الناس شبعت من (حجي الجرايد).. وأتخمتها (أباطيل الوعود)
متى ينفذ رئيس الوزراء (مشاريعه الانتخابية) برعاية أرامل الشهداء وأيتامهم؟.
وزير العمل مدعوّ لإعطاء الأسبقية لـ(عوائل الشهداء) بتخصيص
(الإعانات الشهرية)
قصص (القتل الطائفي) تركت حشوداً من الأرامل والأيتام لمصائر مجهولة.. والمسؤولون مشغولون بـ(الكراسي)!
) تكشف سيرة نكبة اختطاف (ربّ أسرة) من أكف زوجته وأطفاله..
و(قتله)!
بغداد/ النور
اقتربتُ من (بقايا عائلة خالد العاني) بتؤدة، فالزوجة الأرملة الشابّة، تعتقد أن القادم إليها، لم يكن سوى منتم إلى عشيرة (كلام الجرايد) التي اعتادت على تحويل (وعود المسؤولين) إلى ما يشبه (مائدة طعام لا تغني من جوع)..كانت المسكينة محاطة بأطفالها الثلاثة، بعد أن غيّبت (عصابة مجرمة) زوجها (خالد حكمت عمران العاني) مواليد 1970. قدّمتْ لي أطفالها: (عماد) مواليد 1996 في الصف الأول متوسط، و(زهراء) 1998 في الصف الرابع الابتدائي، و(لؤي) في الثالث الابتدائي. وقالت: هؤلاء هم عبئي، ما ذنبهم؟. ما ذنبي؟. ما الذي اقترفناه جميعاً؟. ولماذا نعيش على (صدقة الأقرباء) أو (صدقة الوقف الشيعي) برغم شكرنا لهم؟. متى تنفذ حكومة (المالكي) وعودها برعاية عوائل الشهداء؟. هل نصبر حتى نرى أنفسنا بحاجة حتى إلى (لقمة الخبز)؟. نحن الآن فعلا مجهولو المصير. الترمّل واليُتم (حال عامة) في المجتمع، ولا نجد أحداً يضع لبنة على لبنة من أجل ملايين الناس المنكوبين بطرق شتى؟. أين عدالة الإسلام؟. أين حقوق الإنسان؟. أين الديمقراطية؟. الناس تكاد تخرج من يقينها بهذا الحكم المشغول بالانتخابات والفساد والمسؤولين الذين لا يراهم أحد ولا يعرفهم أحد إلا من خلال (تصريحاتهم) التي ينثرونها في الهواء كأنها بالونات فارغة!.
كانت أرملة الشهيد تتحدّث بمفرداتها، لكنْ بكلام دقيق يقرب جداً من ترجمتنا لحديثها. حاولتُ تهدئة روعها. قلت لها: ربما ينام المسؤولون على وسادة مشروع مستقبلي، فأنا شخصياً سمعت رئيس الوزراء (نوري المالكي) يتحدث عن أولوية رعاية عوائل الشهداء، وذكر بالتحديد أن هناك ملايين الأيتام والأرامل ينتظرون الرعاية، ولابد من جعل ذلك ضمن أولويات السلطة. عبّرت الأرملة بصمتها وبإيماءة من يديها، عن عدم وثوقها مما سيحدث، وتكاد تقول: سمعنا من هذا الكلام الكثير، ولم يصلنا من الحكومة سوى مليونين ونصف المليون دينار، ذلك المبلغ الذي يسمّونه (مصاريف مجلس الفاتحة). أما علم رئيس الوزراء أو المسؤولون عموماً أن المشكلة الحقيقية لعائلة أي شهيد تبدأ بانتهاء مجلس الفاتحة وارفضاض الناس عن (كومة عيال وامرأة).. تقول: أنا أتحدث عن كل الأرامل مثلي وعن كل الأيتام من أتراب أولادي.
أردت أن أنتقل بهذه الزوجة المفجوعة إلى ذكريات العملية الإجرامية، فهي الآن متوقدة الذهن بعد أن أفرغت جام غضبها، وعبّرت عن لواعجها، حتى لكأنها تُخرج كلامها من قلبها جمرة إثر جمرة.. تساءلت وهي في دوّامة من عن خيط البداية في حديثها عن ذكريات مريرة، تقول إنها تنام معها على مخدة واحدة، فالليل الذي أخذ فيه زوجها، ما فتئ يغشى حياتها عند كل ساعة توحي بذاك الغروب الذي سرق (عذوبة) حياتها بعد أن غيب حبيب قلبها، وأخمد الفرحة في عيون أطفالها، لأنهم ومنذ تلك الليلة المشؤومة سنة 2007 لم يروا أباهم ثانية. أخذته عصابة ميليشيات من بيته، وفي اليوم التالي عثرت عليه الشرطة مرمياً في (ساحة إعدامات)..هكذا سمّتها!.
