الدستور العراقي الدائــم
أفكــار و طموحــات
أ.د. غازي فيصل مهدي*
تمهيــد
بعد أن جرت الانتخابات العامة في العراق بنجاح باهر، ولدت الجمعية الوطنية بعد مخاض عسير، وأصبح العراق مقبلاً على مرحلة ومدبراً عن أخرى، فهو مقبل على مرحلة ديمقراطية تنتقل فيها السلطة سلمياً،وعسى أن ينعم الأفراد بحقوقهم وحرياتهم، ومدبر عن مرحلة مظلمة امتازت بالقهر والتسلط والاستبداد، فالحمد لله على السلامة عدد الحصى .
أن أولى المهمات التي يجب على الجمعية الوطنية أن تقوم بها بعد تعيين الحكومة، هي وضع دستور دائم للبلاد، والدستور كما هو معروف عرفاً،أعلى قانون في الدولة، فهو يتربع على قمة الهرم القانوني ودونه التشريعات الأخرى مرتبةً، وهذا السمو الذي يتمتع به الدستور آتٍ من كونه مستودعاً للأحكام القانونية الكبرى التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، والسلطات العامة واختصاصاتها وعلاقة بعضها بالبعض الأخر والحقوق والحريات العامة، وعلى هذا فان بناء الدولة يتخذ من الدستور عماداً. هذا ولسنا هنا في مقام سرد أهمية الدستور والكشف عن عظمة دوره الإنشائي،فهذا ما نحيل فيه القارئ اللبيب إلى الكتب العامة ففيها المزيد منها، بل الذي نريد عرضه، الأفكار والطموحات التي نراها حقاً وصواباً. ولا ريب أن الدستور آت في الموعد الذي ضربه قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية،إلا انه يجب أن يكون جديداً في مضمونه ومحتواه، فلسنا راغبين متحمسين لدستور يصاغ بكلام معسول يجف عند التطبيق، بل الذي نريده أحكاماً سهلة التطبيق مضمونة الاحترام، فلا خير في
دستور يذهب كالزبد جفاءً إذ سئمنا ومللنا من شعارات ووعود جوفاء، فدستور عام 1970 تضمن حشداً من الحقوق والحريات العامة ما يسر الناظرين، ولكن مَنْ منا ذاق حلاوتها واستمتع بها؟ فكل ما تضمنه أشبه بالكتابة على ماء.
وعلى أية حال فإننا نطمح _ وهذا من حقنا المشروع _ أن نخضع لدستور يضمن لنا إنسانيتنا ولا يخدشها سوط جلاد، ويحقق لنا أمانينا كشعب أو كمواطنين فرادى،نعيش كما تعيش الشعوب المتحضرة بعز وكرامة واباء وهذا ليس عزيراً بل يسير يسير .
إن ما نطرحه في هذا البحث يمثل وجهة نظرنا الشخصية في الدستور المزمع وضعه، وهي تحتمل الخطأ والصواب،فان أصبنا فالحمد لله على السداد وان أخطأنا فإننا للمقوم الناصح لمستمعون.
إن موضوع بحثنا سيتوزع على مباحث خمسة، الأول مخصص للسلطة المختصة بوضع الدستور، والثاني للمبادئ الأساسية له، والثالث للسلطات العامة فيه واختصاصاتها، والرابع للحقوق والحريات العامة، والخامس لضمانات تطبيق الدستور، تعقبها خاتمة فيها النتائج والمقترحات ومن الله العون والتوفيق .
المبحث الأول
السلطة المختصة بوضع الدستور
السلطة المختصة بوضع الدستور
تظهر الحاجة إلى الدستور عند نشوء الدولة ابتداءً، أو عند قيام ثورة تعصف بالدستور القديم فيصبح هباءً منبثاً .
