الشيخ محمد باقر الشبيبي
شاعراً وثائراً ومصلحاً
التاريخ: 25-11-1429 هـ
الموضوع: أعلام بلادي
الموضوع: أعلام بلادي
من شعراء العراق الافذاذ وثوّاره الاحرار جمع الى جانب قصائده الوطنية والوجدانية المليئة بالعواطف والاحاسيس الملتهبة مواقفه البطولية في سوح الجهاد، فكان مثالاً حياً للإنسان الوطني المخلص الذي يطمح الى الحرية لبلاده والتحرر من أغلال الاستعمار، كما كان أنموذجاً رائعاً لقادة الفكر وحاملي لواء النهضة الفكرية والاجتماعية ليس في العراق فحسب بل في جميع البلدان التي تسعى للنهوض والتقدم فكانت مبادئه السامية ومواقفه المشرفة نبراسا تهتدي به الاجيال جيلاً بعد جيل.
ولد الشيخ محمد باقر ابن الشيخ جواد بن محمد بن شبيب بن ابراهيم بن صقر البطائحي الشبيبي في النجف الاشرف سنة 1889 في بيت عرف بالفضل والعلم والادب وله سجل حافل بالمآثر والكفاح والوطني، وترجع هذه الاسرة (آل الشبيبي) في أصولها الى قبيلة بني أسد.
وكان الشيخ جواد والد الشيخ محمد باقر من علماء النجف الكبار وأدبائها الاعلام درس الفقه والاصول على يد جماعة من كبار الاساتذة كما كان في الرعيل الاول من ادباء العراق وشعرائه الكبار الذين سجلوا صفحات مشرقة في تاريخ العراق الحديث وقد ترك بعد رحيله ستة ابناء تخرجوا من مدرسته التحررية التي انطلقت ضد الحكم العثماني وممن حملوا السلاح بوجه الاستعمار البريطاني فألهبوا النفوس وشحذوا الهمم في سبيل استقلال البلاد وحريتها، وهؤلاء الابناء الستة هم الشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ محمد باقر الشبيبي ومحمد جعفر ومحمد علي ومحمد حسين ومحمد رشاد؛ وسنقتصر في الحديث عن ثاني أنجال الشيخ جواد ألا وهو الشيخ محمد باقر الشبيبي والكشف عن أبرز الجوانب المشرقة في حياة هذه الشخصية الفذة.
كانت النشأة التي نشأها الشيخ محمد باقر الشبيبي قد عبّدت له الطريق لأن يتربّع على منصتي العلم والادب فالبيئة والمحيط اللذان عاشهما قد تكفلا بصقل مواهبه وجعله علما من أعلام البلاغة والبطولة فبيته كان عبارة عن مدرسة يقصدها كثير من طلاب العلم والادب للتزود من علومها وآدابها، اما رائد هذه المدرسة فهو والده الشيخ جواد الذي يقول عنه الاستاذ علي الخاقاني في (شعر الغري/ جـ2): فصيح بليغ، لغوي مؤرخ، حسن المحاورة، جيد المحاضرة، فطن ذكي ذو ذهن وقّاد وفكر نقّاد وكانت داره العامرة يتدافع اليها طلاب آثار الكوفة الحمراء وطلاب اللغة العربية والآداب والحديث والتاريخ، حيث يتلقون منه ما شاؤوا من الآثار، فللأديب فيها مايغنيه عن (كامل المبرد)، و(أمالي القالي) وللنحوي مايزهده في كتاب سيبويه، وللشاعر مايصقل ديباجته ويجدد له معناه، وللمؤرخ مايرشده الى مواطن التحقيق ومظان التدقيق.
في مثل هذه البيئة العلمية والأدبية نشأ الشبيبي كما كان للمحيط النجفي أثراً كبيراً في صقل مواهبه ونضوج عقليته فهذه المدينة المقدسة الباسلة كانت مصنع الابطال والثوار ولها سجل حافل بالبطولات ومقارعة الاحتلالين العثماني والانكليزي، فشب شيخنا وفي نفسه تختلج المشاعر الوطنية الصادقة والحس النبيل.
