الأحوال جزئيا. ويكتب أندريه جيد في روايته ( المزيفون ): لكم رغبت في أن تكون الرواية حقيقية وبعيدة عن الواقع في الوقت نفسه ، عامة وتفصيلية ، ووهمية بقدر ما تكون فيه بشرية...
وإ ذا كان الأدب يوّفر معرفة عامة فبأي شيء يختلف عن الفلسفة أو علم التشريع مثلا ؟. هناك منظرون يشيرون الى الفارق في أسلوب الطرح، ففي الأدب تطغى ميول معينة مثل التصويرية، وآخرون وجدوا أن الأدب يؤدي وظائفا للتعرف ما قبل علمية أو خارج علمية ، ولكن مع صعود كل علم جديد ( علم الإجتماع مثلا ) تفقد منطقة من مناطق الواقع اهميتها لدى الأدب. فلو أخذنا أدب مكسيم غوركي مثلا لوجدناه نوعا من ( الأنثروبولوجيا ) أو معرفة مركبّة عن الإنسان كشخصية و كائن إجتماعي .
وكانت الأنظمة القديمة والآراء الأستيتيكية قد أكدت على عمومية المعرفة التي يتضمنها الأدب ، ووفق ارسطوطاليس يكون الأدب قد إقترب من الفلسفة. و في الأزمان الحديثة قلبت الآية : حصل التاكيد ، تحت تاثير برغسون وكروتشه ، على تمكن الادب من تسليط الضوء على الفردانية و كامل عملية التعرف الحدسي. وبين هذين النقيضين يكون يمقدورنا أن نضع مفاهيم غيته وهيغل ومن جاء بعدهم ( أنغلز وعلماء الجمال الماركسيين )، والمقولة هنا كالاتي : ليس المقصود ما هو خاص و ما هو عام أيضا بل النموذجية أو التفصيلية هي مرتبة التعرف الأساسية في الأدب. أكيد ان لدى هؤلاء جميعا قد أزيحت جانبا إشكالية الوهم الأدبي.أما نظريات الأدب المعاصرة في الغرب فهي لاتستخدم البتة مصطلح ( الوهم الأدبي ) إذ تعامل على الغالب ، العالم المقدّم في العمل الأدبي كخلق لغوي منغلق في ذاته وكائن ذاتيا، و لايمكن مقارنته بالواقع خارج الأدبي .إلا أنه غالبما يعلن المنظرون أيضا بأن الخلق الأدبي هو طرح أو عمل من أعمال التعرف الحدسي للواقع الإمبيري. ولديهم يكون الشعر هو ، أولا ، منطقة مغلقة للعب ومنفصلة تماما وتملك قوانينها الخاصة التي تختلف عن ايّ واقع. و إذا كانت هناك صلة مع الواقع فهي ناشئة عبر مناطق رمزية. كما أن الواقع يتحول الى شعر، والشعر الى واقع. وما يثير مشاعر المتلقي هو أن الشعر أصبح كامل المعنى لواقعه حسب. بالطبع هناك تنظيرات أكثر راديكالية يعلن بعضها أن معاني وأهمية الجمل الشعرية لاتملك إحالة لها في حالات الأشياء الفعلية التي تملك هنا وجودا ما ، وهو بالأحرى غير فعلي وأن حالات الأشياء أي الشيئية ( وتشمل هنا البشر والمشاعر والأحداث إلخ ) لاتوجد إلا كعالم شيئي لتلك الجمل الشعرية. والعكس بالعكس : جمل الشعر تخلق شيئيتها الخاصة. ولايبتعد عن الصواب أولئك المنظرون حين يقولون إن عالم الأدب هو عالم ( غير حقيقي ) ، عالم ( مخترع ) ، غير واقعي ، وهذا الشيء يعرفه حتى الأطفال. ومثل هذا العالم لايطالب لنفسه بالحقيقة بمعناها الدقيق و لأنه لاتوجد في حالة الأدب مسمّيات مثل الواقع الموضوعي ولا الأحكام المنطقية.، فكل ما فيه هو أحوال إعاشة أو معاناة كائنة بين التقديم و الأحكام ، وهي محرومة من لحظات الإقناع. إنها( بلاغات كاذبة ) على حد تعبير ريتشاردز الذي وجد أن الجمل في الأدب ليس جملا بالمعنى المنطقي الصرف ، فالشعر، مثلا ، هو نوع من أنواع لغة الإنفعال التلقائي وعلى الضد من اللغة الإعلامية. أما السيميائيون فقد ميّزوا في العمل الأدبي ثلاثة أنواع من الجمل. الأول هو الجمل التقريرية التي تتكلم عن أشياء فعلية. والثاني يخص الجمل المخترعة المكرسة لأشياء غير كائنة. و الثالث هو الجمل االعامة( التأملات و التعليقات ). ويدور الخلاف حول الجمل المخترعة. فقبلها كان علم المنطق قد أعتبرها جملا زائفة الا أن تعديلا واضحا حصل بعدها وهوأن مثل هذا الحكم على تلك الجمل نستنتج منه أن كل جملة عن أشياء غير موجودة هي زائفة وحينها ينتفي الفارق بين هاتين الجملتين : ( تزوج شهريار من شهرزاد ) و( لم يتزوج شهريار من شهرزاد). إلا أنه عثر على مخرج من هذه ( الورطة المنطقية ): الجمل المخترعة ليست عموما جملا بالمعنى المنطقي ، أي الإسنادي، إذن ليست هي حقيقية ولا زائفة، فهي ذات إحالة الى أشياء غير كائنة. ومن المفهوم أن هذه التخريجات المنطقية تخص النثر السردي والشعرعلى السواء.
