هنا قصائد نثر مكعبة كلوحات بيكاسو وبراك، اخترتها من كتاب عنوانه "أزرار ناعمة" للكاتبة الأمريكية التي عاشت معظم حياتها في فرنسا: جيروترود شتاين (1874-1946). مع أنها ترفض أية غائية للنص، إلا أن جيروترود شتاين كان هدفها الأول والأخير، في كتابها هذا، أن ترسم بالكلمات طبيعةً جامدة. فكانت النتيجة: لوحات لغوية بلا اشارات؛ قصائد لا تدل على شيء؛ كُتلا لايهمها الفراغ الدائر حولها، بل ترفض أن تكون محط دال ومدلول. "أزرار ناعمة" Tender Buttons لغة منغلقة على نفسها؛ اللغة في حالتها الأولى. فـالشاعرة هنا ليس لديها موضوع لتعبّر عنه، أو قضية لكي تُستجلى. في هذه القصائد ذات الأزرار الناعمة، اللغة فحسب هي الثيمة الأساسية، الموضوع، والأداة. من هنا تُعتبر شتاين أول من شق الطريق أمام حركة ستظهر بعد مرور ربع قرن على موتها، وهي حركة "شعراء اللغة".
كتبت شتاين "أزرار ناعمة" (الكتاب مقسم إلى فصول ثلاثة: "أشياء ملموسة"، "أغذية" و"غرف") ربما لغرض واحد هو أن تترك اللغة التي ننبس بها كل لحظة، أن تستقصي نفسها. أن تجعل من نفسها موضوعا، غايةً، قصيدةَ نثر مختصرة لا غرضية لها: توليف تكعيبي!
جيروترود شتاين التي كان منزلها مشرع الأبواب لكل ما هب ودب من فنانين، شعراء وشحاذي الفنون في عز التكعيبية، كانت غالبا ما تعتزل في غرفتها لتكتب، لتلطخ الأوراق بزيت الحروف.
جيرودترود شتاين المرأة السحاقية التي تشمئز من المرأة؛ اليهودية التي تنفر من السامية، لم تكن تخشى من أن تكون لغتُها خارج المنطق؛ لغة تصادق على شيء وتتنصل منه في نفس الوقت. كانت تلح على أن تصير ناثرة بهذا المعنى وخصوصا في هذا الكتاب.
كل شيء مُعتم في هذه القصائد المرسومة على شكل نوافذ مضاءة.
كل شيء معقد ومجرد لكن بجمل بدائية بل تكاد تكون بسيطة حد السذاجة تلقى جزافا بوجه القارئ..
كل شيء يصرخ مشاعرَ في هذه القصائد العديمة الشعور والصامتة كقبر.
كل شيء يتحرك وينشط وفق قواعد نحوية صارمة رغم الشلل الذي يصيب المبتدأ والخبر، الفاعل والمفعول، حروف الجر، ظروف الزمان والمكان.. والى آخر ما تلقيناه في المدرسة من مبادئ أولية.
التجريد هنا ليس نتيجة تفكير معقد، أو تلخيص حِكَمي لتجربة ما. التجريد هنا يحرر اللغة من التسمية، من الاستعمال الوسائلي، يطلق الكلمات وهي في حالة جنينية، لا ماض لها، ولا ذاكرة، لا حنين ولا مشاعر... تصطف في جمل أشبه بأطلال بلا تاريخ، أطواد من الدلالات التي لا دلالة لها: "زهرة هي زهرة هي زهرة هي زهرة هي زهرة..." حتى تنغلق الفقرة.
وإذا كانت الصدمة الشعرية التي يخلقها شاعر ما من خلال ربط كلمتين مختلفتين صورةً جذابة ومعنى دالا، فإن التجاور لدى شتاين تجاور تجريدي لا يبتغي خلق أية صدمة، بل على العكس غرضه أن يحافظ على إبقاء كل كلمة مجرد طفلة بجانب كلمة / طفلة أخرى....
والمصيبة ليست في أن يكون المُترجِم أمينا أو متصرّفا... وإنما في القدرة على نقل، كأي حمّال، كل مكعب نثري إلى اللغة (صندوق الأشياء الهشة) التي يود أن يستقر فيها. وما إن نفكر أن هناك فكرة في الجملة وما علينا سوى رصدها، حتى تبرز صعوبات أشد: إذ فجأة يطفر حرف جر ويسد علينا الطريق إلى فهم شيء ما. مثلا هذا العنوان: Suppose an eyes التي باضافة S الجمع، اعطت معنى آخر لللأداة التي تسبق الأسماء النكرة an وقد يترجم أحد هذا العنوان بالتالي: "افترِضوا عَي(و)نا". لكنني فضلت أن أضع "افترِضوا عيونا ما".