رفضت (ابتهال) أن تكشف اسمها الكامل، أو تسمح بالكشف عن كامل صورتها لأنّ (التماعة) عيني حبيبها الجامدتين، مازالت تذكـّرها أنْ المجرمين ربما يكونون عند الباب، برغم أنها هجرت المكان، والزمان، وتنتظر (مستقبلاً آخر) يتحدث عنه المسؤولون، وكأنه (قاب قوسين) من متناول الموعودين به من أرامل العراق ويتاماه، لكنّه في النهاية، وبرأيها الذي تصرّ عليه، ليس غير (حجي جرايد) لم تعد الناس تثق به أو تحترمه!.
روت قصة اختطاف زوجها–وهي مغرورقة العينين- قائلة: كنا نسكن في حي الطوبجي المعروف بحي السلام وبالتحديد في زقاق (410) بالمنطقة التي تسمّى (الجته) وتعني المنطقة المزروعة. كان زوجي (خالد حكمت عمران العاني) مطمئناً لمحيط المكان برغم سيطرة الميليشيات، فالمكان موروث من قديم الزمن لعائلته، وفي المنطقة أيضا بيوت عدة لأقربائه وأهله. وفي سنة 2007، اشتد لهيب النزاع الطائفي. كان رجال الميليشيات يعرفون أن زوجي (سُنّي) وهو لا يبارح المكان، لأنه يعمل في دكانة صغيرة من بيتنا، نسمّيها أسواقاً.
وتابعت: طـُرقت بابنا في الساعة العاشرة والنصف ليلاً. فوجئنا بثلاثة مسلحين مثلمين، كان رابعهم ينتظر في إحدى سيارتين وقفتا أمام دارنا. سألوا زوجي: ((هل أنت صاحب البيت؟)). و((من هم الذين معك؟)). كان ابني (لؤي) وابنتي (زهراء) نائمين..وحده (عماد) كان مستيقظاً. فتشوا البيت، زواية زاوية، وتحدّثوا بكلام لم أفهم منه شيئاً سوى تهمة باطلة، وهي أن (زوجي من الحزب الإسلامي)، ولمّا لم يجدوا شيئاً، قالوا لـ(خالد) زوجي، وكنت أنا وابني (عماد) نتشبّث بذراعيه، خوفاً بل رعباً مما سيحدث. قالوا: لا تخافوا سنأخذه لساعة واحدة ونعيده إليكم. صرخت لكنّ أحداً لم يسمع صراخي..في الحقيقة كان الناس يتفرّجون من نوافذهم، فالجميع يخشى على نفسه من الاختطاف والقتل. لا أحد يستطيع أن يقف في وجه هذه الشراذم التي كانت تزعم أنها تابعة لهذه الجهة أو تلك وهي في الحقيقة عصابات مأجورة أو تعمل لمصلحتها.
أخيراً انتزعوا (خالد) من بين زوجته وأكبر أالذي كان وقتها طفلاً غض العود. اقتاد الملثمون المسلحون (خالداً) وبنادقهم موجهة إلى الرؤوس الى متن سيارة بيكب (دبل قمارة) تسبقها سيارة مرسيدس بيضاء. لم تطل مدة اختطافه، ففي الساعة الثانية بعد منتصف الليلة نفسها، جرى إعدامه في (ساحة الإعدام) بـ(كراج الأسطه) في مدينة الحرية. كانت ساحة معروفة، وفيها صُفّي الكثيرون على أيدي العصابات الإجرامية.
تقول زوجة الشهيد إنها عرفت من أجهزة الشرطة ومن رؤيتها الشخصية لجثة زوجها، أنه كان مصفـّد اليدين، وأن طلقة واحدة استقرت في رأسه. وعندما أمسكت الشرطة سنة 2008 بعدد من أفراد العصابة نفسها، عرفت الزوجة أن أحدهم كان اسمه (خالد) أيضاً، والآخر يسمّى (قصي أبو الغاز) والثالث(أحمد عبد الستار) أما الرابع فهو هارب حتى الآن. وتؤكد أنها رأت الثالث في الشعبة الخامسة بالكاظمية.. كانت تتمنّى أن تراه وأن تسأل عن زوجها في آخر لحظات حياته، وعن أسباب حرمانها وحرمان أطفالها من ظلاله أبوّته!. وتؤكد إنّ الثلاثة اعترفوا بقتل زوجها، وبقتل شاب آخر اسمه (حيدر) كان بيته مجاوراً لدارها، ويسميهم أهل المحلة (بيت أم صفاء).
تعتقد الزوجة أن زوجها قتل لأسباب طائفية، لكونه سُنّياً –برغم أنها شيعية- وسمعت البعض يزعم أنه قتل، لأنه كان ينتمي إلى الحزب الإسلامي، لكنّ تلك فرية ((لأن زوجي لم يكن سياسياً ولا دخل له في قضايا الأحزاب، فضلاً عن أننا لم نتلق أية تهديدات من أحد)) بهذه العبارات تجد (ابتهال) نفسها مجبرة على الدفاع عن زوجها البريء الذي لا يعرف من الطائفية غير اسمها، بدليل زواجه من شيعية، وبدلالات أخرى قد لا تُخفى على القارئ اللبيب. وتضيف قائلة: بسبب الظروف الاقتصادية افتتح زوجي محل بقالة أو (أسواق) من حديقة البيت لكي يعيل أطفاله. كانت المسألة كما تظن الزوجة تتعلق بإخلاء البيت لتسليمه لآخرين قادمين من مناطق أخرى.