إن وضع الدستور يتم من قبل سلطة مختصة تملك مكنات سياسية واسعة تسمى بالسلطة التأسيسية وقد تتولى تعديل الدستور أيضاً. إن تحديد السلطة التأسيسية وتنظيم عملها يختلف من دولة إلى أخرى، فإذا تولى الدستور هذه المهمة سميت السلطة المذكورة بالسلطة التأسيسية المنظمة أو سلطة التعديل، أما في حالة عدم وجود دستور كما في نشوء دولة جديدة أو سقوط الدستور بثورة عارمة فان السلطة المذكورة تكون سلطة تأسيسية أصلية تملك اختصاصات مطلقة لا يحدها إلا قيد التعبير عن الفكرة القانونية السائدة التي تعد _ بحق _ أساس وجودها .
إن السلطة التأسيسية الأصلية، أما أن تكون من الشعب عامة، لأن الفكرة القانونية السائدة تتجسد فيه وتحقيقها متوقف عليه، أو تكون فرداً أو مجموعة أفراد ماسكين بأيديهم قبضة السلطة السياسية (1).
إن أساليب نشأة الدساتير اثنان ولا مزيد، الأسلوب الملكي والأسلوب الديمقراطي، فالأول يتمثل بالمنحة والتعاقد والثاني يتمثل بالجمعية التأسيسية والاستفتاء التأسيسي.
وأسلوب المنحة في وضع الدساتير مؤداه أن الملك وبوحي من إرادته يمنح الشعب دستوراً يقيد من سلطاته المطلقة ويجعلها حبيسة نصوصه لا تجد منها انفكاكاً، ومن الدساتير التي وضعت بهذا الأسلوب الدستور الفرنسي لعام 1814 الذي أصدره لويس الثامن عشر للأمة الفرنسية بعد أن هوى عرش نابليون، إذ جاء في مقدمته ما يأتي ( لقد عملنا باختيارنا وممارستنا الحرة لسلطاتنا الملكية ومنحنا ونمنح ونعطي تنازلاً وهبة لرعايانا وباسمنا بالنيابة لمن يخلفنا والى الأبد العهد الدستوري الآتي ... )
أما أسلوب التعاقد فانه يعني صدور الدستور نتيجة اتفاق إرادة الشعب عن طريق هيئة تمثله وتعمل باسمه مع إرادة الملك، ومن الدساتير التي وضعت بهذه الشرعة الدستور اليوناني لعام 1844 والدستور الروماني لعام 1864. هذا وقد اعتبر أسلوبا المنحة والتعاقد من الأساليب غير الديمقراطية في وضع الدساتير لأن إرادة الحكام هي السائدة والمسيطرة وليس إرادة الأمة.
وفيما يتعلق بالأسلوب الثاني في وضع الدساتير فهو الأسلوب الديمقراطي، إذ يتم وضع الدستور بموجبه من قبل جمعية تأسيسية أو عن طريق الاستفتاء الدستوري، فالأول يتطلب انتخاب الشعب لهيئة تمثله وتتولى وضع الدستور. إن هذا الأسلوب مدين في نشأته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تم استخدامه لأول مرة في وضع دساتيرها بعد استقلالها عن بريطانيا في عام 1776، ثم في وضع دستورها الاتحادي، ولقد تقبلت دول كثيرة هذا الأسلوب بعد الحرب العالمية الثانية بأحسن القبول ووضعت دساتيرها بموجبه ، نخص منها بالذكر الدستور الإيطالي لعام 1947 والدستور الروماني لعام 1948 والدستور المجري لعام 1949. أما أسلوب الاستفتاء الدستوري فانه يتطلب موافقة الشعب بالأغلبية على مسودة الدستور أياً كانت الجهة التي أعدته، جمعية نيابية أو لجنة، ومن الدساتير التي وضعت على وفق هذا الأسلوب الدستور الفرنسي لعام 1946 والدستور المصري لعام 1956 (1)، وهذا الأسلوب يعد من أسمى الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير كما يذهب إلى ذلك بعض الفقهاء (2).