وقد شهدت له صفحات المجلات العربية والعراقية بذلك منذ شبابه المبكر فسجلت له مجلة العرفان الصيداوية والمنهل القدسية والمقتبس الدمشقية ولغة العرب البغدادية والمقتطف والمنار والهلال والرصافة ودار السلام والرقيب وغيرها كثيراً من القصائد والمقطوعات الشعرية التي نددت بالاستعمار العثماني وحثت على الثورة ضده فمن قصيدة له نشرها عام 1911 يقول:
اذا ماالجيد زانته عقودٌ مرصَّعة بلؤلئِها النظيم
فلست ارى عقود الدر زيناً بجيدك بل عقوداً من علوم
ألست من الألى كرموا وطابوا وقد صعدوا لأفلاك النجوم؟
ألم يهززكِ تاريخٌ مجيدٌ ألم ينهضك للدين القويم؟
كما كانت له وقفة شجاعة ضد دعوة الحكومة العثمانية الى (تتريك) البلاد العربية فانتفض فيه العرق العربي في قصيدته التي احدثت ضجة كبرى وأوغرت صدر السلطة العثمانية عليه وجعلها تتعقبه وكان مطلع القصيدة:
أأبناء هذا الشرق تعساً لشرقكم أما فيكم إلا ابن خائنة غمرُ
فطالب موظفو الدولة بمحاكمة الشبيبي وإنزال العقاب به وتأديبه بدعوى انه طعن في شرف امهاتهم، أما الشبيبي فقد ذهب الى (الشطرة) التي له فيها أقارب واصدقاء كثيرون وقد اجريت له محاكمة وقررت المحكمة انتخاب العلامة محمود شكري الآلوسي خبيراً وقد دافع الآلوسي عن الشيخ الشبيبي وبرّأه من التهمة.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الاولى ونزلت الجيوش البريطانية الى البصرة وهُزم الجيش التركي كان شاعرنا في الشطرة فبينما هو يفرح بجلاء الاحتلال العثماني الذي جثم على أرض العراق لاكثر من أربعة قرون بقوله:
أبينوا لي التحقيق إني لفي شكٍّ فهل طهرت أرض العراق من الترك؟
فاذا به يسوؤه قيام الانكليز باحتلال العراق بكامله ويؤلمه وضع العراق الجديد وما آل اليه أمر البلاد من الاحتلال الجديد
يامأتم الوطن الممزّق بالحديد وبالحدودِ
انا ترقّبنا الهلال يلوح في افق السعودِ
واذا المناحة في البلاد تقام في القصر المشيدِ
بعد اقامته في الشطرة اكثر من سنة ونصف تعرف خلالها على عشائر هذه البلدة ووقف على احاسيسهم الصادقة نحو الحرية والاستقلال، عاد الشبيبي الى مسقط رأسه (النجف الاشرف) ليبذل جهده في واجبه الوطني وليسهم مع ابناء مدينته البطلة في ثورتها ضد الاحتلال البريطاني تلك الثورة التي كبدّت الانكليز خسائر مادية كبيرة وحطّمت معنوياتهم؛ فكان الشبيبي يفيض حماسة ونشاطا حيث لعب دوراً مهما مع اخوانه الثوار في الاتصال بعدد من علماء الدين في النجف الاشرف ليوقعوا على رسائل تتضمن المطالبة باستقلال البلاد وحملوا هذه الرسائل الى كربلاء لتوقيعها من قبل علماء الدين فيها ولا يخفى مالهذا العمل من مجازفة وما تحف به من مخاطر في ذلك الوقت العصيب ولم يقتصر هذا النشاط على كربلاء والنجف بل امتد الى بغداد والكاظمية والبصرة وغيرها من مدن العراق وقد أتى هذا النشاط ثماره بافساد خطة الاحتلال بتنصيب السير بيرسي كوكس ملكاً على العراق كما أسهم الشيخ محمد باقر الشبيبي مع صحبة بتنظيم عرائض من جميع انحاء العراق موضحين ما أجمع عليه الشعب بعد استفتاء عام وقرروا إيفاد الشيخ محمد رضا الشبيبي – شقيق الشيخ محمد باقر – الى الحجاز وسوريا لشرح ماجرى في العراق وبيان ما اتفق عليه قادة الشعب. فقال مودعاً أخاه
بروحي من أَم أُم القرى وعرّج فيها على جلّقِ
فتى ساءه ان يرى في البلاد غريباً يعبث فلا يتّقي