و يسهل ملاحظة الوهم حين يتلبس شخوصا ( أو أشياءا ) وهمية بدورها. و بمكنتنا ان نميّز بين الشخوص مرتبتين : هناك شخوص لها صفات ووظائف أساسية شبيهة بشخوص فعلية أي انها تماثلية. وهناك شخوص لها صفات ووظائف تميّزها عن الأخرى الفعلية. أكيد أن مثل هذا التقسيم هو تبسيط معيّن، إذ من الأنسب أيضا الأخذ بمراتب وسط بين هاتين المرتبتين مثل مرتبة الشخوص الوهمية التي نلقاها في الرواية التاريخية لكنها تملك أسماءا وعددا من الصفات الفعلية ( لعدد من أبطال مسرحيات راسين أصول رومانية ). بالطبع هناك تركيب للوهم بالفعلية أيضا: ( مات هتلر منتحرا بالسمّ ). ( مات هتلر مقتولا على يد أعوانه ). أما إذا خص الأمر الشخوص الفنتازية فهنا يكون كل شيء ممكنا ...
طالما أن هناك اشكالا للطرح خارج أدبية مثل السرديات التأريخية والتمحيصات الفلسفية أو الأخلاقية وغيرها ، إذن هل هناك حاجة كي يمتلك الأدب وظائفا تعرفية أيضا ؟. أكيد أنه ليس بالسؤال الساذج. إلا أن الإجابة عليه تحتاج الى أكثر من بحث ولابد من التطرق فيه الى إشكاليات المعرفة و التعرف بل كل ما له علاقة بالإنسان. الأكيد هو أن وظيفة الأدب التعرفية لاتنحصر في إطلاقه أحكاما حقيقية بل الإيحاء بها من خلال شتى أشكال الوهم مثل التمثيل الرمزي من خلال شخوص وأحداث ذات طبيعة فنتازية ( رواية( التحول ) لكافكا) أو التشبه بالواقع ومعاملة الأدب كنمذجة فنية للواقع الذي يلتقطه الوعي المباشر وفق تصنيف برغسون( معظم نتاجات ما يسمى بالأدب الواقعي ). ومن الواضح أن الحدود ليست بالصارمة بين كل التصنيفات الخاصة بتجسدات عنصر الوهم في العمل الأدبي بل يمكن المجازفة بالقول إنها ذات أساس نظري صرف. كذلك فكامل إشكالية الوهم الأدبي مرتبطة بإشكالية اخرى متمثلة بهذا السؤال : أيّ شيء يعنيه القول بأن هناك أعمالا أدبية تطمح في تمثيل العالم الفعلي؟. أكيد أن الجواب لايبتعد هنا عن حقيقة عدم وجود أيّ قاعدة واحدة تحدد كيف علينا أن نفهم موقف العمل الأدبي أزاء الواقع الموضوعي. بالطبع للمؤلف موقفه أزاء هذا الواقع إلا أن تمثيل عمله للواقع هو مسألة أخرى وهدف لا يحالفه النجاح على الدوام . كذلك لا تسعي جميع الأعمال الأدبية الى هذا التمثيل ، إذ يحصل أحيانا أن يكون مسعاها هو تمثيل واقع ما فوق طبيعي أو تجاوزي ، مثل ( الكوميديا الإلهية ) أو الدعوة الى الأخذ بنظم أخرى للواقع مثلما هو الحال في الرواية الوعظية واليوتوبيا ، أو تجسيد أحلام عن واقع نموذجي جماليا أو أخلاقيا كما هو الحال في أدب ( ضد اليوتوبيا ) أو كما قال راميو فالشاعر يريد أحيانا أن ( يخترع أزهارا جديدة ، نجوما جديدة ، أجسادا جديدة ، لغات جديدة ) أي أنه يريد أن يخلق واقعا مستقلا تماما وذا إكتفاء ذاتي. إلا أن هناك الواقع الصلد الذي يعيق تحقيق إرادة كهذه. وهو يتمثل بخامته أي اللغة التي تعترض الى حد معيّن خطوة الشاعر قبل غيره. فاللغة تعود الى ظواهر الواقع الموضوعي.
وأيّ كان الموقف من عنصر الوهم الأدبي يبقى هو الشرط الضروري لما يسمى بالتمثيل الرمزي ذي الطابع الفنتازي، ولسبب بسيط: إن كامل الفنتازيا يمكن وضعها داخل حدود الوهم الذي بفضله يمكن لعناصر العالم المقدّم ( بفتح الدال ) أن تكون أكثر وضوحا في صفاتها ووظائفها. ومن خلال الوهم أو الإختراع تنشا في الأدب المضامين التعرفية( وكذلك الأخرى الإفتراضية ). ولكن هل بالإمكان إضفاء صفة الحقيقية على بعض هذه المضامين ؟. إذا كانت الحقيقية تخدم الجمل الحقيقية وحدها فلابد من أن يكون الجواب بالنفي إذ ليس هناك ولو جملة ( حقيقية ) واحدة عن ( آنا كارنينا) أو (العجوز كارامازف ) كما لايمكن أن تكون. ولكن إذا أردنا توسيع مصطلح الحقيقية ولكي يعني ( الأمانة في التقديم) فحينها يمكننا القول بأن الحقيقية هي من صفات عدد من الأعمال الأدبية. و يملك الطابع السيميائي نفسه الخلاف حول هل من الممكن تسمية المحتوى التعرفي للأدب ( معرفة ) عن الواقع. إن معنى مصطلح ( المعرفة ) لا يملك أطرا صلبة فهو قد يختصر لكي يماثل النتائج الحقيقية للعلوم الرياضية - الطبيعية أو يوّسع لكي يشمل كل طرح يخص الواقع.
عدنان المبارك