بعد هذه التوطئة نعود لاستقراء نصوص أحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لنرى مَنْ هي الجهة المختصة التي ستتولى مهمة وضع الدستور الدائم، فلقد نصت المادة الحادية والستون من القانون، بان على الجمعية الوطنية كتابة مسودة الدستور الدائم في موعد أقصاه 15/8/2005 على أن تعرض مسودة الدستور الدائم على الشعب العراقي للموافقة عليها في استفتاء عام وفي الفترة التي تسبق إجراء الاستفتاء، وتنشر مسودة الدستور وتوزع بصورة واسعة لتشجيع إجراء نقاش عام بين أبناء الشعب بشأنها ويكون الاستفتاء العام ناجحاً ومسودة الدستور مصادقاً عليها عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق إن لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر. وبعد إنعام نظر وتدقيق في نص المادة الحادية والستين المشار اليه في أعلاه ، يمكن القول إن وضع الدستور سيتم بطريقة ديمقراطية خالصة، لأن الجمعية الوطنية هيئة تم انتخابها طبقاً لقانون الانتخابات والأحزاب السياسية، وبالتالي فإنها ستمثل إرادة الشعب أصدق تمثيل، وستضع مسودة دستور يعبر عن طموحاته وعمقه التاريخي.
إلا أن المسودة المذكورة لا تنقلب دستوراً ذا قوة قانونية ما لم يجر استفتاء شعبي عليها وهذا بحد ذاته خطوة إضافية تعزز النهج الديمقراطي وتجعل من طريقة وضع الدستور مثالية على الوجه الاسنى، لا بل ويقيناً أنها ستكون أنموذجاً للدول النامية في هذا الخصوص، إلا أن مما يعاب على قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية كثيراً من انه أعطى لثلثي الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر حق رفض الدستور المقترح، وهذا يعني فيما يعنيه أن بإمكان الأقلية أن تعطل رأي الأغلبية، ومبادئ الديمقراطية من هذا براء ثم براء، لأن حكم الأغلبية يجب أن يسود وما على الأقلية إلا الانصياع له والرضوخ .
إن الحكم المذكور يثير العجب والاستغراب، فهو لم يوضع إلا من أجل الإبقاء على وضع يرفضه جل العراقيين، وعلى هذا فان المطلوب من الجميع أن يعملوا صادقين من أجل إبطال مفعوله وإسقاطه من الاعتبار، لأنه من صنيع الأجنبي المحتل الذي أراد لهذا البلد المتماسك تمزيقاً ولشعبه الصابر المجاهد إذلالاً وهواناً.
وجدير بالذكر انه تم وضع بعض الدساتير عن طريق المعاهدات الدولية ومنها على شاكلة المثال الدستور الألماني لعام 1871، إلا أن هذه الطريقة تتنافى وطبيعة الدستور ومهمته في المجتمع السياسي، لا بل أنها تعترض أساس وجوده وشرعية هذا الوجود. فالدستور يجب أن يأتي محصلة تفاعل عوامل عديدة متأتية من بطون تاريخ البلد وعاداته وأخلاقه ومزاجه ونضجه السياسي، والأجنبي لم ولن يستطيع أن يعبر عن ذلك لأنه لم يهضم الواقع كما ينبغي (1) .
وبناءً على ذلك، فإننا نحذر من الدخول في معاهدات تستلب أرادتنا وتملي علينا أحكام الدستور.
إن وضع الدستور الدائم يجب أن يتم بأيدي عراقية نظيفة، فلسنا بحاجة إلى مشورة مشاور،لأن لدينا الخبرات والكفاءات، نعم لا بأس أن نستمع لآراء الناصحين الذين يأتونا بالحكمة والموعظة الحسنة. إن الجمعية الوطنية تملك الاختصاص المطلق في وضع مسودة الدستور، وعليها أن تكتسح كل العقبات المادية والقانونية حتى تكون إرادتها صافية كالبلور، فهي ليست ملزمة من الناحية القانونية بنصوص قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية المتهالكة، فلتمض قدماً في إنجاز مهمتها ولتعرض مسودة الدستور على الشعب ليقول كلمته الفصل فيه وبالأغلبية، فإرادته هي التي تسود وتتعالى، ولا يعلو عليها شيء إلا إرادة الله تعالى.
عدل سابقا من قبل وليد محمد الشبيبي في الأربعاء 08 يوليو 2009, 4:20 pm عدل 1 مرات