فتى فضّل العزّ في قفرةٍ على الذل في بلدٍ مونقِ
فتى لم يرقه هوان العراق فجازف في شرخة الريّق
وفي ذلك الوقت تأسست جمعية حرس الاستقلال الهادفة الى تحرير العراق من براثن البريطانيين فانظم اليها الشبيبي وكان في مقدمة اعضائها البارزين وزادت نشاطات هذه الجمعية واتسع نطاقها وكثرت اجتماعاتها المنددة بالاستعمار وبخاصة بعد قيامها بمظاهرات كبيرة احتجاجا على قرار مؤتمر (سان ريمو) القاضي بجعل العراق تحت الحماية البريطانية فسارعت السلطة المحتلة بالقاء القبض على بعض زعماء هذه الجمعية فلم يجد البقية منهم بداً من الهرب وكان من بينهم الشيخ محمد باقر الشبيبي لكنه عاد الى النجف الاشرف مع انطلاق الشرارة الاولى لثورة العشرين وبادر لتنظيم وسائل النشر والدعاية وتوجيه الرأي العام وذلك باصداره (مناشير) يومية يذيع فيها اخبار المناطق الثائرة ويقدم التوجيهات التي تهدف الى خدمة الثورة ونجاح مخططاتها وقد عبرت تلك التوجيهات التي لا يمكننا نشرها لطولها عن روح الشبيبي الكبيرة ونفسه المخلصة لوطنه وايمانه بعدالة قضيته ولم يكتف الشبيبي بإسداء تلك النصائح فأصدر جريدة خاصة تحمل اسم الفرات لتكون لسان الثوار الاحرار والمعبر الصادق عن اهداف الثورة الوطنية والرد على اكاذيب الاستعمار ودسائسه كما قامت بنشر اجوبة رجال الدين الاعلام وفتاواهم ومراسلاتهم وخطبهم وقد حققت تلك الفتاوى اهدافها في رضوخ برطانيا لمطالب الثوار
ومن نشاط الشبيبي في مقارعة الاحتلال البريطاني وقوفه بوجه آراء الحاكم البريطاني العام، وكانت له كلمات وقصائد كثيرة نددت بالاحتلال وادت الى اعتقاله مع عدد من زملائه الثوار بعد احباطه خطط الانكليزي الميجر (بيتس) الداعية الى الانتداب البريطاني على العراق، وعندما اطلق سراحه كانت الجماهير تستقبله في بغداد وانتخب عضواً في المجلس النيابي الذي أقيم في العهد ممثلاً عن لواء المنتفك، وكما هو عهده في مقارعة الاحتلال البريطاني فقد سجل له تاريخ العراق السياسي الحديث صفحات بيضاء انعكست فيها مواقفه الجريئة في محاربة الظلم والفساد الإداري فكان أنموذجاً أعلى للبرلماني الصريح الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، ففي قصيدة نشرها في جريدة النهضة يوم 30/ 11/ 1929 يندد بالانتهازيين فيقول:
أ نوابنا قرب البرلمان فلا تبق اصواتكم هامدة
ولا نفع للشعب في مجلس عواطف نوابه راكدة
وهذي ستنفض مثل اختها وتبقى مساعيكم الخالدة
كأن انتخاباتنا اصبحت منافعها لكم عائدة
افي الحق ان يستظام الضعيف جهراً واعينكم شاهدة؟
يذاد عن العدل قسراً كما تذاد الجياع عن المائدة
كما ندد بالذين عاثوا بأموال الشعب وراحوا يبنون بها القصور
بربك ما هذي القصور؟ لما تبنى؟ ومن أين هذا المال تخزنه خزنا؟
بربك هل ابقيت للعدل حرمة؟ وللحكم اذ افسدت صورته، معنى؟
كان الالم يعتصره وهو يشاهد بعد هذا العمر الطويل من الكفاح لهذا الشعب ان تصل الحالة به الى ضياع حقوقه وضياع آماله بمن تصدر لادارة الحكم في البلاد
وما شرف الاوطان الا سياسة قضى حكمها ان لا نعود كما كنا
وما افسد الاخلاق الا جماعة ترى الخُلق العالي الدناءة والجبنا
أساءت الى روح السياسة عصبةٌ الى الآن لم تدرك سياستنا الحُسنى
بنينا وأنشأنا ولكن غيرنا يخرب ما كنا بنينا وانشأنا