وبعد معركة مع هذه القصائد المختارة من فصل "أشياء ملموسة" أو "حوائج" Objects، لم يتبق لي ما أراه ترجمةً صائبة، سوى هذا العدد من قصائد جيروترود شتاين، حيث فضلت أن أنقل قدر المستطاع اللامعنى على أن أنقل ما يبدو من معنى واضح في هذه القصائد، لكنه غالبا ما يضلل. وللحصول على متعة القراءة، يكفي أن يُغيّر القارئ نمط قراءته للشعر (بحثا عن إيقاع، أو عن معنى ما، أو عن ذكرى تسليه)، وبالتالي عليه أن يستشف هذه الأزرار كما هي وليس كما يريد أن يُسقط عليها.. من دلالات غرضية أو صوتية. إذ أنها أزرار ناعمة لهيئة جديدة تتأنقها اللغة.
كتبت شتاين "أزرار ناعمة" (الكتاب مقسم إلى فصول ثلاثة: "أشياء ملموسة"، "أغذية" و"غرف") ربما لغرض واحد هو أن تترك اللغة التي ننبس بها كل لحظة، أن تستقصي نفسها. أن تجعل من نفسها موضوعا، غايةً، قصيدةَ نثر مختصرة لا غرضية لها: توليف تكعيبي!
جيروترود شتاين التي كان منزلها مشرع الأبواب لكل ما هب ودب من فنانين، شعراء وشحاذي الفنون في عز التكعيبية، كانت غالبا ما تعتزل في غرفتها لتكتب، لتلطخ الأوراق بزيت الحروف.
جيرودترود شتاين المرأة السحاقية التي تشمئز من المرأة؛ اليهودية التي تنفر من السامية، لم تكن تخشى من أن تكون لغتُها خارج المنطق؛ لغة تصادق على شيء وتتنصل منه في نفس الوقت. كانت تلح على أن تصير ناثرة بهذا المعنى وخصوصا في هذا الكتاب.
كل شيء مُعتم في هذه القصائد المرسومة على شكل نوافذ مضاءة.
كل شيء معقد ومجرد لكن بجمل بدائية بل تكاد تكون بسيطة حد السذاجة تلقى جزافا بوجه القارئ..
كل شيء يصرخ مشاعرَ في هذه القصائد العديمة الشعور والصامتة كقبر.
كل شيء يتحرك وينشط وفق قواعد نحوية صارمة رغم الشلل الذي يصيب المبتدأ والخبر، الفاعل والمفعول، حروف الجر، ظروف الزمان والمكان.. والى آخر ما تلقيناه في المدرسة من مبادئ أولية.
التجريد هنا ليس نتيجة تفكير معقد، أو تلخيص حِكَمي لتجربة ما. التجريد هنا يحرر اللغة من التسمية، من الاستعمال الوسائلي، يطلق الكلمات وهي في حالة جنينية، لا ماض لها، ولا ذاكرة، لا حنين ولا مشاعر... تصطف في جمل أشبه بأطلال بلا تاريخ، أطواد من الدلالات التي لا دلالة لها: "زهرة هي زهرة هي زهرة هي زهرة هي زهرة..." حتى تنغلق الفقرة.
وإذا كانت الصدمة الشعرية التي يخلقها شاعر ما من خلال ربط كلمتين مختلفتين صورةً جذابة ومعنى دالا، فإن التجاور لدى شتاين تجاور تجريدي لا يبتغي خلق أية صدمة، بل على العكس غرضه أن يحافظ على إبقاء كل كلمة مجرد طفلة بجانب كلمة / طفلة أخرى....
والمصيبة ليست في أن يكون المُترجِم أمينا أو متصرّفا... وإنما في القدرة على نقل، كأي حمّال، كل مكعب نثري إلى اللغة (صندوق الأشياء الهشة) التي يود أن يستقر فيها. وما إن نفكر أن هناك فكرة في الجملة وما علينا سوى رصدها، حتى تبرز صعوبات أشد: إذ فجأة يطفر حرف جر ويسد علينا الطريق إلى فهم شيء ما. مثلا هذا العنوان: Suppose an eyes التي باضافة S الجمع، اعطت معنى آخر لللأداة التي تسبق الأسماء النكرة an وقد يترجم أحد هذا العنوان بالتالي: "افترِضوا عَي(و)نا". لكنني فضلت أن أضع "افترِضوا عيونا ما".
وبعد معركة مع هذه القصائد المختارة من فصل "أشياء ملموسة" أو "حوائج" Objects، لم يتبق لي ما أراه ترجمةً صائبة، سوى هذا العدد من قصائد جيروترود شتاين، حيث فضلت أن أنقل قدر المستطاع اللامعنى على أن أنقل ما يبدو من معنى واضح في هذه القصائد، لكنه غالبا ما يضلل. وللحصول على متعة القراءة، يكفي أن يُغيّر القارئ نمط قراءته للشعر (بحثا عن إيقاع، أو عن معنى ما، أو عن ذكرى تسليه)، وبالتالي عليه أن يستشف هذه الأزرار كما هي وليس كما يريد أن يُسقط عليها.. من دلالات غرضية أو صوتية. إذ أنها أزرار ناعمة لهيئة جديدة تتأنقها اللغة.