العرقسوس... المشروب الملكي... من أطباق الفراعنة إلى موائد رمضان
يكاد لا يخلو بيت دمشقي من إبريق السوس وقد تربع على مائدته الرمضانية كرمز عريق من رموز التقاليد المعروفة في شهر رمضان المبارك... عرق السوس مشروب الملوك وأحد أبرز الألغاز الطبية التي حيرت الكثيرين منذ عهود الفراعنة وحتى عصرنا الحالي...
العرقسوس نبات بري شجري معمر من الفصيلة البقولية، يطلق على جذوره (عرقسوس) أو أصل السوس الموطن الاصلي لهذا النبات سورية وآسيا الصغرى وأواسط آسيا وجنوب أوروبا ومصر. أوراقه ملساء وأزهاره زرقاء, يستخرج من بذوره شراب سكري المذاق يميل إلى اللون الأسود, وتميل رغاويه إلى اللون الأصفر, والأمريكيون أكثر شعوب العالم استهلاكا للعرقسوس.و تحتوي جذور العرقسوس على مادة صابونية تعرف باسم جلسرايزين ذات طعم حلو تفوق درجة حلاوتها اكثر بخمسين مرة من السكر الناتج من قصب السكر، وعسل النحل، والجزء المستخدم: منها الجذور، والاسم العلمي: Glycyrrhiza glabra
لغز الحضارات الطبي
ينتشر نبات العرقسوس في عدد محدود من دول العالم ومنها سورية إذ ينمو على أطراف نهر الفرات ويزداد إقبال الناس عليه في شهر رمضان المبارك ويتميز شرابه بنكهة خاصة ومذاق لذيذ إضافة إلى العديد من فوائده الطبية التي تعرفت عليها الكثير من الحضارات القديمة، فكان لغزاً محيراً يستخدم على نطاق واسع دون معرفة آلية عمله في شفاء ومعالجة العديد من الأمراض.. ويبدو أن جذور السوس كان لها رمزية دينية وطبية حيث استخدمه المصريون القدماء لطرد الشياطين من الجسد واقتصر شربه على ملوك الفراعنة دون العامة حيث اعتبر شرابا ملكيا، وبقي هذا المشروب يقتصر على الطبقات المالكة، حتى جاء الفاطميون فأقبل عليه عامة الناس.
واعتبر هذا النبات ذا قيمة علاجية عالية لدى المصريين منذ قديم الأزل، وأعدوا العصير من جذوره, وقد وجدت جذور العرقسوس في قبر الملك توت عنخ أمون الذي تم اكتشافه في عام 1923. فقد كان الأطباء المصريون القدماء يخلطونه بالأدوية المرة لاخفاء طعم مرارتها وكانوا يعالجون به أمراض الكبد و الأمعاء، كماعرفت جذور نبتة العرقسوس منذ أكثر من أربعة آلاف سنة عند البابليين كعنصر مقوي للجسم و مناعته,. و كان الطبيب اليوناني الشهير آنذاك ثيوكريتوس يعالج به السعال الجاف والربو والعطش الشديد.
كماأن تجارة العرقسوس ازدهرت خلال القرن الثالث عشر في أوروبا نتيجة اشتهار النبات كدواء شعبي ضد السعال ومادة محلية في الأدوية والأغذية.
ينمو نبات العرقسوس وهو نبات حراجي بدرجة حرارة تتراوح بين 6 و 25 درجة مئوية وتربة مناسبة وينمو برياً في معظم بلدان حوض البحر المتوسط إلا أن قيمته الطبية جعلته يزرع في مساحات واسعة في تركيا وفرنسا وألمانيا وايطاليا والعراق وسورية إضافة إلى الصين وتجود زراعته عموماً في الأجواء الدافئة والتربة الخفيفة أو العميقة الخصبة.
في سورية
يوجد نبات السوس بشكل أحراج في أملاك الدولة في سورية وانخفضت كميات إنتاجه في الفترة الأخيرة بسبب الفلاحة الجائرة لجذور نبات العرقسوس حيث يتم إنتاج حوالي ألف طن في سورية في السنوات الأخيرة إضافة إلى استيراد ألف طن من العراق ومعظم هذه الكميات تستهلك محلياً والتصدير يتم على كميات قليلة من الأطنان بالرغم من تميز مذاق العرقسوس السوري عن غيره من المنطقة.
وعن أشكال تصنيع شراب العرقسوس تستعمل جذوره كمادة خام على شكل عيدان يتم تقطيعها بأطوال تتراوح بين 8 و 18 سنتيمتراً يتم تصديرها إلى شركات أدوية في أوروبا كما تستخدم للمضغ وتطهير الفم وتستخدم أيضا للتخفيف من عادة التدخين أو تطحن الجذور للاستخدام المنزلي أو للسواس الذي يقوم بتحضيره كشراب طبيعي.
ويستخدم المركز السائل من العرقسوس في الصناعات الغذائية مثل السكاكر والحلويات والبوظة والعلكة والمرتديلا وبعض أنواع الشوكولا وحب السوس والجلي كما يستخدم كيماوياً في تركيب بعض مواد التجميل والكريمات ومعجون الأسنان ومنكه للعديد من المنتجات كاللحوم والسمك والأغذية الخاصة بالأطفال، ويستخدم أيضا مع رغوة الفوم لطفايات الحريق كما يستخدم في إزالة السموم والروائح الكريهة في معامل الزنك والتوتياء.
ويقوم السواس باستخلاص شراب العرق سوس بترطيب الجذور حتى يتحول لونها من اللون الأصفر إلى البني المحمر حيث تتخمر خلال نصف ساعة بعدها توضع في قطعة من القماش ويتم سكب الماء عليها ببطء حتى لا تتعكر بحيث تحل البودرة شيئاً فشيئاً ويكرر الماء المستحلب لمدة نصف ساعة.