وهكذا يستمر الشبيبي صادعاً بالكلمة الحرة والموقف الشريف والمبدأ السامي بعد ان انحرف اكثر السياسيين عن مبادئهم، اما هو فقد بقي أمينا وفياً صادقاً في خدمة امته ووطنه فكتب كثيراً من المقالات في صدور الصحف (الزمان) (نداء الشعب) التي تدعو الى الاصلاح السياسي والاجتماعي وتوحيد الصف
بلادك والدسائس حافزات ميادين معبدة وسوح
بلادك اصبحت وطناً مريباً واكثر ما يريب بها يلوح
تمر بها الحوادث آمنات ومن يدري اتغدوا ام تروح؟
فحادثة يجللها سكون وحادثة قنابلها تطيح
ظلام في سياستنا مخيف وظلم في ادارتنا قبيح
حملناها مظاهر كاذبات تقنعها البراقع والمسوح
ولم يقتصر على الاصلاح السياسي في شعره، بل دعا الى الاصلاح الاجتماعي، ففي قصيدته (هذبوها) والتي نشرها في مجلة (العرفان) الصيداوية بعددها (آب) 1930 دعا لانصاف المرأة وتعليم الفتاة وجعلها اهلاً لتحمل مسؤولياتها في الحياة:
هذبوها فانها بشر لكمال الحياة تفتقر
النواميس بينكم شرع فهي انثى وآخر ذكر
الكي تستحيل حامضة في زوايا البيوت تدخر؟
وادوها وحقها غمطوا ربي رحماك انهم كفروا
زعموا انهم بذا ربحوا ولا وعينيك انهم خسروا
اهملوها واي مدرسة اهملوها لو انهم شعروا
مشعر الطفل من مشاعرها ولإحساسها بها اثر
كما عالج كثيراً من القضايا السياسية والاجتماعية في شعره التي اعطت صورة حية عن حقيقة الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الفترة يقول الاستاذ خالد الدرة في مجلته (الوادي) في عددها (15) الصادر 18 /6 /1960 عن الشبيبي: انه فريد بين الادباء وحري بالدراسة العميقة، لا بين ادباء العرب فحسب بل بين ادباء العالم)
توفي الشبيبي يوم 7/6/1960 فانتهت بموته مسيرة نضال وكفاح وانطوت صفحة مشرقة من تاريخ انسان لم يعرف الراحة في سبيل الحرية الوطنية والعدالة الاجتماعية والسياسية، يقول الاستاذ عبد القادر البراك في جريدة (الاهالي) يوم 10/6/1960 تركت وفاة الشيخ باقر الشبيبي موجة من الالم في نفوس الكثير من مقدري ادبه وفضله ومساعيه في خدمة الشعب والوطن واعادت الى الاذهان صوراً من كفاحه خلال الثورة العراقية التي اصدر خلالها جريدة الفرات التي تنطق بلسانها وتعبر عن اهدافها وتنقل الى الشعب اولاً باول ما حققته من انتصارات في المعارك التي خاضها هذا الشعب ضد المستعمرين كما اعادت الى الاذهان مواقفه في الاحتفالات الوطنية وفي المجلس النيابي وما كان يتناقله الجمهور
من روائع ابياته في مقارعة المستعمرين واعوانهم وفي تصوير ما كان يعانيه الشعب من الآلام وختم مقاله قائلاً: (ان الشيخ باقر الشبيبي من شعراء العراق الافذاذ في العصر الحديث، وان الخسارة الكبيرة بفقده لن تعوّض بغير نشر ما خلف من آثار وخاصة ديوان شعره الذي يصور فترة هامة من تاريخ كفاح الشعب العراقي في سبيل الحرية والاستقلال)، اما جريدة الحضارة فكتبت تقول: (كانت معاني الحياة تتفتح في فمه كالزهرة المعطرة تحمل شذى النور والحب والجمال) ثم في ختام المقالة قالت (لم يكن الشيخ محمد باقر الشبيبي وجهاً كسائر الوجوه التي تظهر ثم تختفي ولا يبقى منها سوى لمحات خفيفة تذوب بعد ايام قليلة وانما كان وجها من الوجوه النيرة التي يشع بها تاريخنا الحديث وساعدا من السواعد القوية التي بنت هذا التاريخ ودفعت في وريده الدم الجديد).
http://www.aladwaa.nl/modules.php?name=News&file=print&sid=3857