19.05.2011
أيام الكهرباء
خالد القشطيني
شارع الرشيد عام 1958
الاعلانات التجارية عنصر اساسي من حياة المدن المعاصرة. ولكن الاطفال والصبيان كثيرا ما وجدوا فيها ما يثير ويدغدغ مشاعرهم، ولا سيما عندما تكون في لغة اجنبية.
في هذه الأيام يشكو العراقيون من انقطاع الكهرباء لما يسبب ذلك من غياب الخدمات، توقف الثلاجة والمكيفات والمراوح ونحو ذلك من الضروريات. ولكن في ايام صباي كننا نتعامل مع الكهرباء كنكتة ومتعة نلهو بها.
كان السير في شارع الرشيد من متع الصبيان الأساسية، وكنا نتوجها اعتياديا بالوقوف عند رأس جسر الملك فيصل وامام بناية حافظ القاضي. على قمة هذه البناية وضعت شركة السيارات الأمريكية اعلانا ضخما من النيون بأسماء سياراتها الشهيرة: لنكولن ـ فورد ـ مركري. وكان الجمهور يقرأون هذه الكلمات الأجنبية بشتى الصور ويصيغون منها مختلف العبارات البليغة وغير البليغة. كنا احيانا نقرأها فنقول، "لنكونن ورد وكركري". ونستغرق في الضحك ونرقص وننط في اماكننا جذلا. واحيانا كنا نحولها الى عبارات سوقية شنيعة يأبي مخرج هذا البرنامج ان يسمح لي بها. وكنا في كل الأحوال نهتاج ونغص بالضحك ونهتز ونتقافز على الرصيف. نتحاضن وكأننا في كوميديا من كوميديات شكسبير.
المهم في هذه الكلمات الثلاث انها كانت مكتوبة بمصابيح النيون الكهربائية بحث تشتغل لعدة ثوان ثم تنطفيء لعدة ثوان وتعود فتشتعل على نحو ما يجري كثيرا في الأعلانات التجارية. كان هذا شيئا عجيبا بالنسبة لنا وتحيرنا في هوية الرجل المسكين الذي يقضي الليل والنهار ويده على مفتاح النور، يطفيء ويشعل هذه المصابيح كل بضعة ثوان. حرنا في امره. متى يأكل؟ كيف يذهب لقضاء حاجته؟ ماذا تفعل زوجته اثناء غيابه؟ غير اننا اكتشفنا ان لهذه العملية ايقاعا واضحا له توقيته الخاص. وتعلمنا على مجاراته. ننفخ في اتجاه الأعلان فيشتعل ونبصق عليه فينطفيء، فنضج بالضحك والعربدة والجذل ونعرقل سير المارة ونحن ننط ونتقافز بوقع هذه المتعة المجانية. اتقنا هذه العملية بحيث اننا لا نكاد نبدأ بالبصاق حتى تنطفيء الكلمات فورا ولا نبدأ بالنفخ حتى تشتعل على الحال. وكان ذلك بالنسبة لنا مدعاة للأعتزاز والفخر العظيم. كل امة وعلى قد حالها. الأمريكان يصنعون السيارات ونحن نبصق على اعلاناتها.
دأبنا على ذلك حتى جاءت الشرطة يوما وخربت البهجة علينا كعادتها. تقدم نحونا العريف خلف، مسؤول تلك النقطة، والقى القبض علينا بتهمة اهانة الدولة والتعرض للذات الملكية. قال انكم تتفلون على صورة الملك فيصل الثاني المعلقة في فاترينة المصور ارشاك المقابلة لبناية حافظ القاضي. حاولنا عبثا الأشارة الى لنكولن فورد مركري والأصرار على وطنيتنا بالبصق على المنتجات الأجنبية.
لم ينفعنا ذلك فأخذنا الى مركز شرطة العبخانة حيث وجهت الينا التهمة رسميا بالترويج للمبادىء الهدامة. ولكن ضابط المركز سمح لنا كقاصرين الأتصال باهلينا فجاء الأعمام والأخوال والجيران بدشاديشهم وبيجاماتهم، يتوسطون ويشرحون ويتوسلون. شهد احدهم بمقدار حبي للملك وكيف انني لم ادخل الحمام الا وسمعني اغني: "فيصل يعزنا وسور لنا"
اخيرا احالونا الى حاكم التحقيق الذي سبق ان تلقى عشرات المكالمات والوساطات من الأعمام والأخوال وكل اهل الخير بشأننا فبادر الى سوآل العريف خلف اين كنا نقف؟ فقال في رأس الجسر. ثم سأله واين ستوديو المصور ارشاك؟ فقال مقابل بناية حافظ القاضي على الجانب الجنوبي من شارع الرشيد . فصرخ فيه الحاكم: ولك يا حمار، كيف يكون بأمكانهم ان يشوفون صورة الملك ويتفلون عليها من مكانهم من راس الجسر؟ فانهال عليه بالشتائم والتحقير ثم امر بالأفراج عنا.
خرجنا من المركز وعدنا لأستئناف متعتنا اليومية بالنفخ والبصق، ولكن ليس في اتجاه "لنكولن ـ فورد ـ مركري" هذه المرة وانما باتجاه العريف خلف نفسه. والمسكين يتحمل ويسكت. وكانت ايام خير وفاتت.
http://www.iraqhurr.org/content/article/24180230.html