ويتميز شراب العرقسوس بأنه طبيعي خال من الملونات الصناعية والمنكهات الكيماوية فهو يحمي الجسم من الكثير من الأمراض ويؤخذ الشراب ساخناً أو بارداً وخصوصاً في شهر رمضان لأنه يروي ظمأ الصائم.
الصينيون اعتبروه أحد أعمدة طب الأعشاب والأميركيون الأكثر استهلاكاً
عرفه الأطباء العرب كطعام و دواء ويقول عنه ابن سينا في القانون: إن عصارته تنفع في الجروح وهو يلين قصبة الرئة وينقيها وينفع الرئة والحلق وينقي الصوت ويسكن العطش وينفع في التهاب المعدة والأمعاء وحرقة البو.
وقال عنه ابن البيطار: أنفع ما في نبات العرقسوس عصارة أصله وطعم هذه العصارة حلو كحلاوة الأصل وهي تصلح لخشونة قصبة الرئة إذا وضعت تحت اللسان وامتص ماؤها وإذا شربت وافقت التهاب المعدة والأمعاء وأوجاع الصدر وما فيه والكبد والمثانة ووجع الكلى، وإذا امتصت قطعت العطش وإذا مضغت وابتلع ماؤها تنفع المعدة والأمعاء كما ينفع كل أمراض الصدر والسعال ويطري ويخرج البلغم ويحل الربو وأوجاع الكبد والطحال وحرقة البول ويدر الطمث ويعالج البواسير.
وقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن العرقسوس يحتوي على مادة الجلسرين Glycerrhizin والمشتق منها مادة كاربن أوكسالون التي تساعد على التئام قرحة المعدة والأمعاء.
وتحتوي جذور العرقسوس تسعة مركبات لها تأثير مقشع للبلغم بالإضافة إلى مركب عاشر له تأثير مضاد لسموم الجسم ويستعمل الآن العرقسوس لتحضير مستحضرات صيدلية مختلفة تفيد في علاج قرحة المعدة ومنها عقار الكاميتداس وهو علاج قوي لقرحة المعدة مستخرج من نبات العرقسوس.
أما آخر الأبحاث عن قدرة الجلسرين، وهو أحد مكونات خلاصة العرقسوس على شفاء مرضى الالتهاب الكبدي عامة وخاصة الالتهاب الكبدي الناتج من فيروس سي، وقام اليابانيون بنشر أبحاث توضح فاعلية هذه المادة في وقف نمو السرطان الذي يصيب الكبد، لكن يفضل عدم تناول العرقسوس في حالات فرط ضغط الدم؛ لأنه يسبب احتباس السوائل.
فيما اعتبره الدستور الطبي الألماني مع بعض الدساتير العالمية الأخرى أحد الأعشاب الهامة في علاج أمراض كثيرة ومن المعروف ان المادة التي تشبه الكورتيزون في العرقسوس هي جلسراتيك لا تسبب الأضرار الجانبية التي يسببها الكورتيزون مثل زيادة الوزن وسوء الهضم واضطراب النوم وضعف المناعة تجاه العدوى كما وجد أن العرقسوس يحتوي على 125مركباً مضاداً للفطريات ويعتبر أكثر النباتات المسجلة غنى بهذه المركبات.فيما اعتبره الصينيون أحد أهم أعمدة طب الأعشاب في بلادهم.
كما نجد أن هذا النبات يعمل بطريق غير مباشر على تحفيز خلايا النخاع على تكوين كرات دم حمراء، ما يساعد على علاج الأنيميا ويخفف تقلصات الأمعاء الناتجة عن استخدام بعض أنواع الملينات، ويستخدم العرقسوس في علاج بلهارسيا المستقيم، لأن المواد الصابونية الموجودة به تساعد على قتل بويضات البلهارسيا.
بائع العرقسوس
نجم مواجهة العطش في رمضان
بائع العرقسوس مثل الكثيرين من نجوم شهر رمضان، له طقوسه الخاصة، وعاداته وأساليبه ليس فقط في صنعته وملبسه، وإنما أيضاً في الترويج لها بما يضفيه على مشروبه من صفات لها أصولها التي ترويها كتب الطب والتاريخ معاً، حركاته رشيقة وسريعة، رغم أنه يحمل أثقالاً فوق صدره، يجوب بقربته الجلدية أو إبريقه الزجاجي أو النحاسي الضخم الشوارع والحارات أو يتخذ له مكاناً استراتيجياً كشارع مزدحم أو مفرق ملتقى شوارع يعرض سوسه على المارة المسرعين إلى بيوتهم قريباً من ساعة الإفطار في شهر رمضان، وبائع السوس المحترف لهذه الصنعة يتميز بلباس خاص، سروال أسود واسع من منطقة الحجر، يضيق عند القدمين، وبسترة مزينة بنصف ياقة، وطربوش فوق الرأس، وصاجات وجلاجل نحاسية لامعة كما الذهب، بإحدى يديه ترن رنات محسوبة، وفي اليد الأخرى زمزمية ماء بلاستيكية يغسل فيهاأكوابه التي يصب فيها العرق السوس للمارة مردداً عباراته التي يحفظها الجميع.. شفا وخمير ياعرقسوس.. بارد وخميرياعرقسوس..هذه العبارات التي يرددها بائع العرقسوس تشبه شريط التسجيل الذي يدور ويدور بإيقاع ونغمات ثابتة طيلة أيام شهر رمضان المبارك، التي يحل فيها بائع العرقسوس نجماً لمواجهة العطش بعد نهار الصيام..