الرجل الذي حكم العراق بهدوء
وعاش بهدوء ورحل بهدوء
وعاش بهدوء ورحل بهدوء
كاظم فنجان الحمامي
في مثل هذا اليوم من عام 2007 رحل عنا الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن محمد عارف بعد تاريخ طويل زاخر بالمواقف الوطنية المشرفة, والمآثر التاريخية التي لن تُنسى على مر الأجيال, كان رحمه الله وطنيا أصيلا أحبه الناس كلهم سواء من اتفق معه أو من اختلف, لم يكن يحمل أي ضغينة لأحد, لا في داخل العراق, ولا خارجه, فقد كانت اهتماماته منصبة على خدمة العراقيين, فوضع هذه الاهتمامات فوق الاعتبارات الأخرى. تميزت فترة حكمه بالهدوء, وأمضى حياته في هدوء شديد, ونأى بنفسه وأسرته عن تقلبات الأوضاع السياسية وبراكينها المتفجرة, فتمتع بحياة مديدة ناهزت التسعين. غادرنا بعد عمر طويل في منتهى الهدوء وكأنه واحد منا, فهو الرئيس العراقي الوحيد, الذي مات في فراشه ميتة طبيعية, ودفن في تشييع مهيب في الأردن, بين الضباط والجنود العراقيين, الذين استشهدوا في معارك التحرير, ودفنوا في مقبرة (المفرق), فلم يمت سحلا أو قتلا أو غيلة أو إعداما, مات وسط أسرته على سرير العناية المركزة في عمان, وتلك نعمة ميزه بها ربه عن حكام العراق.
اتسم حكمه باتساع هامش الحريات الثقافية, وشيوع روح التسامح والترفع عن الصغائر والضغائن, والابتعاد عن الوشايات, وعُرف أبان فترة حكمه بالتسامح, ومحاولات فسح المجال لمعارضيه بنوع من المرونة, فأسس ما يعرف بالمجلس الاستشاري الرئاسي, الذي ضم عددا من رؤساء الوزارات السابقين, كان بعضهم من الخصوم, فنشطت في عهده الأحزاب السياسية, التي كان يحتفظ معها بعلاقات ودية. وكان متسامحا حتى مع الساعين للإطاحة به, ولم يوقع أبدا طيلة حياته على أي مرسوم للإعدام.
واسمحوا لي أن أسجل هنا هذا الموقف الفريد الذي حدثني عنه أستاذي في المدرسة المهنية البحرية (قيس عبد الرحمن عارف), والذي يعكس بساطة الرئيس وميله للهدوء: كان رحمه الله يرفض أن تحفه المواكب الرئاسية, ولا يرتاح لمنظر سيارات الحماية وهي تلاحقه بصفاراتها وزعيقها وتجاوزاتها السافرة على نظام المرور, فقد كان يكتفي بسيارة واحدة تمشي خلفه على مهل, وفي يوم من الأيام قرر أن يقود سيارته البيضاء بنفسه, ويخرج مع زوجته الكريمة لزيارة أقاربه, ولم ترافقه حينئذ أي قوة للحماية, وصادف أن تعرضت إحدى عجلات السيارة لعطب مفاجئ في منتصف الطريق, فمرت به سيارة لعائلة عراقية يقودها طبيب شاب, فاكتشف الشاب بان رئيس الجمهورية متوقف على جانب الطريق, وإطار سيارته معطوب, فترجل من سيارته, وتوجه إلى الرئيس, وقال له: هل أنا متوهم أم انك الرئيس شخصيا ؟؟. فتبسم الرئيس وقال له: نعم يا ولدي أنا الرئيس, فشمر الشاب عن ساعديه, وقام باستبدال العجلة المعطوبة, ورافق الرئيس في طريق العودة إلى البيت حرصا منه على سلامته.
لم تكن هذه المواقف غريبة على هذا الرجل المتواضع, الذي احتفظ ببيته البغدادي في حي اليرموك, والذي كان يشاهده الناس في سوق (المأمون) الشعبي, مع عقيلته (أم قيس), وهو يتبضع الخضروات واللحوم, مرتديا دشداشته البيضاء, سالكا في تصرفاته العفوية سلوك أي مواطن من عامة الناس, معبرا عن البساطة المتناهية, التي طبعت حياته, وحياة أبنائه من بعده, وعلى رأسهم الأستاذ قيس عبد الرحمن.
حدثني منذ ساعات الكابتن (علي حسين كريم) عن دور العقيد البحري (قيس عبد الرحمن) في تغيير مجرى حياته. يقول (علي): كنت كثير التغيب عن الدروس الملاحية في الأكاديمية, حتى تجاوزت الحدود الانضباطية, وكان أمر طردي من الأكاديمية متوقفا على توقيع السيد العقيد, لكنه رفض التوقيع على فصلي, وقرر منحي فرصة أخيرة, فأسدى لي النصح والتوجيه بحضور والدي, وأبدى حرصه على مستقبلي ومستقبل أسرتي, أحسست حينها بصدق عباراته, وبرعايته الأخوية, وبأن الذي يحدثني هو شقيقي الأكبر, وها أنا اليوم ربانا كبيرا أمارس الملاحة في عرض البحر بفضل هذا الرجل الوطني الغيور.
رحم الله الفقيد الكبير عبد الرحمن عارف, الذي كان رئيسا رشيدا صالحا, وإنسانا صادقا يفيض بالوطنية, وعراقيا جديرا بالاحترام والإكرام, ويستحق أن نتذكره بالخير بعد أن عاش في هدوء, وحكم في هدوء, وتنحى عن الكرسي بهدوء, ومات بهدوء.
البصرة 24/8/2010