وقيل لي –تؤكد ابتهال- إن عناصر في صحوة الطوبجي (تتكون من أفراد سُنّة وشيعة، فطبيعة المنطقة مختلطة حتى الآن). هم الذين عرفوا قاتلي زوجي، وجميعهم من سكان المنطقة. ولم تر الزوجة غير أن تهجر بيتها بما فيه يوم تسلمها جثة زوجها. لقد حاول بعض المجرمين مهاجمة البيت لسرقة أثاثه. كانت عملية القتل والمداهمة جزءاً من خطة التهجير القسري. وتزعم أن الميليشيات أسكنت (عائلة مهجرة) من أقرباء القتلة في بيتها لكن الشرطة أخرجتها. وفي لحظة تذكـّر قالت إن أعمار المجرمين تترواح بين 30 و35 سنة.
كانت ذاكرتها مبعثرة، وأفكارها مشوّشة، لكنها تتحدث وكأنها تنسل خيوط كلامها من (نار موقدة)..تروي أن زوجها لم يقاوم مختطفيه. اقتادوه الى الحوض الأمامي للبيكب، وانطلقوا به إلى جهة الحرية نحو سكة الحديد، لأنها كانت كما تسمّيها (منطقة إعدامات). وهناك بالتحديد عثر على زوجها وهو ملقى على جبهته. وفي معرض كلامها على مسألة انتمائه للحزب الإسلامي، قالت إن أحداً لم يسأل عنه من أيما جهة سياسية أو حزبية لا سُنّية ولا شيعية، ولا غير ذلك. ولهذا فإن زعمهم باطل..كانت مجرّد تهمة تجد من يرتاح لها في ذلك الوقت.
وأضافت تقول: في تلك الفترة كان الكثيرون من السُنّة قد قتلوا في منطقة الطوبجي، وفي اليوم نفسه قتل اثنان آخران أحدهما اسمه (عامر). وتعتقد (ابتهال) أن زوجها (خالد) كان مطمئناً للمنطقة لأن آباءه وأجداده كانوا قد سكنوها ويمتلكون الكثير من البيوت فيها. وإلى الآن تسكن هناك عمته وزوجة خالته، ومعارف لهم كثر. وتروي أن أحد أقرباء زوجها اختطف من المنطقة أيضا ولم يعثر عليه حتى الآن.
وتذكر أن أحداً من سكان المنطقة الشيعة لم يجرؤ على الاعتراض العلني على الجرائم –برغم أنهم كانوا يستنكرونها في سرهم أو أمام من يثقون به- إذ كانت المخاوف تسكن القلوب مما قد يجرّه عليهم موقف كهذا. لم يسأل الناس عنها، بعد أن عثر على جثة زوجها. كانوا ساعة الاختطاف فقط يتلصصون من نوافذ بيوتهم، خوفاً من بطش المجرمين.
وبرأي (ابتهال) أن عوائل الشهداء غير السياسيين أو (الأبرياء من أية انتماءات) يجب أن يحظوا بنظرة خاصة من الدولة، فهؤلاء لا اختيار لهم. كانوا أناساً عاديين، ويجب أن يمنحوا رواتب شهرية، وإلا فكيف تستطيع الأم أن تعول أيتامها. في الأقل يخيّرون الزوجة بين العمل وبين الراتب التقاعدي. وتؤكد قولها إن (فرص الحياة) غائبة عن بيوت الأيتام والأرامل. سنة تجرّ أخرى والوعود لا حصر لها. المهم الآن أن لا (تخطط الدولة).. في المقام الأول يجب أن تعرف أن هؤلاء اليتامى والأرامل بحاجة الى دفع إيجار البيوت التي تؤويهم وإلى طعام وإلى مصروفات ماء وكهرباء وملابس ومدارس وغيرها. وهم بحاجة أيضاً الى علاج من (الصدمة)، مشيرة –على سبيل المثال- إلى أن ابنها الكبير (عماد) الذي رأى أباه وهو يُختطف، يعاني من إشكالات نفسية خطيرة. وتضيف: كيف أقوى في مجتمع محافظ مثل مجتمعنا –بتقييداته الجديدة- على إدامة حياة أطفالي..إن الذين يقدسون علياً عليه السلام وهو (أبو الأيتام والأرامل) يجب أن يقتدوا به، وإلا فالكلام الذي (تسفطه الجرائد) ويلوكه المسؤولون لا يجدي. قالت ذلك وهي تنظر إلى السماء في شبه مناجاة لرب الناس أجمعين: ((اللهم أنت العارف بالحال))..اكتفت بما روت، ودعت الله أن يوفق من يرعى أيتام العراق وأرامله، وأن ينتقم ممن يسرقون أموال العراقيين برغم (شحتها)..!!